Skip to main content

Full text of "سيرة أمير مبعد مولاي هشام العلوي"

See other formats


مولايَ هسام الِعَلويْ 






مه 0 
سيرة أميرِمُبكد 
المغرب لناظره قريب 





57 


16-02-57 








حق وق الترجمة العربيّة محفوظة لدارالجديد 
المطليعة الأولى. ٠١١6‏ 
عنوان دار الجديد: دارة محسن سليم» حارة حريك. لبنان 


هاتف ١ 0075٠060‏ لكو 
طلغعم. عع طلء © لعع21[30 
978-9953-11-098-1 15811 


جميع الحقوق محفوظة لدار غراسيه وفاسكيل 
4 ,ع !اع سومة ع أعددةر© عدون زل8 © 


صَدَر هذا الكتاب.في طبعته الفرنسيّة تحت عنوان: 
أمتمدظ8 ععومعط دنال امسكتامل 

35426 ع1 ,112 ة تع نآ 

لنامقاة 1[ مسقطعتاط جد1ننه831 

نقلهإلى العربيّة: أحمد ابن الصديق 

قوم الترجمة وأصلحها: قلم دار الجديد 


حقوق صورة الغللاف محطفوظة لدار غراسيه. 
14 ,أ55ة1 0 © ذتافط 1ل : عانااتء 001037 مأحطط )0601 


الفكر الجديد 


لى المغاربة بدون 
إ 


2 


لصت 


افر الجديد 0 
21 


الفهرس 


مقدمة خاصضة بذدار الجديد 


تمهيد 


الفصل الأوّل 

الفصل الثاني 
الفصل الفالث 
الفصل الرابع 
الفصل الخامس 
الفصل السادس 
الفصل السابع 


شكر وتقدير 


5ك المغرب لناظره قريب 


١ 


5١ 

3/ 

7و١‏ 
انضرا 
تففا 
5١‏ 
يخس 


2-5 


7 


<كجكر 


افر الجديد 0 
21 


مقدمة خاصّة بدار الجديد 


مع صدور النسخة العربيّة من كتابي سيرة أمير مبعد أعود إلى بيتي 
الحضاري وإلى كنف اللغة العربيّة. 

يصدر الكتاب من لبنان» بلدي الثاني» الذي وسمء جوار المغرب» 
هويّتي. أقدّم هذا العمل إلى القارئ العربي شاكرًا إيّاهِ استقباله لي 
تحت سقفنا المشترك. 


إن الظروف الراهنة في العالم العربيّ قد لا تبدو مشْجّعة» 
فليبيا تغرق في الفوضى والاضطرابات؛ اليمن يعيش عذابات 
الحرب الأهليّة التي تمدّدت وصارت حريًا بالنيابة بين القوّتين 
الإقليميّتين السنيّة والشيعيّة؛ وهذا أيضاء ومنذ خمس سنوات 
مصير سوريا التراجيديٌ» حيث ترفع الخلافات الجيوسياسيّة 
مستوى الرهانات. أمّا مصر فبعدما كانت ميدان تحريرناء 
أراها تتخندق وتُعيد إلى الأذهان مراحل الحكم السلطويٌء 
بينما بلدي المغرب ينهج سياسة تقوده خطوة خطوة إلى وضع 


<كجكر 





صعب للغاية. بدورهما الجزائر والأردن» كل منهما على طريقته 
يضححي بالمستقبل مفضّلًا الجمود الذي نُضَب دين دولة في 
معظم بلاد الخليج. 

تونس هي الاستثناء الوحيدء فهي تقاوم يومًا بعد يوم ماضيًا 
ديكتاتوريّاء لبناء مستقبل تتشارك فيه جميع القوى السياسيّة 
الحكم. هذا البلد الشقيق هو أملنا بأن لا تبقى الديمقراطيّة 
العربيّة شريدة في بلادنا. 

أمام هذا الواقع» أتفكر في تلك الحقيقة المرّة التي قالتها عائشة 
الحرّة» والدة آخر سلاطين سلالة النصريّين» لابنها أبي عبدالله 
الصغير وهو يلقي النظرة الأخيرة على قصر الحمراء يوم سقوط 
غرناطة في الثاني من كانون الثاني (يناير) 2١497‏ بعد مكوث 
العرب سبعة قرون في جنوب إسبانيا: ”لا تبك مثل النساء مُلكا 
مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال“. فشل الربيع العربئ مناسبة 
لكي نسائل أنفسنا أفرادًا وجماعات. 

من جهتي أرفض الأجوبة السينكيّة. نعم لقد حلمنا ”بحماسة“ 
بحسب عبارة كارل ماركس مررنَا ثورات ١84/‏ التي شهدت 
ولادة الديمقراطيّات الشعبيّة في أوروباء بيد أنها انتهت في هذه 
البلاد حيث عادت النظم السياسيّة القديمة إلى سدّة الحكم. 
لاء لست أنا من يسخر من ثورات تويتر ومن تغريداتها القصيرة 
ولا من ثورة 7٠١‏ وكأنها صفران. ليس صحيحًا أن شهيّتنا قد 
سبقت أسناننا. برغم كل انتكاساتهاء للراغب في معرفة أسباب 


<كجكر 


فشلناء أن يعود إلى كتاب معنى النكبة لقسطنطين زريق» الصادر 
عام م14 .١9‏ 

النكبات قديمة» واستخلاص العبر ممكن. أكيد» ولكن بمحاذرة 
خيبات الأمل وبحماية النفس من الغضبء فهو أسوأ مستشار 
لمن أراد التغيير. إِنّ الديمقراطيّة ليست معادلة بسيطة قائمة 
على الجمع بين حماسة الشباب ووسائل التواصل الاجتماعيّ 
لبلوغ الهدف المرجوٌ. صحيح أنّ 6 مخ مدخ سكان 
العالم العربيَ لا يتجاوزون الخامسة والعشرين» ويتواصلون 
أفقيّاء عبر شبكات التواصلء لا عموديًا وبشكل تراتبيَ. لكنّ 
اندلاع الثورات في القرن الواحد والعشرين ليس عملا غوغائيًا 
أو تجمّعًا مرتجلا فاجأ السلطات الحاكمة. فالثورات بحاجة 
إلى قيادات وإلى مؤْسّسات وإلى استراتيجيّات وخططء إضافة 
إلى دعم شعبيّ يتجاوز التضامن الافتراضيّ. 

واحدة من العبر المؤلمة التي بانت ‏ منذ أن أضرم محمد 
بوعزيزي النار بنفسه في السابع عشر من كانون الأوّل (ديسمبر) 
0٠‏ هي أن الدولة كما المجتمعات المدنيّة في بلادنا هما 
خطان معو ازيان لآ يلتقيانه و أن الي والغعي لا يلتقيان أيضا: 
كلّما التقيتٌ فردًا من أفراد تلك النخبة التي رحبت باندلاع 
الربيع العربئ» يدهشني غياب منطقه الاقتصاديٌ. تمامًا كما 
حدث أيَام استقلالاتناء حيث خضع المطالبون لنا بحكم ذاتيٌ 
لمنطق السياسة السياسيّة» أي لتوهّمهم بأنَ مملكة الحريّة وبعصًا 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بحري بتحارهم من من استبداد الواقع. بيد أنْ ذلك لا يحدث. 
في بلادناء لن يتخلّى أصحاب المخصّصات,ء ولو قيد أنملة عن 
امتيازاتهم ليخاطبوا الشعب؛ فالأسواق لا تعلق قانون العرض 
والطلب وخاصّة أنْ هذا القانون مغلوط بحمايات من فوق. 
أخيراء وعبرالأزمنة» عوض أن يحتلناء أخضعنا الخارج لديون 
أرهقت كواهلنا. فالامبراطويّة العثمانيّة والشرق الأوسط أخضعا 
للمصارف الغربيّة أكثر من إخضاعهما للجيوش الأجنبيّة. 

برغم قتامة المشهد السياسيّ أرى بصيص نور. فمنذ أن أخذ 
مواطنون في العالم العربيّ يطالبون بكامل مواطنيّتهم: أرانا قد 
فظغنا شوطا لأرحعة عنه, لمعاهدة سايكس_ بيكو بيع تريظاتيا 
وفرنسا عام 5١591١(وضعت‏ اليد على الثورة العربيّة بعدما كانت 
قد شبّمعت على اندلاعها) طارت اليوم شَعاتًا. والأنكى من 
ذلك, أن الولايات المتحدة ة لن تتمكن بعد اليوم من التحكم في 
مصائرناء فبعدما ألقى باراك أوباما خطابه المرحعىّ الشهير في 
الرابع من حزيران (يونيو) ٠٠١5‏ في القاهرة» الذي بنى عليه 
سياسته دون أن يتلقظ ولو لمرّة واحدة بكلمة ديمقراطيّة, فقد 
الرئيس الأميركيّ مصداقيّنه. كائئًا من سيخلف الرئيس أوباماء 
فأداة التحكم عن بعد في مصير العالم العربيّ لن تكون بيده أو 
بيدهاء بسبب الاندحار من العراق وتبديل الموقف في سوريا 
وردود الفعل العنيفة في ليبيا والتوافقات مع إيران و الرضوخ 
للأمر الواقع في مصر والخليج. 


1 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


فالاستشراق ‏ هذا الهاجس الغربيَّ الذي حلله إدوار سعيد 
آخذ في الاضمحلال أمام أعينناء ولعل طيفه الأخير تجسّد في 
الربيع العربيّ» كآخر صحوة له؛ موكدًا أن الواقع قد نفل المنطق 
الوحدويٌ. هذه الوقائع وطنيّة بلا منازع؛ لا بل خاصّة بكل بلد 
ولا صلة لها بالعروبة ولا بالإسلام بمعناهما الجامع. لن اهن 
في ركب المنظرين؛ وهم كثر اليوم؛ المعتبرين أن الحدود التي 
رُسمت بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة ستمحى أو سيعاد 
رسمهاء. هذا ممكة بيد آنه غير مراكد. فهل ترافن الصراعات 
الحاليّة على إعادة رسم حدود الدولء, أم على إعادة صياغة 
جغرافيّتها البشريّة؟ هذا التغيير الديمغرافيَ هو تغيير في أصول 
الصراع, ”فالشعب هنا هو ساحة المعركة". 

إن متتحلي صفة الدولة الإسلاميّة» تلك التي قامت بين العراق 
وسورياء سبّاقون في ادّعاء تحرير رجال ونساء وأطفال المنطقة؛ 
بيد أنهم في الواقع يضححون بكلّ الأقليّات الاثنيّة والدينيّة. 
المعروف أن الإسلام السياسي يلعب دورًا أساسيًا في ”الثورة ضد 
التاريخ“ » وهي نظريّة روّجها المنظرون الإسلاميّون لاضطهاد 
الإرادات الحرّة والتفكير المستقل لتفسيرهم المتزمّت للدين. 
إنهم يُخضعون الدين لتفسير أحاديء مما يسفر عن فظائع مقرّزة 
يذهب مسلمون آخرون ضحيّتها. هذه المجازر المرتكبة باسم 
الإسلام ترمي ظلالها على دين أفقد بريقه الحضاريّ وصفاته 
الحقّة: التسامح و قبوله الآخر. يستحيل اليوم مثلّا أن تعود إلى 


2 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


الشرق إيزابيل إيبرهارتء التي زارته في مطلع القرن العشرين 
تحت اسم محمود السعدي, وكتبت مؤلفها الشهير في أفياء 
الوسلام الدافئة. 


فلنعد إلى كتابي. في الصفحات التالية كلام كثير عن المملكة 
المغربيّة. على نقيض ذلك, إن انتمائي إلى دار الملك بالولادة 
جعلني قادرًا على وصفها ووصف مخزنها القيّم على إرثها 
الاقتصادي والعقاري» فمقابل ولائه السياسيٌ يحصل المخزن 
دفعته للالتحاق بالركب السنىّ مقابل مخصّصات نفطيّة» أشبه 
ب”مغانم“ تقدّمها إليه دول الخليج. فمنذ الانهيار الاقتصاديٌ 
خريف 27٠٠١/‏ تبدو هذه النعم ثروة بالنسبة إلى الأثرياء الجدّد. 
للوهلة الأولى» للناظر إلى مشهد ما بعد الربيع العربيّ» يبدو أن 
المغرف قد ادن القخلص هو أثهاته: بيراغة تفكدت الملكية 
العلويّة من عقد انّفاق مع حزب العدالة والتنمية» وأعضاء 
الحزب إسلاميّون معتدلون» دعتهم الملكيّة للمشاركة في 
الحكومة لاستيعاب غضب الشارع. بعملية تجميل دستوريّة 
لحقتها إصلاحات شكليّة منعت الطريق على حركة ٠١‏ شباط 
(فبراير)» التي تُعتبر اليوم تاريجًا مجهضًا. فهذه المساكنة بين 
القضر و إسلامتيهع تغمة قذيمة تُعرف ياآلات جعديدة . يا لسخرية 
الموقف! فالاشتراكيّون الذين قبلوا المساكنة من قبل هم 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


معارضو اليوم؛ والاتحاد الاشتراكيّ للقوّات الشعبيّة» كما القصر 
يطمحان أن يصيرا رهطا على غرار حزب العدل والإحسان. 
لا تبدو حسابات حزب العدالة والتنمية سيّئة» وإن كان رئيس 
الحكومة عبد الإله بنكيران لا يملأ مركزه. صحيح أن تبديل 
النظام كما وعد الاشتراكيّون من سابع المستحيلات؛ إلا أن 
حزب العدالة والتنمية انضمٌ إلى الدولة بنزاهة مشهودة له تتفوّق 
على أقرانه. 

بمودّة من يعرف من أين تؤكل الكتفء يبدو عبد الإله بنكيران 
شعبويًًا متواضعًاء يوحي لأصحاب رؤوس الأموال وللطبقة 
المتوسّطة بالثقة» علمًا أنه يكرّر على مسامع الجميع مشيرًا 
باتجّاه الملك : ”لست صاحب القرار“. لذا فيوم ستقع الواقعة 
بين أنصار الملك و مؤيّدي التغيير» ألن يكون عبد الإله بنكيران 
في الموقع المناسبء فاصلًا بين الطرفين» ولو اقتضى الأمر إيجاد 
خط ثالث للخروج من المأزق نحو المجهول؟ 

لم يفٍ الربيع العربيّ بوعوده الديمقراطيّة. 

لربّما وبسبب موقعي, أجدني أفهم أن الحريّة الحقيقيّة يراها من 
يعرف ما يحتاج إليه الناس» ولا أعني فقط الحاجات الأساسيّة 
من ماء وكهرباء... بل حاجة الشعوب إلى التعليم» وإلى رؤية 
واضحة وطويلة الأمد تؤلف معادلة رابحة. في الصفحات 
التالية ألخ على حاجتنا إلى أن نوْسّس على القديم جديدًا رافضًا 
الشعبويّة والإسلاميّة وكلٌ انقضاض عنيف على السلطة. أطالب 


١ 0‏ مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بعقد اجتماعيّ جديد» يجري التفاوض عليه بحريّة بين الملك؛ 
أي الشهب» ومكليه الا انتبعد أي احتمال ولا حتى زوال 
السلالة التي أنتمي إليهاء أو دورًا جديدًا تاريخيًا للملكيّة المغربيّة 
في كنف ديمقراطيّة لم أتوقف عن المناشدة لقيامها. 

صراحة؛ فاليوم أكثر من أمسي القريب» حين ختمت مخطوطي» 
يزداد إيماني بمغرب بِدّل رأسًا على عقب أساليب حكمه. 

إن انكسار الحركات المطلبيّة الشعبيّة لا يعد من غنائم ملكيّة 
محتّطة. لا بل على النقيض من ذلكء اليوم وبعكس التيّار وبلا 
ضغط الشارعء فلتعط المطالب لأصحابها كي لا تُوْخذ في الغد 
عَنوةَء معطلة استمرارية الدولة وكل ما اكتسب منذ الاستقلال. 
لسوء حظهم, فالمدافعون بأظلافهم عن امتيازاتهم مرشّحون 
أكثر من غيرهم للرحيل» وهم يراهنون على هذه اللحظة. وكم 
كان عبد السلام ياسين» الأب الروحيّ لحزب العدل والإحسان 
مصيبًا حين أعلن عام ١9184‏ في رسالة مفتوحة» أن الملكيّة 
المغربيّة تضاعف خطرٌ نهايتها: الإسلام أو الطوفان» وهذان 
بالطبع لا أتمتاهما لبلدي. 

لكل هذه الأسبابء ألّفت كتابي. 

بعد صدوره في فرنسا في نيسان (أبريل) 4ه حاصرتني 
حملات الترهيب نفسهاء ملاحقات وتشهير» وهذا ما اعتدته. 
هذا الحصار الاستخباري لم يلجم مبيعات الكتاب,» الذي تبوّأ 
لوائح أفضل المبيعات برغم انتشار طبعة مقرصنة إلكترونيّة» أظنّها 


5 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بتوقيع الأجهزة المستاءة من حسن نجاحه. والتي أتمتّى أن تكون 
قد خدمت القرّاء المغاربة» الذين لم يتمكنوا من الحصول على 
الكتاب. بكلّ الأحوال» لقد وجد الكتاب مكانته بين المنشورات 
المرجعيّة الخاصّة بالمغرب. ثم وفي مطلع عام 250١©‏ أكد 
لي حسن استقبال كتابي وقد ترجم إلى اللغة الإسبانيّة» أن هذا 
التمرين على الحقيقة يزدهر حيث يكون السجال حوًا. لأسف 
لا مقارنة بين بلاد السجالات الحرّة وحكم محمّد السادس» 
الذي اشتهر بسياسات البين بين. صحيح أن لا رقابة رسميّة» بيد 
أن مبيع الكتاب في المكتبات غير واردء أي إن الرقابة الذاتيّة 
تحلّ محل المنع- ما عطل تداول الأفكار على الساحة العامّة. 


مولاي هشام العلوي 
نيسان (أبريل) ٠١1١©‏ 


1 ١7 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


افر الجديد 0 
21 


هه 


لمهيد 


رب سائل: أي شيء أنْ يكتب الواحد كتايًا؟ 

ورب مُجيب: إنما الكتابٌ عقد ثقة بين مؤلف وقارئ. 

وإن سلَّم المرء بهذا الجواب فليطمئنٌ أن التعاقد على الثقة هو 
من صفات هذا الكتاب الموسوم بتوقيع أمير مغربيّ. وإن يكن 
أن يُشَاطرَ سَليل أسرة ملكيّة أَهْلَهُ مواطني المغرب» ومن ورائهم 
مواطني العالم؛ أفكاره وذكرياته سابقة في تاريخنا العريق؛ فإِنَّ 
لضمور أدب البؤح في بلادنا أسبابًا وأسبابًا لا تمت في كثير 
منهاء في رأبي المتواضعء بصلة إلى ما يُنسب للملوك والأمراء من 
تكبّر ومن تعجرف في تعاطيهم مع أولئك المقيمين والمقيمات 
خارج المشور السعيد. حضن السلطة الملكيّة. *) 

* المشور في المصطلح المغربئّ هو الحيّ الذي يقوم فيه القصر الملكي وسواه 


من مؤسسات الدولة ومنازل الأعيان. 
19 1 
الفكر الجدبد 


<كجكر 





حين يُقدم كاتب شاءت له الأقدار أن يُولَدَ أميرًا على الترجمة 
أشياء كثيرة ولن يرفع من الأستار إِلّا الأقل» وهو ارتياب في محله. 
في ما يعنيني لم أبادر إلى ذلك ارتجالا. فلقد خمّرت الفكرة 
ا 
0 
تنتقد أحدهم هناك, أو أخرى تُفشى سدًا هنالك. قد يحاولون» 
ولكنّ الصغائر الكثيرة التي ذقتها علّمتني أن لا أردٌ عليها بالمثل. 
ليس هذا ما عقدتٌ العزم عليه! بل في الصفحات التالية أقترح 
على القارئ وصفمًا دقيقًا وصريحًا لدهاليز ومنعرجات نظام 
مُبْهّم؛ صفيق الشفافية» ويّكره الوضوح. فأعرافٌ القصر الملكيّ 
المغربىّ قائمة على إنزال التورية منزلة القمّة من البلاغة. وبناء 
عليه فالخنوع في قاموسها صنو المرونة؛ وتراجع المرء ء عن 
مواقفه منتهى الحكمة. 

فيما يخصّني» اخترت الصراحة والوضوح منهجحا: لست الأمير 
الأحمر وليس محمّد السادس ملك الفقراءء والخمسة عشر عامًا 
الني قضاها في الحكو نقيت ما اقول . أمَا لقب الأمير الأحمر الذي 
أطلق عليّ» فبدعة من بِدّع الإعلام أريدٌ منها صورتي؛ حيث إنني 
لم أكن يومًا شيوعيًا أو اذ شتراكيًا ولَسْتٌ» من حيث المبدأ» بمعاد 


١‏ 1 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


النظام الملك. كذلك لم أكن يومًا أميرًا نمطيًا. بناءً عليه لا أراني 
أستبعد بالمطلق فكرة التخلي عن الملكيّة الشريفة ‏ إذا ما اكتملت 
لدي القناعة ‏ أنها لا تعود بالنفع على المغاربة» أو أنها تقف عائقًا 
أمام المضئ نحو الديمقراطيّة والازدهار وسيادة القانون. 
للتبخحر في هذا الموضوع الأساس كان هذا الكتاب. فأنا متأكد 
اليوم أن ساعة تفكيك المخزن”2- السلطة التي تدّعي التقليديّة 
والتي تجمع عيوب الاستبداد الشرقيّ وطغيان البيروقراطيّة 
الموروثة من الإدارة الاستعمارية ‏ قد دقت. 

لست جمهوريًا حتّى الرمق الأخير ولا ملكيًا بالمطلق. ولا 
أستبعد أن أتخيّلني أحيانًا مواطنًا في ظل جمهوريّة مغربيّة» إن بدا 
أن هذا النظام السياسيئّ هو أفضل الخيارات لبلدي. أمّا إن تبدّى 
أن النظام الجمهوري ليس الخيار الأفضلء فإِنّ التمسّك بالملكيّة 
سيحتاج إلى إعادة هيكلة هذا النظام على أسس جديدة وسليمة. 
لنقاش هذه الأفكار انطلقتٌ من السؤال التالي: ما الذي يستطيع 
نظامنا الملكيّ؛ كشكل من أشكال الحكمء تحقيقه لبلدي» أي 
للمغرب؟ ما هي ميزات هذا النظام؟ ولا ضَيْرَ في سياق تاريخيّ 
معيّن أن يأتي الجواب نافيا عن النظام الملكىّ صلاحه؛ لكتّني» 
«** المخزنء في العربية المغربيّة» مصطلح يُحيلُ إلى النخبة الحاكمة الدائرة في 
َلك الملك (أو السلطان سابقًا). كذلكء فالمخزن يتألف من البلاط وحاشيته 


ولكنه يضم أيضًا كبار العسكريين والأمنيين وزعماء القبائل إلخ... بدأ بروز هذا 
المصطلح خلال عهد السعديين مطلع القرن السادس عشر. 


0 11١ 
الفكر الجدي‎ 


<كجكر 


في الوقت عينه, أنا الشاهد على الربيع العربيّ» أرى أحيانًا أن 
للملكيّة في المغرب منافع؛ أي إِنْ لها ”دورًا تاريخيًا منتبًا“ 
لاستيلاد ديمقراطيّة بأقل أكلاف بشريّة وأقل نف ممكن. على 
هذه الأفكار المؤْسّسة بنيتٌ كتابي. 

كيف ذلك؟ بأن أبوح بحقيقتي الكاملة كإنسان وأمير» وعلى 
القارئ أن يتقبّل مني هذه الحقيقة» جزئيًا أو كليّاء ما دُمتٌ قد 
لْرّمْتٌ نفسي بعقد الثقة المبرّم بيننا. بل أذهبٌ إلى أبعد في 
الصراحة: لا أريد من أحدء مغربيًا كان أم صديقا للمغرب» أن 
يأخذ جانب الدفاع عنّي وعن مصلحتي, بل أن يفعل دفاعًا عن 
مصلحة المغرب. لق لشت مرشْحًا لأيّ منصب أو موقع ولا أسعى 
لأن أت تبوّأ مركرًا يتبَوّوه اليوم سواي. في الوقت نفسه. لن ألجمّ 
طموحاتي في خدمة بلدي. فإذا كان السير على طريق الملكيّة هو 
من أجل الجميع, وفي مصلحة الجميع؛ فأنا قطعًا مع هذا الخيار. 
الثاني ما له وما عليه» ومن أبرز ما عليه ضيقه بالاعتراض وبالرأي 
مده 2د 0 
ا “سنوات 
الرصاص" الذين دفعوا بأجسادهم, أحياناء أكلاف مواقفهم. 


ف 3 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لقد صَقَلت شخصيّتي معارضتي للحسن الثاني» وبهذا المعنى فأناء 
بلاريبء ممتنّ له. أما على المستوى العام فلا بد من الشهادة له 
أيضًا بأنّه بعد سنوات طويلة من الاستبداد ومن السلطة المطلقة» 
محاطًا بحاشية متملّقة» استطاع» على نهاية عهده؛ عندما أدرك أن 
العالم قد تغيّر بعد الحرب الباردة» أن يغيّر من مسار كمه وتوبحة 
نحو الانفتاح» وفي هذا برهان على أنه كان ملكا قديرًا. وعندما 
تولّى محمّد السادس مقاليد الحكم عام ١1359‏ صَارَّحْتُهُ متمتيًا 
عليه أن يسمح للمغاربة بأن يباشروا مسيرة التحوّل من رعايا إلى 
مواطنين» وبأن يتخلى النظام عن شيء من سلطويّته وأن يفرّغ 
”المخزن“ من محتوياته» مما يعني دمج الثروة الملكيّة في الثروة 
الوطنيّة فيعود النهر إلى منابعه. 

لقد شكلت هذه المواضيع وما تزال اختبارات حقيقيّة بالنسبة 
للملك. فأي عقد جديد بين الملك والشعبء أو أي ميئاق ملكيّ 
جديد أو عقد اجتماعيّ جديد» سيعني حكمًا نهاية ”المخزن"» 
وليس من قبيل الصدفة أن تكون جذور كلمة مخزن في استعمالات 
أخرى تحيل إلى الأعمال التجاريّة» وليس إلى العمل السياسي. 
لقد جاء ردّ الفعل على كلامي هذا بأن مُنعت من دخول القصر 
0 - عيقرت مرق الصور الرسمية. 44 أن تقابل 
د _- ... فا لهم ولهذا الطموح! 


رف 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


مع مرور الوقت تأكل ادّعاؤْهم» تهافت ما زعموه» ولكن مع 
تهافت هذا الزعم تصاعدت الكمائن والمكائد التي حيكت 
ضدّي والتي يكشف هذا الكتاب عن بعض من تفاصيلها. كان 
ذلك وانتهى الأمر بي مطلع كانون الثاني (يناير) 2,53٠٠١57‏ أن 
قرّرت وأسرتي الاستقرار في الولايات المتّحدة» ولقد كان هذا 
الخيار موقُقًا وليس من عبث أُنّني كلما تفكرت فيه تذكرت مقولة 
ميخائيل غورباتشوف وهو يرى الإمبراطوريّة السوفياتيّة تنهار: 
”إن العالم واسع وسع رؤيتنا له“. 

لقد ساعدني الابتعاد الجغرافيّ على أنْ أردٌ الأمور إلى نصابهاء 
وعلى أنْ أدرك حجمها الصحيح, وعلى أن أمضي قَدُمًا. 

بعد أن عملت في خدمة الأمم المتحدة في كوسوفو؛ واصلت 
مسير تي الأكاديميّة لي اقيق مق أعرق الجامعات الأميركيّة: 
برينستون وستانفورد؛ ثُمٌ أنشأت معهد البحوث عن العالم العربيّ؛ 
وفي عام ٠٠٠١‏ أنشأت مؤسّستي» وهدفها التفكيرٌ بمالاتنا. في 
العام نفسه انضممت إلى اللجنة الاستشاريّة للشرق الأدنى وشمال 
أفريقيا التابعة لمنظمّة ”هيومن رايس ووتش»“": كما حقّقت عددًا 
من النجاحات المهنيّة في الأعمال والمشاريع التي أطلقتها في 
ميدان الطاقة المتجدّدة. مقول القول؛ لا أسف يراودني على شيء 
ولا ضغينة في نفسي على أحد. أرض الله واسعة» وقد وجدتٌ 


لنفسي» تحت الشمسء موقعًا ومكانًا ملائميّن» وعلى غرار ما 


55 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ساهع عي في بلورة شخصيتي: فإِنّ ابن عتني ساهم في تقويتهاء 
فلهما مني جزيل الشكر والامتنان. 

إن الحقيقة تستحق دائمًا أن تُقال. منذ خمسة وعشرين عاماء في 
ظل الحسن الثاني» ثم محمّد السادس من بعده, لم أفتأ أعبّر عن 
حال بلادي بصراحة ووضوح؛ لا خلسة ولا تورية ولا تامرّاء 
بل بلسان صدق ووجه مكشوفٍ على شاشات التلفزة وفي 
المحاضرات واللقاءات الدوليّة وعلى صفحات الجرائد. 

في صيف 230٠١١‏ دافعت عبر قناة ت. في. ٠‏ الفرنسيّة عن فكرة 
أفكار إصلاحيّة تعيد إلى الدستور مكانته التي يحط منها ما يحوط 
بالملكية من ”حقٌّ إلهِي “» وأضَفْتُ بأنّ التسويف لَنْ يُجدي وأنّه 
من المستحسن الشرو ع بإصلاحات هيكليّة تدفع المفاسد وتفتح 
الباب للتطلع إلى المستقبل. 

بعد أربع سنوات» وفي مقال لي نشرته صحيفة الجريدة الأخرى 
المغربيّة» تدخحلت في النقاش الذي أثارته نادية ياسين ‏ ذات 
التوبّحه الإسلاميّ ‏ حيث أعربت عن ميلها إلى قيام نظام جمهوري 
بالمغرب, وانطلقتٌ من المبدأ القائل إن الإسلام لم يقيّد الحكم 
لل ل 0 

عندها عَلَْتَ الأصوات مستنكرةً جرأتي على النظام الثيوقراطيّ 
كأنّنا لم ندخل القرن الواحد والعشرين بعد» ومما زاد في علوٌ 
نبرتهم ضدّي أنني كتبت عن ضرورة إدماج الإسلاميّين في 


١ 6‏ مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


المنظومة السياسيّة, معتبرًا أن العقد الاجتماعيّ المقبل إِنّما سينبثق 
كت 0 

اليوم تحقّق ذلك, (جزئيًا كما يحدث عادة في المغرب)» ولا 
مَنْ يستنكر ولا من يحزنون. نعمء اليوم أصبح للقصر إسلاميّوه! 
أمَا في عام ٠٠٠١٠‏ حين دعوت إلى ضرورة مشاركة الإسلاميّين 
في الحكم, أي إلى تجاوز بوتقة ”المخزن“ الضيّقة» وإلى إقامة 
تحالف جديد مع كثرة اختارت الإسلام السياسيّ منهجًاء دوّت 
الاعتراضات ونودي ب”يا للعار ويا للفضيحة”“. هكذاء من الأمير 
الأحمر صرت أميرًا أخضرء وتجتّدت صحافة السلطة واتّهمتني 
بممالأة الإسلاميّين زاعمة أنْني أسعى» بكل السبل» لحشد 
الحلفاء والأنصارء للانقضاض على العرش. لم يكن ذلك سوى 
إعادة إنتاج لمنطق المؤامرة» بيد أثني في الواقع؛ وبكل بساطة» 
لم أفعل يومها سوى أن عبّرت عن موقفي من قضيّة أساسيّة تعلق 
يحسكقيل التكرب: 

لحسن الحظء كتب لي أن أعيش وأن أرى الربيع العربي» ففي 
المغرب». يوم ٠١‏ شباط (فبراير) 2750١١‏ اجتاحت شوارع 
بلدي حركة استوحت اسمها من تاريخ ميلادها. رسميّاء 
انتهت هذه الموجة من الاحتجاج في الأول من تمّوز (يوليو) 
0١‏ بموافقة /4/ من الناخبين على الإصلاح الدستوري 
الذي أقرّه الملك تحت الضغط. فلتُعرض عن الواقعة الرقميّة 


5 0 
الفكر الجدبد 


<جكر 


بأن 2/7 فقط لم يرضوا بالإصلاح الدستوري الذي اقترحه 
الملك! هنا لا يسعني إلآ أن أوبّحه البحئة ”لأنبياء الشوار ع“ 

الذين هتفوا بالحقائق جهارًاء وأن عرب عن امتناني لكل 
أولئك الشبان الذين زعزعوا أركان القصر وأيقظوا مواطنيهم 
من السشبات الذي كانوا فيه بين يدي حالة يعتبرونها غير مثاليّة 
ولكنّها مقبولة» ولو موقّناء إذا ما قورنت بديكتاتوريّة الحسن 
الثاني الحقيقيّة. 

لطالما حاولت مخاطبة هؤلاء القانعين بمصيرهم عن ضرورة 
الإصلاح, ولكنّ صوتي كان خافتًا قبل الربيع العربيٌّ: ففي 
المغرب» يتعايش انفتاح وهمىّ مع سلطة مركزيّة خانقة» ولكن 
هذا التعايش مكلف لأنْ الوقت المهدور في تأخير الإصلاحات 
يزيد احتمالات العنف» وهذا ما عبّر عنه الفتان الكوميديٌ الساخر 
بريز (أحمد سنوسي) الذي تقاطعه قنوات التلفزة الوطنيّة بقوله: 
”إن المغرب قد تحوّل من بلد مريض إلى قاعة انتظار لثلاثين 
مليونَ مغربيّ“» وأحيانًا إلى قاعة مغادرة لحفنة من المحظوظين؛ 
وفاطن يأس لقوارب الهجرة غير الشرعيّة. 

هنا لتقي مع الديمقر اطتين في المغرب, وأحُتلف مع”الاتتظارئين“ 
على تنوّع قناعاتهم؛ سوا أقَطَنوا القصر أو الفيلات البرجوازيّة؛ إن 
الجمود والاحتقان مُكلفان ويضيّعان فرصًا كثيرة على بلادنا. فما 
ندفعه اليوم هو من تقاعسنا في الأمسء, وهكذا دواليك. وما لن 


3" 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ننجزه اليوم سنعجّز عن إنجازه غدًا. شأني شأن الاف المتظاهرين 
الرافضين للوضع القائم» لن ألزم أريكتي في ما الباخرة التي تحملنا 
حجميعًا تغرق ببطء؛ حتّى لو بدا صوتي نشارًا قياسًا بسمفونيّة 
الغرق» فلن أكفٌ أردّد أن فرصة التغيير ما زالت سانحة. 

يتتقد هذا الكتاب نظام الملكيّة الشريفيّة» عل المغاربة ينون عنه إن 
كان هذا خيارهم؛ أو يكيّفونها لتوافق تطلعاتهم وما ينشدون. 
المرء بما يعرف وبذاكرته» وبما هو محفوظ فيهاء بانيًا على ما 
أعرف وعلى ما في ذاكرتي» سأحاول في الصفحات التالية أن 
أصوّر الملكيّة المغربيّة بأدق تفاصيلهاء وأن أسير بالقارئ في 
دهاليز البلاط المُحتمي وراء الجدران العالية التي تفصل بين 
الحاكم المطلقء أمير المؤمنين» ورعاياه. 

ليس في كتابي هذا نمائم تمس حياة أهل القصر, لكنّني لن أتردد 
في وصف عيوب النظام وتشوّهاته وسأروي قصّة حياتي داخل 
الأسوار وخارجها كي أبرز آليّة عمل الدنيا التي رأيت النور فيها 
وخرجتُ منها إلى العالم. 

بل قل إِنَِّي سأسعى إلى فك الخريطة الجينيّة للمخزن؛ مفضّلاً 
رأبي في التعديلات المطلوب إدخالها على هذه الخريطة لتنشأ 
ملكيّة برلمانيّة تحتضن تاريخنا وتتطلع إلى مستقبل حديث» 
ولن أسير على خطى هؤلاء بل أن أدع أثرًا ما يكون مساهمتي 
المتواضعة في ذاكرتنا المشتركة. إنَّ الحقيقة التي أشرك بها قرّائي 


8 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


من خلال هذه الصفحات بسيطة للغاية: شاء لي القدر أن أولد 
أميرًاء ثم سرعان ما أبعد الأمير مني عن قلعة السلطة لأنه شارك 
المغاربة همومهم وقضاياهم ‏ وفي الطليعة منها الديمقراطيّة ‏ 
التي؛ إن كتبٌ لها أن تكون نظام حياتنا الوطني» فستجعل من 
المغرب مملكة لنا جميعًا. 


58 
الفكر الجديد 


<جكر 


افر الجديد 0 
21 


الفصل الأول 
طفولتني في القصر 


أنا سليل أسرتين وبلدين عريقين: والدتي؛ لمياء الصلح» هي كريمة 
رياض الصلح. أحد مؤسّسي الدولة اللبنانيّة المتعدّدة الطوائف» 
وأحد مهندسي الاستقلال اللبنانيٌ . للتأكيد على أهميّة الأدوار 
التي لعبها رياض الصلح» ا الصحافيّ البريطانيّ باتريك 
سيل - مؤلّف كتاب النضال من أجل الاستقلال العربي» الذي نُشر 
عام 7٠٠٠١‏ -_عنوانًا فرعيًًا لهذا الكتاب ”رياض الصلح وولادة 
الشرق الأوسط“. حجدّي لأمّيء» هو صاحب فكرة الميثاق 
الوطنيّ» الذي نظم توزيع السلطات بين مختلف الطوائف في 
لبنان؛ هذا الميثاق برأيه» برعم من براعم عالم عربيّ متحرّر من 
ولد جدّيء رياض الصلحء عام 5 .١/5‏ درس القانون» وشارك 
في النضالات القوميّة» حيث ناضل أولًا في سبيل الاستقلال عن 


ا 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الإمبراطوريّة العثمانيّة» ثم في سبيل رفع الاستعمار الفرنسيّ. في 
الثامنة عشرة من عمره» سجنه الأتراك. لاحقًا حكم الفرنسيّون 
عليه بالإعدام غيابيًا حين اعتبروه محرّضًا عنيفاء أو كما سياه 
الجنرال غورو ”مدبّر المؤامرة الساعية إلى تحويل لبنان إلى نواة 
لامبراطوريّة عربيّة“. فى نهاية الحرب العالميّة الثانية» استقل لبنان 
واختير رياض الصلح رئيسًا للوزراء» فشارك في إرساء الهيكليّة 
السياسيّة للبلاد» وساهم في صياغة وتفعيل الدستور اللبنانيّ الذي 
جدّي رياض الصلحء مع شريكه في الاستقلال والحكم. أوّل 
الوطنيٌّ الذي يعتبر التفاهم غير المكتوب بين اللبنانيّين والناظم 
على ما قَدَّم لبلده أن يموت اغتيالا في عمّانء في السابع عشر 
من شهر تموز (يوليو) من عام 2١4651١‏ بتحريض من المستعمر 
البريطانيٌ؛ أو بحسب رواية أخرى؛ من طرف أحد القوميّين 
السوريّين. كانت ولادتي بعد خمسة عشر عامًا من اغتيال جدّي 
رياض الصلح. 

تعود أصول عائلة الصلح ‏ ومعنى الصلح معروف باللغة العربيّة 
ت إلى البرحوازية العثمانيّة الشرق أوسطيّة يوم لم تكن هذه 
الطبقة معروفة في العديد من بلدان المنطقة. كانت عائلة الصلح 
من العائلاات النافذة» ذات الجذور المتينة في لبنان» حيث شغل 


نض 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


خمسة من أفرادها منصب رئاسة الوزراء» ولها تشعّبات فى 
منطقة الخليج, لا سيّما ما كان من صلات نسب بينها وبين آل 
الصلح, ولاغروء فصلات النسب هذه ثمرة من ثمرات تحالف 
العائلات الحاكمة والقويّة. وهكذا فإِنَْ إحدى خالاتي كان- 
زوجة لأحد أبناء الملك عبد العزيز ال سعود. 

أنجب رياض الصلح خمس بنات. علياء البكرء الصحفيّة 
الملتزمة» المعروفة بمقالاتها الناريّة حول القضايا العربيّة 
المرأ أة. تزوّجت علياء امناضل , و والكاتب الفلسطينيّ اللامع 
تحلّ فى الترتيب لمياءء والدتي» ومن بعدها منى زوجة الأمير 
طلال بن عبد العزيز المعروف بمواقفه السياسيّة الليبراليّة غير 
المألوفة في السياق السعودي. ومنى هي والدة الوليد بن طلال» 
الأشهر من أن يُعرّف بين رجال المال والأعمال في العالم. أمّا 
بهيجة) الرابعة في الترتيب» فتزوّجت من سعيد الأسعد وهو 
الخمسة. من الوزير اللبنانيّ الراحل» ماحد حمادة نجل رئيس 
مجلس النوّاب اللبنانيّ مرّات عدّة صبري حمادة. 

جدّتي» زوجة رياض الصلح.ء وأمٌّ البنات الخمسء من أصول 
سوريّة» وتحديدًا من آل الجابري ‏ العائلة الحلبيّة المعروفة» 
وهذامايُفْسٌّر لربّما زواج إحدى بنات خالة أمي باللواء مصطفى 


لذن 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


طلاس الذي شغل» لمدة طويلة» منصب وزير الدفاع السوري؛ 
فكان أحد أعمدة نظام الرئيس حافظ الأسد. 

ترعرعت والدتي وأخواتها في ظل والدهنّ» رجل العائلة الوحيد» 
بعروداه تين لباق بن مدارة ا 
عائلة أميّ» ولعل الرجل الوحيد الذي يستحق الذكر هو تقىّ الدين 
الصلح؛ ابن عم والدهنّ» الذي حَدَّبَ عليهنَ حدب العم. يُذكر 
أن تقيَّ الدين الصلح كان قريبًا جدًّا من أبيهنَ رياض» وعمل 
مستشارًا له حتّى اغتياله» ثم اتتخب نائبًا في البرلمان اللبنانيّ 
وعيّن وزيرًا وأخيرًا رئيسًا للحكومة اللبنانيّة عامي ١91/7‏ 
و4/ا9١.‏ 

الطربوش التركيّ المائل ذات اليمين علامة تميّزت بها أسرة 
الصلح» ولكنّ هذه التقليدية في الملبس لم تحل دون أن تتلقى 
أمي وشقيقاتها تربية على الطريقة اللبنانيّة» أي تربية حرّة ومنفتحة» 
وكان من علامات ذلك أنهنَّ أتممن دراستهنّ حتّى أعلى 
ارات ري كا اراي فى اوتسوية 
أمَا والدتي» فتخوّجت من جامعة السوربون الفرنسيّة. كانت 
الأخوات فخورات بهويتهنٌ اللبنانيّة» واعتبرن أنفسهنَ سليللات 
جمهوريّة عربيّة منفتحة. رَعثْ جذتي» بعد وفاة زوجهاء بناتها 
ما استطاعت» فتحوّلت» حماية لحقهن في إرثه» إلى المذهب 
الشيعيّ» باعتبار أن المذاهب السنيّة توزّع إرث الوالد على 
البنات والأعمام عند غياب الشقيق الذكر. 


م 0 
الفكر الجدبد 


<جكر 


في عام 2١151‏ التقى والدي ووالدتي خلال حفلة بباريس. كان 
والديء مولاي عبد الله» شقيق ولي العهد المولى الحسنء يعد 
لاجتياز امتحان البكالوريا في مدرسة خاصّة بالعاصمة الفرنسيّة 
أمَا أمي؛ فكانت طالبة في جامعة السوربون. بعد التعارف الأوّل 
تكرّرت لقاءاتهما. أمّا الخطوبة» فتأخرت حتّى رافق مولاي 
عبد الله والده الملك محمّد الخامس في زيارة رسميّة إلى لبنان. 
يومها وافق الملك رسميًا على فكرة زواج ابنه لمياء» اللبنانيّة 
الخارجة عن تقاليد الأسرة المالكة. 

فزواج أحد أفراد الأسرة المالكة من خارج الأعراف مغامرة 
محفوفة بالمخاطر» ولكن محمد الخامس لم يرفض طلب ابنه» 
فحسم أمره ووافق. 


ولدمولاي عبد الله أبي» في شهرأيّار (مايو) ١3176‏ . صغيرًاء كان 
يناديه والده بسيد العزيز بينما كان ينادي ابنه مولاي الحسن وليّ 
عهده بسيد الصغير. يروى أنّ والدي كان لطيقًا وذكيًا ومرحاء 
ولكنّه في السابعة من عمره أصيب بمرض السل» فضعفت بنيته 
وأرسل للعلاج إلى مدينة فاس» حيث أقام أشهرٌ *اعدّة. أمّامولاي 
الحسن, فكان أكثر خشونة وأقوى بنية. ومما يتوارد في أحاديث 
العائلة أن ميحبد الخافس كان يدلا موالذي عبد الله كنيد العلينه 
أنه لن يجلس على كرسيّ العرش» ولقد ترثّب على هذا ما كان 
من خلل عاطفيٌ في العلاقة بين الشقيقين. مع مرور الأيام» تعمّق 


١ 6‏ مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الشرخ بينهما حَدٌ أن ترجم عن نفسه بما نما بينهما من مشاعر 
سلئة؛ كان غولايئ عيذ الله الاح المحبوزب للملك» وهولائ 
الحسن خليفته ومساعده. والدي يستمتع بالتزلج وبرياضة كرة 
القدم: بينما الحسن يتمرّن على الحكم وممارسته.ومع ذلك؛ 
وإلى جانب ذلكء كان هناك تواطؤٌ كبير بين الأميرين الشابّين 
وكان والدي يكن لأخيه الأكبر الكثير من المودّة والاعجاب. 

تريدٌ الرواية التي يتداولها عامة الناس عن اللقاء بين أبي وأمي 
أن ارتباطهما كان ننيجة قصة حبٌٍ انتصر فيها الوله على كل 
الاعتبارات الأخرى. فمولاي عبد الله شاب وسيم وسليل أسرة 
ملكيّة عريقة ضاربة في التاريخ. أمّا محبوبته» ففتاة من عائلة 
جمهوريّة» تلقّت تعليمها في الغرب» وسبقت بنات عصرها 
إلى ارتداء الفستان بدل الحجاب التقليديّ (ولو أن الأميرة للا 
غائشة حدق بدات محمد الخامس» شفر تعن وحهها وتخلت 
في الفترة نفسها أيضًا عن الحجاب في الأماكن العامة لتكون 
نموذجًا للمرأة المغربيّة». لا تخلو هذه الرواية التي تصوّر حبّهما 
كقصّة لقاء رائع بين المشرق والمغرب؛ من شيء من المبالغة. 
واقع الحال أن والدي كان بحاجة إلى فضاء جديد يتنشّق فيه 
هواء الحريّة» وينفلت من قيود النظام المغربيّ الصارم وتقاليده. 
كان لا يطيق ثقل ذلك المناخ النفسيّ. علّه أحسٌ بقرب رحيل 
والده» فخشي أن تصبح حياته في المخزن مستحيلة. كيفما 
كان الأمر فقد سعى» على بيّئة مما يفعل» أو عفواء إلى أن يوسّع 


ا 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


شبكة علاقاته الخارجيّة, لتكون له ملجاً وملاذًا يهرع إليه إذا ما 
اشتدٌ الضغط عليه. في نهاية المطاف, وهنا المفارقة» صبّت هذه 
العلاقات في صالح الحسن الثاني, لأنّه خلال فترة حكمه استفاد 
من الصلات ومن العلاقات التي حاكها 7 

في أوائل السبعينيّات من القرن الماضيء عُين والدي ممثّلا 
شخصيًا للملك الحسن الثاني» فوضع كلّ تلك العلاقات 
والصلات في لبنان والخليج» بتصرّف الملك. عندما تعرّف أبي 
على أمّيء كانت علاقته مع شقيقه الأكبر لا تزال جيّدة» ولكنّه 
روى لي» في بعض لحظات يأسه كيف شهد عاجرًا تدهور العلاقة 
بين محمّد الخامس ومولاي الحسنء ولا سيّما أن هذا الأخير 
كان صاحب مزاج حادٌ لا يتور ع معه عن مخاشنة الآخرين ساعيًا 
باستمرار إلى توسيع سلطاته. فكان محمد الخامس يشتكي من 
أن وليّ عهده يتفرّد بالرأي في أحيان كثيرة ويحرق المراحل؛ 
ولو أنَ مبادرات ولي العهد, في الأغلب» خدمت النظام وصبّت 
في مصلحة الملكيّة. لم تخلٌ العلاقة بين الأب وابنه من نقاشات 
صاخبة. إستشعر والدي الأزمات المقبلة وتوبحس شرًا من القسوة 
التي أبداها الحسن الثاني حيال الحركة الوطنيّة التي قادت البلاد 
إلى الاستقلال» ومن التقارب المفرط مع الغرب ‏ فرنسا وأميركا 
- دون مراعاة أن المغرب جزءٌ من حركة عدم الانحياز» ومن 
العالم الثالث... 

لقد كانت هذه المسائل في صلب العقد بين الشعب والعرش» أي 


ا :4 
الفكر الجديد 


<جكر 


ميثاق السلطة. في الحقيقة» لم يقتصر الأمر على ميثاق واحدء 
بل هناك ميثاقان في تلك الفترة: كان الأوّل مع الحركة الوطنيّة 
بينما الثاني وهو أوسع نطاقًا يشمل الأوّل ويتجاوزه إلى المجتمع 
المغربيّ ككل. بموجب هذا الميثاق الثاني» تكرّس الملك رمرًا 
لوحدة الأمّة» وأميرًا للمؤمنين يُجسّد التحام المواطئين كجسد 
مقدس واحد. في المقابل» كان على الملك الحرص على ما 
نسمّيه اليوم الخحكم الرشيد» الذي يعني» في السياق المغربيّ 
انذاك» عدم الاصطدام مع تعاليم الإسلام. 

كيف تحوّل محمّد الخامسء الملك الذي عاش مرارة المنفى» 
والذي أحبّه الشعب وطالب بعودته وتراءت للمغاربة صورته 
على سطح القمر من فرط رغبتهم بعودته» إلى محمد الخامس 
صاحب الجلباب التقليدي» المتنكر لتطلعّات الشعب وللحركة 
الوطنيّة؟ الأرجح أنَّ إدراكه أن الحفاظ على عرشه يقتضي هذا 
التغّر في الموقف هو وراء ذلك. لم تولد هذه القناعة لدى 
محمد الخامس بين ليلة وضحاهاء ولكنّها ترسّخت في ذهنه 
تدريجيًا. لقد أدمج الملك بعض أعضاء الحركة الوطتيّة في 
الجيشء» وفي الوقت نفسه.ء أمر باعتقالات جماعيّة. أمَا على 
الساحة الدوليّة فنأى بنفسه عن الخط السياسيّ المدافع عن 
العالم الثالث» وتودّد عمومًا إلى فرنسا وإلى الغرب. مع ذلك» 
فإِنّ من عايشوا تلك الحقبة يقرّون بأنَّ المهندس الحقيقيّ لهذه 
السياسة كان في الواقع ولي العهد. بعد أن أخمد مولاي الحسن 


1 ١ 
الفكر الجدبد‎ 


<كجكر 


ثورة الريف بمعاونة الجنرال أوفقير» تصاعد تأثيره على والده. 
حتّى إِنْ الكثيرين اقتنعوا بأنَ المعادلة السياسيّة في البلاد لا 
يُختصر بالملك وبالحركة الوطنيّة وبضرورة الاصطفاف وراء 
أخدهبا: ثقال» إن محيد. الشامرء“ضفكة العماثة: الجر احية 
التي توفي خلالهاء كان قد قبل مبدأ تقاسُم السلطة مع الحركة 
الوطنيّة» شريطة استمرار النظام الملكىّ» ولكن هذا القول يبقى 
افتراضًا نظريًا لا دليل عليه اليوم» يحتمل الصواب كما يحتمل 
الخطأ. لربماء لم يكن بقاء النظام الملكي بعد محمّد الخامس 
إلآ مجّد مصادفة تاريخيّة» على أنَّ الأمر المؤكد هو أنه بعد 
الوفاة المفاجئة لمحمد الخامسء كان على الحسن الثاني أن 
يجتهد كثيرًا لاستعادة العرش والحفاظ عليه. من هناء فلقد اعتبر 
نفسه رائدًا وزعيمًا لا وريئًا فقط. كما أنه في سجل الحسن الثاني 
أيضّاء أنه أوَّل ملك جمع بين الثقافتين العربيّة والغربيّة» قبله كان 
الملك يقتبس بعض عناصر الثقافة الغربيّة» ويدمجها في الثقافة 
المغربيّة. على هذه الخلفيّة حلق محمد الخامس لحيته وطلب 
من ابنته للّا عائشة» وهي في السابعة عشرة من عمرهاء في نيسان 
(أبريل) 2١5141‏ أن تخلع الحجاب. 

لم تتجاوز هذه المبادرات المجال الرمزي في سياق مغربيّ لا 
أكثر ولا أقل. على النقيض من ذلكء بادر الحسن الثاني إلى 
عمليّة انصهار بين الثقافتين لم تخل أحيانًا من الصعوبات. على 
سبيل المثال» فإِنَ ذوق الحسن الثاني فيما يتعلق بالملبس» لم 


كن 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يخل من بعض غرابة. كذلك فلقد كان دائم التردّد في اختياره 
للسيّارات وأصناف الأثاث» بل يمكن القول إن شيئًا ما في 
سلوكه كان أشبه بسلوك الأثرياء الجدّد الحريصين على المظاهر 
البتراقة. تعاظمت مع الحسن الثاني مظاهر البذخ الملكيّ؛ وذلك 
خلاف نا كان سائدًا في عهد محمد الخامس الذي كان ميّالا 
للبساطة. إن سعي الحسن الثاني إلى تقمّص دور الملك الشمس» 
وهو لقب لويس الرابع عشرء وتنقّله بين القصور دفعا بالبلاط 
الملكيّ. وبالتالي بالدولة» إلى دوّامة مفزعة من المصاريف 
الخياليّة» علمًا أن البذخ يجرٌ البذخ والتبذير يدعو للتبذير» ولكن 
هذا الخيار كان وسيلةً يتتزع بها مزيدًا من الشرعيّة» ويفرض بها 
حصورة وغييته. 

بعد موت محمد الخامسء انتشرت شائعات كثيرة عن ظروف 
الوفاة» ذهب بعضها إلى حدٌّ اتهام الحسن الثاني بتدبير تلك 
الوفاة. ما من دليل؛ حتّى اليوم على صحّحة ذلك» وبطبيعة الحال 
فإنَ التاريخ لا يُبنى على افتراضات وشائعات. وما قيل في وفاة 
محمد الخامس قيل أيضًا عن ظروف اختفاء المعارض المهديٌ 
بن بركة» الذي يعتقد البعض أنه كان باستطاعته أن يودي أدوارًا 
محوريّة في الحفاظ على التماسك بين العرش والحركة الوطنيّة 
والشعب. صحيح أن بن بركة كان ذا شخصيّة كاريزميّة» ولكتّني 
لا أعتقد أنه كان قادرًا حا على النجاح في هذا الدور. 

بعد وفاة محمد الخامسء» حاول البعض أن ينكروا على الحسن 


<كجكر 


الثاني جدارته بأن يخلف والدهء ومنهم من ذهب إلى حد 
التشهير به باعتباره ابنَا غير شرعيّ لوالده» ومنهم من حاول 
الإطاحة به. فكان من نتائج هذا التحامل على رجل طامح إلى 
إثبات ذاته وإلى ترسيخ شرعيّتهه فضلًا عن حاجته إلى العطف 
والمودّة» أن وجد نفسه محاصرًا. ولعلٌ إشعاره بالحصار كان 
خطأ كبيرًا دعاه إلى الرد بسرعة وبقسوة مفرطتين. لقد تعض 
الحسن الثاني لمحاولتي اغتيال» ونجا من كلتيهماء الأولى عام 
١ح‏ عندما هوجم قصر الصخيرات يوم احتفاله بعيد ميلاده؛ 
والثانية عام 2١91/7‏ حين استّهدفت طائرته البوينغ الملكيّة 
الخاصّة أثناء عودته من رحلة إلى أوروبا. خلص المحققون إلى 
أن بعض أفراد الحركة الوطنية متورّطون في هاتين المحاولتين 
الانقلابتتين» فكان الرد ما نتعارف على تسميته ”سنوات 
الرصاص“". إن التذكير بهذا التسلسل لا يبرّئ الحسن الثاني 
هذا أيضًا ما يفسّر أن الملك لم يقبل فكرة تداول السلطة» 
ومشاركة الأحزاب المتحدّرة من الحركة الوطنيّة في الحكومة» 
إلا بعد استنفاد جميع البدائل: حالة الطوارئ في المحل الأوّل» 
واستيلاد أحزاب معلبة أدّت دور الصمّام الذي حال دون انفجار 
البلد» أما حكومات التكنوقراط» فكانت لإيهام الناس أن إدارة 
البلاد تجري في منأى من التسويات والصفقات السياسيّة» ومن 
التلاعب بالانتخابات. أخيرًا لا بد من الإشارة إلى ما توسّل 


.6 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


به من لعب على وتر الانتماءات العرقيّة» ضمن لعبة فرّق تسد 
التي تجيدها الملكيّة وتتفئّن في توظيفها بامتياز... عندما رجع 
الحسن الثاني في خريف العمرء عام »١945/‏ خاطبًا ود الحركة 
الوطئة؛ كانت هذه الحركة متهكة مستركة» لآ نشيه زنسها في 
شيع كذلك لعله ين المقيك أن تسق الآمور بأسماتهاء وأن 
يسلّم المرء بأنّ مصطلح الحركة الوطنيّة يكاد اليوم أن يخلو من 
أيّ مضمون فعليّ. جل ما تُحيل إليه العبارة هو ذلك الشعور 
بالانتماء» والمصطلح هو نوع من استشعار معاني الأمّة وقيم 
المواطنة وسلوكيّاتها والاستعداد للتضحية من أجل المجتمع 
هذا مع العلم بأن المفهوم بحدّ ذاته يوشك أن يكون قد تقادم 
بالنسبة إلى الأجيال الشابة. 


في مطلع عام »١971١‏ وصلت والدتي إلى المغرب حيث عقد 
قرانها على والدي. نظرًا لغياب الوالد طلب محمّد الخامس 
موافقة جحذتي لأمي على هذا الزواج: ولاتمام المراسم بحسب 
الأصول الملكيّة» قام الملك أولًا بزيارتهاء ثم أرسل إليها وفدًا 
ضع في عداده عمّته للا أمينة وابنة عمّه للا فاطمة الزهراء. كما 
ضع بعض الأعيان البارزين» مثل الفاطميٌ بن سليمانء أَوّل رئيس 
للحكومة بعد الاستقلال» وشيخ الإسلام مولاي العربيّ العلوي. 
في 76 شباط (فبراير) 2١171١‏ توفي محمّد الخامس إثر العمليّة 
الجراحيّة البسيطة التي سبق ذكرها. وبرغم أنه لا أعراف محدّدة 


3 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


في هذا المجالء فلقد تقرّر أن تتم مراسم الزفاف بعد ستة أشهر 
من الحدادء أي في تشرين الثاني (نوفمبر) .١971١‏ لم ينزعج 
أبي من تمديد فترة عزوبّيته. أضف أن وفاة الملك لم تضع زواج 
أهلي على المحكء باعتبار أن ارتباط العلويّين بنساء من خارج 
بيئتهم وبلادهم, ليس بالأمر الاستثنائي. بل لا بد من الاعتراف 
لأجدادنا بأنهم عملوا على توريثنا رصيدًا جينيًا متنوّعًا. فمنهم من 
الإماءه وسوف أعود لاحمًا للحديث عن وضع الرقيق في البلاط 
الملكىّ؛ ومن فتوحات بعض أجداديء اقترانهم بإيرلنديّات 
وإنجليزيّات» لا يأتي التاريخ الرسمي على ذكرهن» ممّن سباهنّ 
النسوة محلا يُذكر؛ حرصًا على الحفاظ على صورة أصالة ثقافيّة 
لا تشوبها شائبة» أو قل على نقاء عرقي مُصفّى. أتذكر هنا حوارًا 
صحافيًا أجرته مجلة وجهة نظر الفرنسيّة مع الحسن الثاني؛ في 
هذا الحوار قال» دون الإشارة صراحة إلى والديء إنه لا يُحبَذ 
زواج الرجحل من خارج بيئته» ولكنّ الحسن الثاني نفسه؛ يوم أن 
ولدت للا سكينة بنت ابنته للا مريم وزوجها فؤاد الفيلالي» سحر 
بزرقة عينها وقال: ”لقد ورت هذه الزرقة من أمّ جدتها التركيّة“؛ 
قاصدًا والدة محمّد الخامسء متناسيًا أن والدة فؤاد الفيلالي» 
السيدة ان الفيلالي» إيطاليّة زرقاء العينين» بيت القصيد: متى ما 
حلا له الأمر أو وافق رغباته كان الحسن الثاني يتصرف على 


1 4 
الفكر الجديد 


<جكر 


سجيّته» ودونما راد ع» حتّى برصيدنا الجينيّ المتنوّع. 

بعد الزواج استقرٌ والداي في الرباط في منزل كان محمّد الخامس 
قد بناه في الأصل لسكن بناته. لاحقًا منح كل واحدة بِيئًا مستقلاء 
وأبقى هذا المنزل الكبير لمولاي عبد الله. يقع هذا المنزل على 
مسافة مئة متر من القصر في حي أكدالء وهو ما أتاح لمحمد 
عليه الحال مع مولاي الحسن الذي كان يقيم في مكان أبعد. 
في السنوات الأولى» كانت هذه الحياة الجديدة صعبة جد على 
أمي» ولقد اقتضاها بعض الوقت لتعتاد أن والدي ”مرفقٌ عام“؛ 
بمعنى أنه أمير له عاداته ونمط حياته والتزاماته» وهو الرئيس 
الرسمىّ لمجلس الوصاية» ومن ثم فهو مرشّح لممارسة الحكم 
في حال وفاة الحسن الثاني قبل بلوغ ابنه سنّ الرشد. لم يشغل 
والدي مناصب سياسيّة أخرى: بيد أنّ بيتدا ظل مفتوحًا حتّى 
للمعارضين؛ وأشبه بمضافة مفتوحة» وقلما ضمت مأدبةٌ غداء أو 
عشاء محصورة أقل من ثلاثين مدعرًا. لذاء حرمت أمي» ونحن 
معهاء من حياة عائليّة حميمة. 

أمَا السهرات واللقاءات الكبرى التي كان يشهدها بيتنا فلم يتدنَ 
وفتانين ورجال أعمال وعسكرّين... كان معظم هولاء الضيوف 
يقصدون والدي لطلب خدمة أو لرفع ملتمساتهم مثل الحصول على 
امتياز أو معاملة خاصة أو دعم سياسي. عجلة السؤال لا تنتهي» 


5 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ومعها عجلة إغداق النعم والمنح لا تنتهي أيضًا. كان منزلنا نسخة 
مصغرة طبق الأصل عن القصرء تسوده العادات نفسهاء ولو مع 
درجة أعلى من الدفء الإنسانيّ. وعلى غرار القصر عرف بيتنا 
الدسائس أيضًا... لم يخطر ببال مولاي عبد الله يومًا أن يقطع 
حبل السرّة الذي يربط بينه وبين القصر. في أية حال كانت 
للحسن الثاني وسائله الخاصة لتَسَقّط أخبارنا وللتدخل عن بعد 
متى ما اقتضت الحاجة. مرافقون من رجال درك وضبّاط شرطة 
مسرئولون عن سلامته» صعْبوا علينا العيش في جوّ عائليَ حميم. 

بطبيعة» الحال فإِنّ مرافقي والدي المسؤولين عن سلامته من رجال 
شرطة وسواهم لم يساهموا إلاافي خفض حميميّة بيتنا وأسرّيته. 

من نزلاء منزلنا أيضًا مجموعة من الجواري التركيّات اللواتي 
أهداهنّ الخليفة العثماني إلى عم جدّي السلطان مولاي عبد 
العزيز. وصلت هؤلاء الجواري إلى المغرب في صباهنٌ وعشنّ 
في الحريم ولم يغادرنه أبدّاء وَقَضَيْن برفقتنا خريف أعمارهن. 
كانت هؤلاء النسوة المتقاعدات يشغلن أحد أجنحة المنزل» 
وكنّا نشعر بهنّ كجزء من الأسرة. بطبيعة الحال» لم يعد أفراد 
هذه المجموعة يشكلن حريمًا بالمعنى الحرفيّ للكلمة» ولكن 
والدي كان يحرص على راحة الجواري التركيّات وغيرهنٌ 
من النساء اللواتي كانت لهِنٌ علاقة ما مع محمّد الخامس أو 
أسلافه. لقد عرفت هؤلاء الجواري السلاطين عن كنب» ومن 
ثم فلقد كان أقلّ المودّة أن تُصان كرامتهن. 


8 ّ مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كان لهذا الحريم خدمه ومطبخه الخاصٌء وكان أفراده لا 
يغادرن المنزل إلا لزيارة رفيقاتهن القاطنات في القصرء 
فيتقاسمن معهنّ الذكريات والحكايات القديمة. كذلك كان 
زوّارهن يقتصرون على أفراد قلائل من أقربائهن الألزم. كانت 
رعاية هؤلاء النسوة أشبه بإرادة عائلية لحمتها أولويّة التماسك» 
أي أنْ نمدٌ يد العون عند الحاجة بعضنا لبعض»ء في إطار ميزان 
قوى يضع من هم وراء جدران القصر في مواجهة من هم خارج 
هذه الجدران. وكأنَّ الحفاظ على هذه ”الكتلة الحرجة“ كان 
يعطي سكان القصر الانطباع بالقدرة على التأثير في الخارج. 
بعبارة أخرى كان أهل القصر يحتاطون بالخارج خوف التماثل 
معه والذوبان فيه. 

من أفراد هذا الحريم؛ ما زلت أذكر جيدًا كلّا من نجيبة وهاجر 
- ولا سيّما الثانية من بينهما- التي تعلّقت بها في طفولتي عاطفيًا 
إلى حدّ أسميتٌ معه إحدى بناتي هاجر. كنت في صغري أزور 
جناح الحريم وأحب مشاهدة صورهنٌ القديمة مع الملك 
أو السلطان العثماني. لقد كن يتحدّثن اللغة التركية والعربية 
المغربيّة» أي الدارجة» ويعزفن ببراعة على البيانو» وكان أبي 
يحبٌ أن يرافق هاجر غناءً فيما هي تعزف. كانت هاجر بالنسبة 
إليْ موئل سرٌ غامض دفين. كانت هاجر خليلة السلطان مولاي 
عبد العزيز المفضّلة» برغم أنه لم يباشرها إلا مرّة واحدة في 
حياتها! كلّ من في القصر يعرف أن شيئًا ما قد حدث في تلك 


.6 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الليلة» وأنْ هرجًا ومرجًا ساداء حتّى إِنّه نودي على الحرس... 
ولكنّ أحدًا لم يعلم تمام العلم ما الذي حصل... كانت أمي 
بين الحين والآخر تتودّد إلى هاجر عساها تصل إلى موضع 
السّر منهاء ولكنّ والدي كان يعترض على ذلك: ”دعوا عنكم 
عمّي وشأنه. لا تخوضوا في حياة العلوتين الخاصّة“. أمّا هاجر 
على العكس من هاجر الكتومة» كان أحمد» أحد الخدم يهوى 
التنضّت من وراء الأبواب» فكان يتجسّس على أبي» ولا سيّما 
متى كان في حديث مع صديق أو مع رئيس دولة أجنبيّة... ذات 
يوم فتح والدي الباب فجأة فسقط أحمد على قفاه وسط الغرفة 
في مشهد أقرب إلى ما يراه المرء في الأفلام الكوميديّة. غضبت 
أمّي لذلك غضبًا شديدًا وطالبت بطرده فورّاء ولكن والدي كان 
كان يريد أن يبلّغ الحسن الثاني بأمر ماء كان يكفيه أن يتكلم 
بصوت مرتفع؛ فيتيمّن من أن الخادم أحمد سيسرع برفع تقرير 
إلى القصر في اليوم نفسه. في المقابل» كان بعض خدم الحسن 
الثاني يُرْوٌّدونَ والدي بالمعلومات عن القصر. كان كل طرف 
يريد أن يعرف ما يجري لدى الطرف الآخرء وهكذا نشأ نظام 
المعلومات الزائفة للتضليل. 

لا زلتٌ أتذكر أيضًا الحلايقيّة (الحكواتية) الذين عاشوا بين 


437 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


طور اننا ركاترا يسحتريا بستكاراته طاذا انقوس ,واد نت مرق 
مثل الاستماع إلى حكاية قبل النوم. كان بعض هؤلاء الحلايقيّة 
قد خدموا لدى السلاطين مولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ ثم 
الملك محمّد الخامس. كانوا أصحاب ثقافة واسعة ودُعابة 
وصراحة تلامس الذلاقة. كان الحلايقي الأثير لدى أبي رجلا 
التقاه يومًا في ساحة جامع الفناء الشهيرة بمراكش. كان والدي 
يومذاك يتنزّه هناك متنكرًا عندما استوقفته حكاية مشوّقة. مساء 
اليوم نفسه, أرسل بسيّارة شرطة لتأتيه بالرجل ‏ وهذا بحد ذاته 
عرض عمل مغر لا يكاد يرد وصل باجلول إلى المنزل معتمرًا 
عمامة وبيده حقيبةٌ صغيرة» وهو لايدري تمامًا ما المطلوب منه. 
شيئًا فشيئًا راقه الأمر واستقرٌ في بيتنا وطاب له المقام وسرّ الجميع 
بوجوده» وسرعان ما أصبح الرجل مؤسسة قائمة بنفسهاء حتّى 
إذا ما دخل مُحجرة وقف الجميع لتحيّته. كان الحلايقيّ باجلول» 
خفيف الظل كارمًا للأقنعة. ذات مرة تأرّق والدي ساعة القيلولة 
فغضب باجلول وأشعل النور ثم فاجأ والدي بركلة وهو يصيح 
في وجهه: ”إسمع يا رجل؛ إنك تنص علينا عيشنا! إن كنت لا 
تقدر على النوم فهذا شأنك. لا ذنب لنا أن نشاركك معاناتك". 
إندهش الجميع لهذه الجرأة البالغة ولا سيّما أن كلّ واحد فكر 
في قرارة نفسه بهذا الأمر» ولكن كيف يجرؤٌ الرجل على ركل 
الأمير؟ مرّت لحظات حرجة ران فيها صمت ثقيل ثم انفجر 


الجميع بالضَّحك. 


3 1 
الفكر الجدي 


<جكر 


لقد أجاز الحلايقي لنفسه هذا التصرّف لأنه دخل بيتنا وكل 
ما يملكه جلبابه وظرفه» ومن المربّح أن يغادره يومًا وهو لا 
يملك إلا الجلباب» ولا سيّما أنه لم يسع للحصول على أي امتياز 
على الإطلاق. كان باجلول يجسّد ”المغرب الحقيقت“ أو البلد 
المثالي» وهذا ما عبّر عنه والدي يومًا حينما سأله أمام الجميع: 
”لم تطلب مني شيئًا أبدَا يا باجلول! ولذلك فأنا اليوم أسألك: 
”ماذا تريدني أن أمنحك؟ هل تريد مزرعة أم سيّارة؟ سَلُ وأنا 
سألتي رغبتك!“ تقاطرت النصائح والاقتراحات على الرجل 
من الحضور: ”قل أريد مزرعة!“: بل قل: ”أمهلني سأفكر في 
الأمر“... ولكن باجلول استدار بسرعة ونزع سرواله صارححا: 
”سيديء مشكلتي أنني أعاني من البواسير. إن كان لديك حل 
لهذه المشكلة؛ أكون لك من الشاكرين!“. 

كما في منزلنا كذلك في القصر حيث رعى الحسن الثاني فريقًا 
من الحلايقية ذوي اللسان السليط» فضلا عن جمهرة من الشعراء 
وعلماء الدين. بعد محاولتَئ الانقلاب في ١9171١‏ و977١‏ عانى 
الحسن الثاني أرقًا مزمئاء فطال ليله حبّى ساعات الفجر الأولى. 
كان يقضي ساعات الليل متصفْحًا الملفات القديمة والجديدة» 
منقبًا فيها. وفي أيّ حال فمن المعروف عنه هوسه بالتفاصيل. 
بسبب ساعات الأرق هذه., كان الملك يستيقظ حوالى الحادية 
عر صببائ] وكاقت لبعد ويسة العذاء قبل لة له يشلد إلبيا ال 
بعد الاستماع إلى شيء ممّا لدى حلايقية القصر. من خلال 


.5 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حكاياتهم؛ كان الحسن الثاني يُصغي للشعب البسيط ويلتقط 
مزاجه» وكان استمتاعه يحكايات هؤولاء يفوق استمتاعه بالأدب 
والشعر؛ وإلى حلايقية القصر وظف الملك فريقًا من الحلايقية 
لتسريب رسالئله إلى العالم الخارحي. 

أمَا في بيتنا فأراد والدي مما يروى له من حكايات أن تنقله إلى 
دنيا الخيال لا أكثر» وقد حدث أن تبادل الأخوان حلايقيّيهما على 
غرار مايتبادل واحدنا اليوم الشرائط السينمائيّة مع صديقه. عندما 
كان حلايقيّة الملك يأتون لزيارتنا كانوا يشاطرون والدي مائدته 
فيأكلون ويشربون ويلهونء كأنهم في عطلة أو في استراحة. على 
العكس من ذلك كان باجلول يعيش امتحانًا عسيرًا كلما أعير 
للملك. في إحدى المرات عبّر عن رغبته في العودة إلينا فقال 
للحسن الثاني: ”سيّدناء أستأذنك بالعودة إلى منزل أخيكء لأني 
هنا أشعر وكأني في مستشفى“. 

ولكنّ منزلنا لم يكن دائمًا محل استراحة وترفيه. ذات يوم 
خطرت لأبي فكرة مزحة غريبة» فلقد غطس في المسبح وبقي 
وكانا يعتنيان بالورود أنه غرق في المسبحء فخلعا ملابسهما 
بسرعة وقفزا في الماء لإنقاذه. بعد ذلك هرع كل من في المنزل 
إلى اقتفاء أثرهماء لأنّ أحدًا لم يُرد أن يُتَهم بأنّه تخلف عن 
إنقاذ الأمير من الغرق» وهكذا حتّى امتلأ المسبح بزهاء عشرين 
”منقلا" من بينهم ثلاثة لا يجيدون السباحة أصلا. لما عاد 


10 6٠ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


والدي إلى سطح الماء» وانتتهت الدعابة عند هذا الحدٌ لم يملك 
والدي إلا أن حسم أمره فضحك ممّا كان. 

عجٌ بيتنا بجمهور من الخدم والمحظيّات والعسكربين والحلايقيّة 
جمع بين أفراده دس الدسائس وحياكة المكائد. حين عيّن والدي 
”ممثلا شخصيًا“ للملك بين عامي ١91١‏ و1914 تحوّلت 
دارنا إلى ما يشبه المعرض الدوليّ» إن لم نقل إلى حديقة حيوانات 
إنسانيّة لكثرة الزوار وتنوّعهم. مهام والدي دعته إلى الاإكثار من 
السفرء وقد عاد إلى البيت» كل مرّة بشيء جديد» أو بشخص 
جديد. من بلد تيتو» عاد بطبيب شخصيّ يوغوسلافيٌ» ومن كوريا 
الجنوبيّة عاد بطبيب آخرٌ عسكري هو الدكتور لي» كما عمل في 
منزلنا مدرّبان على فنون الدفاع عن النفس قدما أيضًا من كورياء 
هما العقيد كيم والملازم باو لي, اللذان علماني في سن مبكرة 
الرياضة التي يتقنان. من باكستان عاد والدي ومعه ثلاثة ضبّاط 
باكستانيين في اللباس التقليدي» قال إنهم سيلتحقون بنا برتبة 
متارين وان ! كات مجاولة ننه لعقلنة المكون قلياةه ولكن 
منزلنا الذي استعصى على العقلنة والترشيد» استعصى على هؤلاء 
الوافدين» وعوض أن يعقلنوه تمخزنوا... 

فالدكتور لي» على سبيل المثال» وهو صاحب عضلات مفتولة؛ 
تحوّل إلى فرجة مُرَفهة حيث كان ليبهر الضيوف والزوار بغرس 
إبرة في عضلة ذراعه ويخرجها من الجانب الآخرء أو يستلقي 
تحت عدد من الألواح الصلبة ثم يطلب من سيّارة أن تمرٌ فوقه. 


١‏ 8 مكتبة 
الفكر الجديد 


<جكر 


أمَا أحد الضباط الباكستانيين الثلاثة فقد تخلى عن زيّه الباكستانيٌ 
مفضّلا عليه الجلباب المغربيّ وقرّر عدم العودة إلى بلده. ثم 
حدث أن بُترت ساقه من جرّاء حادث سير بينما كان يُمضي عطلة 
في اموا تطليي م رالادي اسماخ اعرد إلى المغرت 
لمواصلة العمل عندنا بدلا من البقاء مع زوجته وأطفاله. هل أدل 
من هذا على ما كان الرجل قد تمخزنه؟! والحق أن الشواهد 
على التمخزن لا تُعدٌ ولا ُحصى. ذات مرّةء وإذ كنا في رحلة 
إلى ولاية ميشيغان الأميركيّة نسوح بحماية مكنب التحقيقات 
الفدرالي» حاول خادمان يعملان لدى أبي استخدام خط خاصٌ 
للهائق ميدت من طرف غناضر الأمن الأمي ركثين» وقذ كتب علية 
هذا التحذير: ”مكتب التحقيقات الفدراليٌ. للاستعمال الرسمئّ 
فقط“. لما رأيتهما يحاولان ذلك حذّرتهما من مغبة عدم احترام 
القانون وربما من مغبّة تعرّضهما للاعتقال الفوري. في اليوم 
التالي» بجوار الهاتف المذكور, كان شرطيّ أميركيّ يلتهم البسطيلة 
المغربيّة الشهيرة» وسلاحه على الطاولة» وعلامات الغبطة بادية 
على وجهه؛ بينما الخادمان يتحدثان باطمئنان على الهاتف مع 
مراكشء والشرطي يقول لهما: ”لا عليكما خذا وقتكما“. حنّى 
الشرطيّ الأميركيّ لم ينج من المخزنة! لقد قبل أن يُضْحَيَ باحترام 
مفترض للقانون لقاء عصبيّة تتقاطع فيها المتعة مع تبادل للامتيازات 
وهي عصبية أقوى بكثير مما يمليه احترام المحرّمات. باختصار» 
لقد فهم الشرطي بسرعة البرق قاعدة المخزن الذهبية! 


١‏ 9 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في سياق الحديث عن ”المخزن“ و”التمخزن"» من المفيد 
الإشارة إلى أن أمي رغم عجزها عن تغيير عادات أبي» كانت 
منه الرئة التي يتنفس من خلالها. كانت ملاذه وحصنه الذي لا 
يستطيع الحسن الثاني اقتحامه بسهولة لعلمه بما قد يكون ثمن 
ذلكء؛ والحال أنه حاول وكان كلما حاول الهجوم على قلعة 
مولاي عبد الله تصدّت له لمياء الصلح ومنعته من ذلك. هكذا 
را 0 

ولكن الصراحة تقتضيني الاعتراف بأنَ جبهتنا الداخليّة لم تكن في 
أحسن حالء لقد كان تأنيب الضمير الذي يشعر به والدي نتيجة 
رتراك ات بدائعة عتووض بلتدهو الريك الساى لصمورة يا 
كانت والدتي تتشوّق لرؤية سلوكات والدي وتصرّفاته تترقى 
إلى معايير ومقاييس لم يكن هو قادرًا على الالتزام بها. في كثير 
من الأحيان كان يجول في جنبات البيت كسبع في قفص. لطالما 
رغب في المشاركة في إدارة المملكة؛ وفي أن يفرض حضوره 
على الحسن الثاني بدل البقاء و3 الهامش» وفي إشباع رغبته 
في إبداء المحبّة له والامتنان بيد أنه لم يفلح. كان هروبه إلى 
الأمام وفراره من الواقع وسيلتيه الوحيدتين للتخلص من العبء 
الذي يرزح تحته. وهكذا فكثيرًا ما استقل سيارته ومضى وحيدًا 
لتناول العشاء في قريته الواقعة في عين العودة» على بعد نصف 
ساعة من الرباط. 

كان لوالدتي وجهان: واحد عطوف حاضنء وثان» على غفلة منهاء 


ا 6 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


7 كانت تعاتب أبي قائلة: ”أنظر إلى أصدقائك ومعارفك» 
نظر إلى جوائز نوبل التي نالوها! إنهم رجال البلاط؛ متملّقون لا 
ملسي مده 
وبذكائها وبثقاقتهاء لا موفرًا مناسبة لاستعراضها بفخر من بد 
فوجدء فلقد كان يُنْهَكَ من صرامتها التي كانت تشعره بأنه رجل 
خامل لا حول له ولا سيما أن أحدًا من أهل القصر ما كان ليجره 
على أن يواجهه بما يشبه هذه الحقيقة! أما الحسن الثاني» فكان 
يلعب بمَكر على هذه الثنائيّة ني مستغلا دون تردّد كلّ نقاط الضعف 
لدى الآخرين حرصًا على إبقاء الجميع تحت سطوته. ومن ثُمٌ فلم 
يكن منه كلما رأى بوادر الوئام تخيّم على العلاقة بين أمّي وأبي» 
إل أن سعى لنسفها ولتأجيج الخصام بينهماء كذلك كلّما بدا له 
أن علاقتهما يسودها التوتر» عمل على الدفع بهما نحو المزيد من 
التوّرء كأن يهمس في أذن والدتي بأنه هو أيضًا يعاني غياب حسٌ 
المبادرة عند والدي؛ وأنه يطمح لأن يراه يواجه التحدّيات. 
في الواقع» لم يكن الحسن الثاني ليستسيغ أن يرى أي شخص 
سواة مسانا: كان مكرورا بتنسه» يتتنت إلبها تمكرا مطلقًا عن 
الآخرين» وربما نفحة من قبس إلهيّ. كان يرفض بشدّة أن يكون 
له نظير ولو أخََا أو ابنًا. كان الحسن الثاني لا يحبٌ إِلَّا نفسه. 
ومن فرط نرجسيّته واعتزازه بنفسه لَمْ يتقّل والدي كأخ له ولا 
ابنه كوليَ العهد. لقد مثّل والدي خصمًا محتملاء لأنّ العديدين 
كانوا يعتبرونه بديلا ممكنًا عن أخيه. الذي يجسّد في نظرهم 


ع 6 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


جناح المخزن الرجعي» ولا سيّما أن تصرفات الحسن الثاني» 
وخاصة عشقه لمظاهر الأبهة والعظمة. وإصراره على إذلال 
غيره» بدت وكأنها تنتمي إلى عصور غابرة. 


كانت ولادتي بالرباط يوم 4 آذار (مارس) ١174‏ في مستشفى 
ابن سيناء في غرفة أعدّت خصّيصًا لأفراد العائلة المالكة؛ أي في 
انسجام مع التقاليد المخزنيّة» التي كانت تصرّء بصرف النظر عن 
الرابط البيولوجيّ بين الطفل وأمه. على أن تكون تربية الأطفال 
شأن العائلة المالكة كلّها. كان القصر إِذًا لا يتور ع عن الاستحواذ 
على دور الوالدين. من ثم فلقد تربّيت أوَّل الأمر في أحضان 
مربئّات مغربّات مكلفات تلقيني القيم التقليديّة والتركيز على 
الجانب الديني» نم جاء دور المربية الإسبانيّة سيلسا هيرنانديز» 
التي تعلّقت بها تعلقًا شديدًا كالغريق بحبل النجاة. كانت والدني 
تثق بها ثقة كاملة» وكلفتها من بعدي تربية أختي أيضًا. كان 
فضلها علينا كبِيًا وخصوصًا أنها علمتنا الانضباط والدقّة. 
حضور المربّيات الغربيّات» في بلاط العلويّين» موسّسة بكلّ 
ما للكلمة من معنى. على غرار الكثير من المسلمين» كنا نعيش 
مهووسين بهذا العالم الغربيّ» الذي يتفوّق علينا ويهيمن؛ والذي 
نحلم بأنّ ننتزع منه يومًا قوّته السرّيّة. كذلك ساد الاعتقاد بأنه 
لا بدّ للطفل منّا أن ينغمس في الثقافة الغربيّة لكيلا تبقى أرض 
الإسلام متخلفة إلى الأبد. 


هه فو 
الفكر الجديد 


<جكر 


لم أكن قد بلغت الثانية من عمري عندما اختّطف المعارض 
المهدي بن بركة يوم 79 تشرين الأول (أكتوبر) ١575‏ بباريس» 
أمام مقهى ليب الواقع في جادّة سان جيرمان ديبري. منذ تلك 
اللحظة» ومهما اختلفت الآراء في الرجل» دخل المهدي بن 
كة في التراث المغربيّ بوصفه الغائب الأكثر حضورّاء أو 
العضو المبتور من جسد الوطن. حتى يومنا هذا ما يزال بن بركة 
الشبح المزعج الذي يحوم حول رفاقه والمَلكيّة سواء بسواء. 
وحتّى يومنا هذاء ما زال تغييبه يسكن الوجدان المغربىّ» وما 
زالت ”جريمة الدولة“» التي يمثّلها هذا التغييب في محل تذكرة 
أن حسابات الماضيء بما فيها التاريخيّة منها » لم تقطع بعد. 
كل ما يتعلق بالرجل يشكل موضوعًا سجاليًاء بما في ذلك ما 
اتهم به من التعاون مع الاستخبارات التشيكوسلوفاكيّة. والحال 
أنه حتّى لو سلّمنا بذلك جدلا فأين وجه الغرابة في سياق الحرب 
الباردة التي كان بن بركة قد اختار فيها معسكره علانيّة . ففي عالم 
كان يتقاسمه الغرب والشرقء لم يكن التعاون مع الاستخبارات 
التشيكوسلوفاكيّة أمرًا مستنكرًا من رجل جاهر بماركسيّته. 
تمامًًا على غرار الحسن الثاني» الذي لم يتردّد في استعمال جميع 
الوسائل لمحاربة أعدائه. 

يوم كنت طفلاء كنا نتجتّب الحديث عن بن بركة مع والدي 
وعمّي» ولكنني كنت أسترق السمع من وراء الأبواب. أيامها 
سمعت أبي يقول إنه لا يخامره شك في أن بن بركة قد قُتل على 


51 ك3 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يد الاستخبارات المغربيّة. لقد نشأتُ وفي ذهني رواية تداولتها 
همسًا أوساط السلطة مفادها: ”لقد جيء برأس بن بركة إلى 
الحسن الثاني“. سمعت هذه الرواية مرارًا وتكرارًا على لسان 
عدد من أصدقاء أبي المقرَّبين» أمّا مصدرهاء فالدكتور كليريه 
الطبيب الشخصيّ لمحمّد الخامسء ثم للحسن الثاني. 

لقد بات اليوم من المسلّمات أن اختطاف بن بركة شأن مغربيّ 
بامتياز. يبقى أن تتوضح ظروف مقتله وملابساتها: هل كانت 
حادثًا غير مقصود؟ هل أفرط المجرمون الفرنسيّون أو المغارية 
الذين كُلّفوا مهمّة اختطاف الرجل لإرجاعه للمغرب في تعنيفه 
فمات؟ أم أن الاغتيال كان أصلًا هو الهدف؟ إن هذه الشكوك 
حول الظروف والملابسات تخقف بعض الشيء من مسؤوليّة 
الحسن الثاني. ولكن إن صححت رواية الرأس المقطوع, فإن 
مسؤوليّة الملك تصبح كاملة لأن الرغبة في رؤية رأس الضحيّة 
تعني أن الجريمة كانت مدبّرة. بناء على معرفتي بالعلاقة التي 
كانت تجمع الدكتور كليريه بعائلتي» لا أرى من مبرّر لكي 
يختلق كليريه حكاية مرعبة من هذا القبيل ويرويها لأبي إن لم 
يكن متأكدًا من صححتها. 

كان الحسن الثاني يتحاشى هذا الموضوع وما زلت أذكر 
نقاشًا متونّوًا رافق مشاهدتنا فيلم مغامرات الحاخام يعقوب 
الذي يلعب فيه الممثّل الفرنسيّ الشهير لويس دي فونيس 
دور البطولة. كنت يافعًا آنذاك لا أملك سلطة على عفوية 


ا 9 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لساني» فقلت معلّقًا على الفيلم ”هذا فيلم عن المغرب!“. 
يومها استشاط الملك غضبًا وقال: ”لاء هذا ليس فيلمًا عن 
المغربء وقائع الفيلم تدور في الجزائرء ثم إنه لا نفط في 
المغرب“. الواقع أن إحدى شخصيات الفيلم مستوحاة من 
شخصية بن بركة» وما ساء مني الحسن الثاني هو إشارتي 
العلنيّة إلى تشابه الشخصيّتين. 

ما مدى مسؤولية الملك في قضية بن بركة؟ إن قصة الرأس 
المقطوع محرجة جذدَّاء ولكن التدقيق في صححتها رهن 
للمؤرّخين. في انتظار حكم التاريخ, فإن هذا الملف يبقى معلّقا 
بين الي والنشر أُوَّلُا لوجود عدد من الشهود الذين ما يزالون 
أحياء وثانيًا لأن الوثائق الفرنسيّة الخاصة بهذه القضية ما تزال 
محجوبة. لا شك عندي بأنّ الغموض سوف يتبدّد يومًا ما ولعل 
تبدّده لن يقدّم أو يوْخَر في ظل ما يتنامى من لا مبالاة وفي ظل 
تراجع اهتمام الأجيال الطالعة بشهيد اليسار المغربيّ وسيرته. 
في أيلول (سبتمبر) عام 2١177١‏ في السادسة من عمري» أرسلت 
إلى المدرسة المولويّة. والمولويّة مؤْسّسة تعليميّة مقرّها في مبنى 
متواضع داخل القصر الملكيّ» أو ما يسمى المشور. كان إنشاء 
المولويّة على يد محمّد الخامس في عام ١9147‏ لتقوم بتعليم 
ولديه» فالتحق مولاي الحسن بالقسم السادس والتحق والدي 
بالقسم المتوسط. كان أسلاف محمد الخامس يرسلون أبناءهم 


/ 6 مكتبة 
الفكر الجديد 


<جكر 


إلى العلماءء» لتلقي العلم الديني. كان قصد محمد الخامس من 
إنشاء المولويّة مزدوجحا: لقد أراد أن يُنشى موؤسّسة تعليميّة متميّزة 
ولكنه أرادء وفي الوقت نفسه أن تكون هذه المؤسّسة فضاء 
يلتقي فيه الأمراء بأطفال من أصول ومآت مختلفة» بحيث تكون 
المدرسة المولويّة عبارة عن صورة مصغرة للمغرب تعكس تنوّعه 
العرقيّ والاجتماعيّ والجهوي. من حيث المبدأء كانت فكرة 
جيّدة ولكنها للأسف كانت صعبة التنفيذ. صحيح أن الأطفال 
الذين تعلّموا أَوَلُا مع عمّي ووالديء ثم الذين تعلّموا مع ولي 
العهد والأمير مولاي رشيد ومعيء قدّموا إضافة حقيقية للأمراء 
من حيث تمثيلهم لمختلف شرائح المجتمع المغربيّ» ولكنء بما 
أنهم انثزعوا من وسطهم العائلي صغارًا فقد طغى على علاقتهم 
بالملكيّة طابع الخنوع والولاء المطلق إذ أصبحت منهم الملاذ 
الآمن والحصن الوحيد. إِنَّ انقطاع الوشائج بين هؤلاء وبين 
عائلاتهم وفضاءاتهم الأصليّة لم يجعل من عودتهم إلى عوالمهم 
الأصليّة أمرًا مستحيلا فقط بل حوّلهم إلى نوع من الإنكشاريّة في 
خدمة المخزن. في النهاية» لم يتحقّق الهدف من إنشاء المدرسة 
المولويّة» بل تفاقمت الأمور فيها عندما استفحلت سلوكيّات 
التذلّل تلدى بعض التلاميذ والغطرسة لدى البعض الآخر. ببساطة 
وصراحة: لقد عفا الزمن على هذه المؤسّسة وان أوان إغلاقها. 
في السنوات الأولى من صفوف المدرسة المولويّة يستمبٌ الأمراء 
في العيش في كنف العائلة» فتقوم كل أمَّ بواجبها الطبيعي في 


58 6 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حضانة صغارها. مع وصولهم إلى سن البلوغ ينتقل الأمراء إلى 
النظام الداخلي. من جهتي» كنت في نداية الأمر .سيعيدا ددا 
بالذهاب إلى المدرسة رفقة ابن عمي سيدي محمدء الذي يكبرني 
بعام واحدء والذي أكنّ له مودّة عارمة. كان سيدي محمد ذا 
إحساس مرهف ولُطف وطيبة» كما كان يعطف علي ويهدٌئ من 
روعي كلّما اختلفت مع والدي. في الصف كان الجو العام خليطًا 
من التقاليد الغربية والإسلامية. كنا زهاء عشرة تلاميذ من جميع 
أنحاء المملكة؛ لباسنا غربي ونجلس على مقاعد كما هو الحال 
في المدارس. عليك أن ترفع يدك ليسمح لك المعلم بالكلام؛ 
وعليك بالوقوف لتجيب عن أسئلته. كان المعلم موكلا بتعليمنا 
وبمعاقبتنا الجسدية إن اقتضى الحال. أما التدريس فكان يعتمد 
أساسًا على الحفظ والاستظهار. علاوة على دروسنا هذه كنت 
أنا وسيدي محمد ملزمّين بتلقّي حصص التدريب العسكري 
يومي الثلاثاء والأحد. أما ركوب الخيل فكنا نتدرّب عليه يومي 
الأربعاء والسبت. 

بداية» لم أَبْدُ واعدًا في المدرسة على الإطلاق. أُوَلَاء أنا أعسر 
وفي المدرسة المولويّة حاولوا إرغامي على استعمال اليمنى. 
من جهة أخرى كانت أمي تضيف إلى برنامجي» بعد ساعات 
المدرسة. حصصًا دراسية مع معلمين آخرين» رغبة منها في تعزيز 
ما تعلّمته خلال حصص الصباح. أدّى هذا التكثيف الدراسي 
إلى نتائج عكسية. فلقد كنت مثلا أتلقَّى بعد المدرسة دروسًا 


١‏ 1 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في اللغة الإنجليزيّة على يد أستاذة من المركز الثقافي البريطاني» 
جين جيليان» كما كنت أتلقّى دروسًا تكميليّة في العربيّة الفصحى 
على يد الأستاذ بادا منصور. في النهاية» لم ألبث في المدرسة 
المولويّة أكثر من عامين اثنين كان الوضع فيها لا يطاق: مهما 
بذلنا من جهود فإن ترتيب النجاح كان هو هو: المرتبة الأولى 
هي دائمًا للأمير سيدي محمدء والثانية لشقيقته للا مريم (كان 
قسمنا مختلطا قبل فتح قسم خاصٌ بالبنات) الثالثة لي دائمًا! أما 
المرتبة الرابعة فليذهب إلى الجحيم صاحبها. لا أمل له بسواها 
مهما جد واجتهد. إنها المهزلة وما أدراك ما المهزلة. أما في 
لعبة كرة القدم؛ وبما أن الأميرة لا تلعب» فلقد كنت أنا عضوًا 
في فريق وسيدي محمّد في الفريق الآخرء والنتيجة أن فريقنا لم 
يفز يومًا في أي مباراة» كذلك الأمر بالنسبة للرماية كانت مرتبتي 
الثانية سواء أصبتٌ الهدف أم أخطأت. 
ذات يوم» على حين غرّة زارنا الحسن الثاني في ميدان الرماية. 
لم يجد الجنرال المذبوح, قائد الحرس الملكي وأحد مخططي 
انقلاب عام 2191١‏ بدا من مطالعته بما اكتشفه بنفسه من 
ظومة “الغش” في المسابقات التي تضمن فوز ولي العهد, عبر 
العبث بالأهداف والتلاعب بالبنادق. كان الجنرال قد هدّد بفرض 
عقوبات على المسؤولين عن ذلك وبتوقيف بعضهم. عندما 
لاحظ أنه فشل في إصلاح الأمر فاتح الملك بالموضوعء وقد 
تأكّد الحسن الثاني بنفسه أن عدسة المصوّب في بندقيّني قد أدخل 


١‏ ا 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عليها خلل مقصود لكي يستحيل علي أن أتفوّق على ابنه, فانتابه 
غضب شديد. مع ذلك لم يستطع إصلاح الوضع! وكأنّ منظومة 
الغش والفساد التي يحركها ميل طبيعي إلى تقديم الولاء على أي 
اعتبار آخر مهما كان الثمن» أغلب من إرادة الملك نفسه. 

في تلك الفترة كانت علاقتي مع سيدي محمّد كلها انسجام 
وتفاهم» لم نكن لنستوعب جيّدَا كلّ الصراعات والرهانات 
الكبرى المحيطة بنا. بل قل لم نكن لنلتفت إليها كثيرًا ولم 
يكن في وسعناء في أبعد تقديرء إِلَا أن نسخر منها. كبرنا معَاء 
متضامنين وتغمرنا المحبة؛ فالحسن الثاني ربّانا بالطريقة نفسها 
دون تمييز بين أولاده وأولاد أخيه. كانت العائلة صغيرة الحجم 
نسبيّاء ومولاي عبد الله والحسن الثاني ليسا جذعين منفصلين 
بل أوراق غصن واحدء بالإضافة لكونهما واجها الأزمات 
والامتحانات العسيرة نفسها برفقة والدهما: المنفى» الخوف من 
المستقبل» المقام الطويل في مدغشقر قبل العودة إلى الوطن... 
هذا هو لربما السبب الذي جعل بيتنا نحن لصيقًا بالقصر الملكي 
كأنه فرع منه. وهذا هو لربما ما جعل والديء على الرغم من 
علاقته المعمّدة مع أخيه الأكبر» يعيش ويفكر من داخل منظومة 
المخزنء مُعيدًا إنتاج نظام الولاء في بيته وبين من حوله. 

في أوائل السبعينيّات من القرن الماضي» كانت صلتي بعمّي أسهل 
علي من صلتي بوالدي. كنت أحب عمّي الحسن الثاني, لما يتمتّع 
به من حيوية وذكاء وطاقة وبديهة حاضرة ورد فعل سريع. ثم إنْه 


59 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كان دائم الاهتمام بما يجري حوله. أصدقاؤه الحقيقيون قلائل 
ولكنّه يبادلهم الإخلاص. بطبيعة الحال كان يمكنه أن يشزر 
أحدهم بطريقة رهيبة أو أن يستشيط غضبًا وكثيرًا ما غضب... 
الذين عرفوه عن كثب كانوا يستطعيون رصد العلامات المبكرة 
التي تنذر بعواصفه المزاجيّة: يَتَغْضَن جبينه ثم يغمض عينيه) 
أو يكاد, كأنه لم يعد يتعرّف على ذلك “المذنب" أمامه. في 
اللحظة نفسها كان يضع إصبعه تلقائيًا على الندبة التي فوق أنفه» 
وتأويله أن الغيظ على أشدّه. رغم كل هذا كانت غضبات الملك 
كالانفجارات الذريّة الخاضعة لنظام سيطرة وتحكم مبرم: لم 
يفقد يومًا أعصابه أمام الملأ. كان» في كثير من الأحيان» يوحي 
وكأله جل لا قَْتَ له أو أنَّ القَلتَ والمشاعر كماليات؛ لئس 
لمن يتبوأ رأس السلطة أن يتمبّع بها. على هذا لا بد من الاعتراف 
له بأن ذكاءه قام منه أحيانًا مكان القلب ومن هنا ما كان يبادر إليه 
من إيماءات نبيلة محسوبة يُمليها العقل ولا تتدخل فيها العاطفة 
أو الانفعال. 

من ثم الوّبْه الإنساني الذي كان يراه المقرّبون من الحسن الثاني 
فيه. ضف إلى إنسانيته تلك ما كان يتمتع به من ذوق رفيع في 
مسائل الطهو والطعام. حنَّى في هذا المجال كان يحلو له أن 
يلعب دور ”رئيس الطبّاخين”» وليس هذا منه بالأمر المستغرب. 
كان يقف بنفسه على قوائم المأكولات» ويلاحظ عليها حتّى 
إنّه كان يعمد أحيانًا إلى تجديد بعض الوصفات التقليديّة» التي 


4 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يعود تاريخها لمئات السنين. كان يحب أيضًا الموسيقى الشعبيّة 
وأغاني أم كلثوم والحاجة حليمة» في حين كانت الموسيقى 
الكلاسيكيّة لا تعنيه في شيء. لم يكن يحب الحسن الثاني قراءة 
الروايات بل كان يؤثر عليها الكتب الفكريّة. من طباعه أيضًا 
أنه كان يحب الاحتفاظ ببعض الأشياء القديمة من مثل قمّازات 
التولقي الممزقة التي استعملها لأكثر م عشرين عام أو ستحنه 
القديمة. كذلك كان يواظب على الصلاة مستعملا سبحادة قديمة 
جدًا لا بيغي بها بدلا. في مجال الفروسيّة» كان الحسن الثاني 
مكلا سه الرائع الأزرق» الذي أهداه إليه والدي يومّاء فكان 
يمتطيه كل سنة بمناسبة عيد العرش. كان الأزرق فرسًا من منطقة 
إفران قُدَّم يومًا إلى والدي فأعجبه كثيرًا وأهداه بدوره لشقيقه. 
لم يمتط الحسن الثاني الأزرق للمتعة فقط بل كرمز من رموز 
سلطته. كان يمتطيه في أهم أَيّامِ السنة الملكيّة: يوم عيد العيش 
الذي يخرع تيدفن الصر. وعليه جلبابٌ إمارة المؤمنين الأبيض 
مظذَلًا بمظلّة عملاقة. 

رغم خشيتنا من الحسن الثاني» كنا سيدي محمد وأناء لا نتردد 
في الاقتراب منه. كان يوحي إلينا بقدرته على حمايتنا من كل 
شيء وكلّ مكروه ثم إِنّه كان يحب الأطفال وكان حاضرًا في 
حياتنا اليوميّة . كما كان يهنم شخصيًا بسلامتنا وصحتنا. صغيرًا 
كنت أشكو من تسح قدمي وكنت أعالج من ذلك . كان الحسن 
الثاني» على رأس كل ستة أشهرء يتفقد مدى التقدم الذي حصّلته. 


134 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


من فرط عنايته بالتفاصيل كان يفحص بنفسه قوس قدمي ثم 
يصدر أمره؛ كما لو أنه الفقيه في طب الأقدام: ”ثابر على انتعال 
هذه النعال ستة أشهر إضافية“... كان ذلك يشعرني بالاطمئنان 
والحماية. من نافل القول إِنَّ الحسن الثاني يتابع أيضًا عن كشب 
نتائجي المدرسية نظرًا لما كان يوليه عمومًا من اهتمام بالغ 
بالتعليم. بخلاف ما قد يُظن» لم تكن غرفتي مملوعة بالألعاب» 
فلقد ربانا الملك بتقشّف وكان كلَّما رأى ضرورة لمعاقبتنا بنفسه 
يفعل مستخدمًا العصا بلا تردد. 

سيرًا على نصيحة الحباج إلى معلّم أبنائه: ”عَلَم أولادَك السباحة 
قبل أن تعلّمهم الكتابة فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون 
من يسبح عنهم". كنّاء نحن الاثنين ملزمّين بساعتين من الرياضة 
يوميًا. كان الحسن الثاني أحيانًا يُطبّق نصيحة الحجّحاج بحذافيرهاء 
فعندما كان يريدني أن الحر 0 
كاملة مرّتين في الأسبوع» ويراقبني بنفسه وهو يطالع صحيفة 
بجانب حوض السباحة! كنا نمارس أيضًا كرة القدم والجري» 
ل اا ا ا كردا 

عشر إلى عشرين كيلومتوًا. تدرّبت أيضًا على فنون الدفاع عن 

النفس وعلى المبارزة. أما أكبر متعنا فكان الصيد. كنت أحبٌّ 
صيد الحجلء في حين كان سيدي محمّدء يفضّل الطرائد 
الكبيرة. كذلكء كان كلانا يحب ركوب الخيل. في البداية 
تعلمنا الفروسيّة على يد العقيد الفرنسيّ بوكروء القادم من مدرسة 


8 1 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


اا وكا شراط يخ مستقياقاة والسلوك. 
الاي اع ا ل 
عنق وتكون الصرامة في منتهاهاء وأخرى هي عبارة عن جحولات 
خارجيّة وخاصة في مضمار السباق بحىّ السويسي. هناك؛ ما 
إن نبتعد عن لجنة التشريفات وهي التسمية التي كنا نطلقها على 
الضباط المولجين مرافقتناء كان العقيد شراط يتر جل عن حصانه 
ووحظها: الكنان: **هكا يا أو الخدم الع ا وائرهوا". ويخيا كلذذ 
هو بالتدخين» كنا نطلق العنان لفرسَيّناء أنا لراستينياك» وسيدي 
محمد لرمسيس. ثم نعود وقد بلغ بنا العياء مبلغه ولكن تحقنا 
لاحمّاء ابتداء من عام 2١3175‏ في الثانية عشرة» شاركت» كل 
ال اراسي ارو يّة فكنت أقيم في 
روا. هناك أشرف على تدريبنا مارسيل روزييه» مدرّب الفريق 
الفرنسيّ» وهو بطل أولمبيّ لمرّتين» وبطل فرنسا لمرّات عذّة. 
كانت هذه الرحلات التدريبيّة لحظات رائعة أتنفس فيها بحريّة 
وألتقي خلالها بمتدرّبين آتين من كل بقاع الدنيا. صباح كل يوم 
كنا نمارس أنواعًا من الرياضات الجماعيّة ونعدو لمسافات معيّنة 
قبل أن نمتطي خيولنا وننطلق. أمافي المساءء فكنًا نخرج لتناول 


1 0 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


العشاء أو إلى السينما في ضواحي باريس. 

بخلاف هذه الأجواءء, كنا نكبر في المغرب وسط عالم يشوّهه 
التملق والترنيف». ولو أثناء. والأمر يسنشحق الذكرء نا تعيش 
كأطفال مدلّلين. كان الحسن الثاني يردّد على مسامعنا أن 
صاحب السلطة؛ ولوآلت إليه من طريق الوراثة» عليه أن يستحقّها 
ويبرهن باستمرار على أنّه أهل لهاء وأنْ الملكيّة ليست محصّنة 
ضدّ تقلبات الزمن» وأنّ فترات الهدوء والسكينة لا تبرر التخلي 
عن الحذر واليقظة» وأنّ على المرء بالتالي أن يكون سيّد نفسه 
وأن يتحكم بمشاعره؛ فلا يبكي أبدًا ولو لوفاة قريب» ولا يُظهِر 
ضععقًا أو ارتباكا. كان الحسن الثاني راسحًًا في قناعاته هذه 
وعليه فهو لم يكن عطوًا علينا فقط بل مهتمًا بأحوالناء وهذا 
بخلاف الحسن الثاني كان والدي شبه غائب عن المشهد. رغم 
خصاله الإنسانية التي لا سبيل إلى إنكارهاء كان من الصعب 
الارتباط معه بعلاقة مستدامة» ولذلك فإن أقصى ما استطاعت 
والدتي أن تنتزعه منه هو لحظة حميميّة يوميّة يخصّصها لي 
ولأختي قبل أن نخلد نحن إلى النوم» ويمضي هو لتناول طعام 
العشاء. كنا نجتمع؛ نحن الأربعة» ولكن الحسن الثاني كان غالبًا 
ما يتصل هاتفيًًا في هذا الوقت بالضبط وكأنه يتعمّد إزعاج هذا 
الموعد العائلي اليومئ. أو كأنه لا يريد لشقيقه فرصة الاستمتاع 
بهذه اللحظات من السعادة وسط خليّته العائلية. إلى هذا الموعد 


0 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الأسري كان والدي يخصّص لي يوميًّا عشر دقائق إضافية أقضيها 
معه لدى عودتي من المدرسة. إلى ذلك كنا نسافر جميعًا عشرة 
أيام في السنة لقضاء عطلة عائلية في مدريد أو باريس» ولكنّ هذه 
الأيّام لم تكن لحظات عائليّة حميمة حمًا. فمولاي عبد الله لا 
يسافر إلا رفقة حاشية من زهاء أربعين فردّاء وعليه فلم تتجاوز 
منزلة أفراد العائلة» نحن منزلة المتاع. كناء في أحسن الأحوال؛ 
نُشاطره وجبة طعام واحدة في اليوم» أو جولة على الأقدام هنا أو 
هناك. أما باقي الوقت فكنا نقضيه متنرّهين على جادة الشانزليزيه 
أو سواهاء رفقة المربّيات والحرس الشخصيّين الفرنسيّين أو 
الإسبان. لم تكن هذه الظروف سهلة بالنسبة لنا كأسرة ولكن 
ما عسانا أن نفعل. كان والدي بحاجة دائمة لأن يحيط نفسه 
بكثير من الناس فلا يغلب عليه الاكتئاب والشعور بالتفاهة ولكي 
يتناسى أنه لا يقوم بالدور الذي يحلم به جوار أخيه الملك» بل 
كأنّي به كلّما ازداد عدد المحيطين به شعر بنوع من الأهميّة 
حيث يتلقى ملتمسات هذا أو ذاك ويتدخل لدى أخيه لقضاء 
حوائج الناس أو لتسوية بعض الأمور التافهة. كان هذا مما يشعره 
بأنَ له دورًا ما في ماكينة السلطة» علمًا أن الحسن الثاني» من 
جهته» كان يسعى ويسعد لتحجيمه في هذا الدور. كان والدي 
خجولًا ولا يطيقُ الوحدة. لم يحتس الكحول قبل وفاة والده 
وكان إذ ذاك في السادسة والعشرين من العمرء ثم بدأء بعد ذلك» 
يحتسيها بل يبالغ في تعاطيها عساه يهرب من كابته ومشقة 


34 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


أخوّته للملك. مع تفاقم إدمانه على الكحولء قصد البروفسور 
ويليامز» الأخصائي في الإدمان في كلية كينغ كوليدج البريطانية 
الذكن كتاذل هذه القغرة التكرال محمد أوفقيزه» السبيةةول 
الأمني الأول في البلاد وصاحب الحظوة البارزة لدى الحسن 
الثاني» عندما كان يزور بيتنا ولا ينفك يصب جام غضبه على 
الشيوعيّين» واصمًا إيَاهم بالأوباشء علمًا أن بعضهم كان على 
علاقات طيبة مع والدي. كان أوفقير في الواقع؛ يريد من مداخلاته 
هذه التأكيد على أنه إذا حصل تقارب مع اليساريّين فإنه يجب أن 
يحدث تحت سقف بيتنا فلا تخرج الأمور عن نطاق مراقبته. 
كان أوفقير يُكثر الحديث عن عبد الرحيم بوعبيد» وهو صديق 
لوالدي عرفته جيّدًا (وقد عرّفني في وقت لاحق إلى عبد الرحمن 
اليوسفيّ» الذي رئس الحكومة الانتقالية في نهاية عهد الحسن 
الثاني). غلب على كلام أوفقير حديث الدسائس والمؤامرات 
والمبالغة والتهويل وكأنْنا نعيش في حالة حصار. وكثيرًا ما كان 
يردّد أن اليساريّين في كل مكان وأنّهم سوف ”يقتلوننا جميعًا“ 
وهكذا دواليك. يذكر أن أوفقير كان مقرّبًا جذا من محمّد 
الخامسء قبل أن أصبح ذا نفوذ كبير لدى والدي ولدى الحسن 
الثاني. لم يكن هذا الأخير ينزعج كثيرًا من تحذيرات أوفقير ولا 
من مناخ الهلع الذي ساهم في ترويجه واصمًا وضعنا بالقلعة 
المحاضرة. 


33 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بالنسبة للحسن الثاني لم يَعْدُ ما كان أوفقير يصفه واحدًا من 
فصول التمرّد التي عرفها تاريخ العلوتين الطويل. كلّ ما في الأمر 
أن ليس خروج قبيلة من القبائل وإنما خروج مجموعة تجمع 
بينها إيديولوجيا واحدة تسمّى سيبة اليوم» والسيبة في المصطلح 
المغربيّ هي خروج جماعة أو منطقة عن إرادة المخزن وسلطانه 
والسيبة» التمرّد» في نظر الحسن الثاني أمر مختلف كل الاختلاف 
عن ”الخيانة“ التي كتب له أن يعيش فصولها. فبخلاف السيبة» 
شيمة الخيانة أنها تنبعث من داخل النظام ومن دار الملك نفسه 
وبهذا المعنى فلا وََْه مقارنة بين الاثنين وبهذا المعنى لا يمكن 
ل”الخيانة"“ أن تحظى بما تحظى به السيبة من تفهم. 

بعد محاولتي الانقلاب اللتين شهدتهما مطالع السبعينيّات من 
القرن الماضي» شعر الحسن الثاني بإهانة كبيرة» أو كأنه انحط 
إلى درك الحسين ملك الأردنء الذي لم يَعْدذّ في نظره أن يكون 
ملكا شا يديع بعرشةه لمعاهدة سايكس - بيكو. يعد المخاو لنيْق 
الانقلابيتين شعر الحسن الثاني بأن الهالة المقدّسة التي ورثها عن 
والده قد ارتفعت عنه ولعل في هذا ما يفسّر ما حوّله إلى رجحل 
قاس وشرير. 


تنبغق الملكيّة المغربيّة في شكلها الحديث عن الحركة الوطنيّة. 
خلال عهد محمّد الخامس» تجاوزت الملكيّة ماضيها السلطاني 


<كجكر 


على أقصى اليسار» مطبوعة بالاحترام المتبادل» ولم تخل من 
صداقات في كثير من الأحيان. و إن أنسّ لا أنسى أنَّ عبد الخالق 
الطرّيس ومحمد الدويري» وهما من وجوه حزب الاستقلال» 
الحزب القومي الكبير» كانا يقومان بزيارتنا بانتظام. أما يوم أن 
كان زعيمهم علال الفاسي يزورنا فكان يومًا على حدة يتهيّأ له 
والدي بأن يحلق ذقنه وبأن يتأنق في ملبسه وبأن يستدعي والدتي 
إلى جواره لمحادثة الضيف القادم من “”الشرق") في علوم 
الحديث النبوي ومسائل الفلسفة. كان أهل المنزل يستعدّون 
لاستقبال الضيف الكبير بأبهى حللهم؛ ولكن الحقيقة أن والدي 
كان ينتظر أيضاء بفارغ الصبرء لحظة مغادرته. فور تشييعه إلى 
باب المنزل» كان رفاقٌ والدي اليساريّون يعودون للاحتشاد في 
بيتناء وفي الطليعة من هوّلاء قادة الاتحاد الوطني للقوى الشعبية 
يستعيد حرّيته تتربّع زجاجات الخمر وعلب السيجار مجدّدًا 
على الطاولات ويطلب والدي من والدتي أن تختفي عن الأنظار 
فلا يُحرج الأصدقاء عند استذكار فتوحات أيام الشباب لا سيّما 
فتوحاتهم النسائية. 

كنت في السابعة يوم أدركت لأول مرة أنني أنتمي لعائلة السلطة 
أي العائلة الملكيّة التي تمتلك من الأسباب والأدوات ما يتيح 
لها أن تفرض إرادتها كيفما تشاء. ما يزال ذلك اليوم حاضرًا في 


7 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ذاكرتي كأنّه جرى بالأمس. كان ذلك اليوم يوم عيد ميلادي؛ 
عدت من المدرسة إلى المنزل لتطالعني المفاجأة التي أعدّها لي 
أبي في تلك المناسبة. كانت هديته لي أن طلب من فرقة الحرس 
الملكي البريطاني التي كانت في جولة بالمغرب أن تصطفٌ 
أمام منزلنا وأن تعزف على نيّتي مقطوعة ”هابي برث داي“. عند 
رؤيتي الفرقة الشهيرة وقد اصطفت على شرفي أدركت أن لدينا 
ما ليس لدى سوانا وفي مقدّمة ما لدينا أن نُسخر السلطة لمتعتنا 
تزامن اكتشافي لعالم السياسة» وهو اكتشاف أشبه بالاستيقاظ 
المفاجى» مع الانقلاب الأول يوم ٠١‏ تموز (يوليو) 2١9171١‏ 
حيث إنني لم أعايش الاحتجاجات الشعبيّة التي شهدها عام 
6 والتي كانت في محل جرس إنذار للنظام. لم أكن أعلم 
أن القوّتين الأساسيّتين للحركة الوطنيّة» حزب الاستقلال وحزب 
الاتحاد الوطني للقوى الشعبيّة» قد ائتلفا في جبهة موححدة ضد 
الملك اسمها ”الكتلة الوطنيّة“. أشعر هذا الائتلاف الحسن 
الثاني بتهديد غير مسبوق إذ فتح عينيه على أنه لا يرقى إلى مكانة 
والده» وعلى أن شرعيّته» بعد عشر سنوات من اعتلائه العرشء» ما 
تزال موضع مساءلة. لم أكن أتخيّل آنذاك» ولو للحظة واحدة. أنه 
مامن أحد لا يحبّ الأسرة المالكة. قبل المحاولتين الانقلابيتين 
المتتاليتين كنّا مطمئنين إلى أننا محبوبون من ”الشعب“ ولكن 
بعد وقوعهما ولى زمن البراءة ذاك وتلاشت الكثير من أوهامنا. 


:7 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يوم العاشر من تموز (يوليو) ١91١‏ الموافق يوم احتفال الحسن 
الثاني بعيد ميلاده» كنت مع أمي في منزلنا في تمارة على بعد 
حوالى خمسة عشر كيلومترًا من قصر الصخيرات» الواقع على 
شاطئ البحر بين الدار البيضاء والرباط. لم تكن أمي في عداد 
المدعوين لأنّ الحفل الملكي مقتصر على الرجال فقط. كان 
الضيوف البالغ عددهم زهاء الألف. منتشرين في الحدائق التي 
عمرت بالمادب فمنهم من كان منشغلا بالحديث ومنهم من 
كان يسبح ومنهم من كان يلعب الغولف وهكذا. كان حفلا 
بهيبجًا كحفلات حقبة الهناء التي أذنت يومذاك على الأفول. 
وبما أن الحسن الثاني لا يرتضي إلا بأن يكون محور العالم» 
فهو لا يقبل من ضيوفه إِلّا محاكاته في كل حركاته وسكناته. 
عندما بدأ إطلاق النار في قصر الصخيرات» حدست والدتي أن 
شيئًا خطيرًا يجري هناك. إتصلت على الفور بالجنرال عرّوب 
أحد أعضاء فريق الجنرال أوفقير» أجابها عرّوب بفجاجة وأنهى 
المكالمة على نحو لا يقل خشونة. هنا قرّرت والدتي التوجه 
بنفسها إلى المكان فكانت المرأة الوحيدة التي لحقت بزوجها 
في هذا الظرف العصيب, ما ترك عند الحسن الثاني شعورًا دفيئا 
بالغيرة» متمنيًا لو أن امرأة اهتمّت بمصيره هو أيضًا على غرار ما 
اهتمت أمّي بمصير زوجها. أقلتني أمي في سيّارتها إلى جانبها 
وانطلقت بسرعة إلى الصخيرات. على مشارف القصر استوقفنا 
حاجز للانقلابيين. ما إن تعدّف الضابط امر الحاجز على من 


وف 4 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


تكون حتّى أعطى الأمر بقتلها. تحت ناظرّي؛ صَوَّبٍ جنديان 
بندقيّتهما نحو أمي ثم خفضاهما. كانت أمّي حاملًا في شهرها 
السابع. خاطبها أحدهما: ”ديننا يمنعنا من قتل الحياة التي في 
بطنك". نقلتني والدتي إلى إحدى سيارات المرافقة وطلبت من 
السائق أن يذهب بي إلى الرباط» فيما واصلت هي طريقها نحو 
القصر. عند وصولها إلى المكان» كان رجال العقيد عبابو قد 
أعدموا الجنرال المذبوح, علمًا بأنه لم يكن في نيّة المذبوح, 
على ما يبدو قتل الملك. مع القضاء على المذبوح فقد الانقلابُ 
عقله المدبّر فارتبك الانقلابيَون وتمكن الحسن الثاني» بمساعدة 
الجنرال أوفقير» من استعادة السيطرة على الوضع. 

جرح أبي خلال الاشتباك ولكنه واجه الموقف بشجاعة:؛ فشفع له 
ذلك عندي وأكبره في عينيّ. في تلك الليلة» نصح أوفقير العائلة 
المالكة بألا تعود إلى قصر الرباط وبأن تتوبحه إلى مكان سرّي 
تفاديًا لأي خطر محتمل. وهكذا كان؛ إنتقلنا وسط جو مشحون 
إلى منزل عمّتي للّا فاطمة الزهراء. على طاولة من الطاولات 
بسطت خريطة للرباط. كان الحسن الثاني يصرخ ويصدر تعليماته 
في كل الاتجاهات. أما أوفقير ‏ يعاونه الجنرالان مولاي حفيظ 
وإدريس بن عمر- فكان يتابع احتواء ما تبقَى من بؤر انقلابيّة. كان 
والدي ينزف بغزارة ويتألم كثيرًا بين يدي طبيب فرنسيّ كان من 
عداد ضيوف الصخيرات. خاطب الطبيب الحسن الثاني قائلا: 
”عذرًاء لابُدَ لي من مقاطعة جلالتكم. أخوكم يحتاج بسرعة إلى 


7 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


بعض المضادات الحيوية وإِلا فإن الغرغرينا تتهدّده“. لم يستجب 
الملك لنداء الطبيب. وسط كل ذلك الصخب تدخل والدي 
برباطة جأش قائلًا إنه يستطيع الانتظار. لكن الطبيب ألح على 
طلب الدواء. فما كان من الحسن الثاني إِلَّا أن صاح في وجهه: 
”إسمع يا دكتور؛ أنا عندي عرش بأكمله أحاول استعادته» وهو 
أهم من الغرغرينا! إسأل مريضك وسيوكد لك ذلك بنفسه. فلا 
تزعجني من فضلك!“ ثم نادى على جندي وطلب منه أن يأتيه 
بحربة» فأتاه المسكين بها مرتعبًا. أخذ الحسن الثاني السكين 
الحربة ورمى بها عند أقدام الطبيب قائلا له: ”بما أنك تتحدث 
عن غرغريناء خحُذْ وابتر الطرف المصاب“! ذهلت أنا وسيدي 
محمّد من هذا التصرفء أما أبي فحافظ على هدوئه والتفت إلى 
الحسن الثاني قائلا: اهل تذكريوم كثافي مدغشقر وخريععيك 
التمساح؟ كان الأؤلى 98 أن أدعك تواجه قدرك”. فذات يوم 
من أيّامِ المنفى المدغشقري وكان الأخوان فتيّين وجدا نفسيهما 
فجأة أمام تمساح» فهمس الحسن الثاني في أذن شقيقه أن يقوم 
بدورة حول الوحش ليسترعي انتباهه ويتمكن هو من الهرب ومن 
النجاة بنفسه وهذاما فعله والدي... في نهاية المطاف انتهى الأمر 
دونما حاجة إلى بتر أي من أطراف والدي» لكن فظاظة الحسن 
الثاني تركت جرحًا عميقًا في العلاقة بين الرجلين. 

من جر حى الصخيرات أيضًا رجل كان يحظى باحترام كبير ويعتبر 


9 37 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أول حزب سياسيّ مغربيّ - كتلة العمل الوطني - ووزير الدولة 
في عهد محمد الخامس. لم يسعف الحظ الوزّاني كما أسعف 
والدي ففقد ذراعه اليمنى. بعد المحاولة الانقلابية كان والدي 
يزوره في المستشفى نفسه الذي كان يُعالج فيه هو نفسه فكان 
الوزاني يردد عليه: "لقد انتهيت لقد انتهيت” » فيواسيه والدي أو 
يحاول: ”صبرًاء فكر في المئات الذين حصدهم الرصاصء» في 
النواية الث تحوت انف ويحب أن تغير امداق محظ رن" . لك 
عبئًا كانت تذهب محاولات أبي لمواساته. في أحد الأيام جاءت 
فد ا اي به بحكاية الوزّاني فأجابته 
: ”ألا تفهم ما يعني؟ لقد انتهت حياته لأنه يكتب» ولكي 
0 فهو يحتاج إلى يده اليمنى. حياته منذورة للعمل الفكري 
لا للمتع العابرة» هلء يُعْجزكم, أنتم العلويّون» أن تستوعبوا هذا 
الأمر؟“ لا غروء لقد نزل هذا الكلام على مسامع والدي نزول 
الصاعقة أو أشد.. 
كان مدبّر المحاولة الانقلابية عام 2١41١‏ الجنرال المذبوح, 
نابطاتوزيه ا وصاركا عاق ذرعًا والفسناةو باتسفرائم كدت أغرفة 
جيّدًا لأنه كان جارنا في مصيفنا على البحر. قبل الانقلاب بثلاثة 
يام ذهبت لزيارة ابنه حسن» فوجدت الجنرال يدحُن سيجارة 
وقدماه في دلو من الماء» لكنّه طردني من باب منزله وهو يصرخ: 
”اخرج من هنا أو صفعتك"! عدت إلى المنزل مضطريًا أخبرت 
والدي بما تعرّضت له من إهانة فلم يصدّقني. كأني بالمذبوح, 


7 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في ذلك اليوم» قد طوى في ذهنه صفحة النظام الملكي. كان 
شريك المذبوح في الانقلاب هو العميد الركن محمد عبابو قائد 
معسكر أحمر مومو الذي يدرّب فيه نحو ١4٠٠‏ تلميذ ضابط 
والذي يقوم غير بعيد من فاس في منطقة مشرفة عليها. التلامذة 
الضباط هؤلاء هم من ”نزلوا" وانقصُوا على الصخيرات! عندما 
بدأ إطلاق النار ساد الارتباك واختبأ الملك في الغرفة الخلفيّة 
لاحدى قاعات الاستقبال يرافقه نحو خمسة عشر شخصًا. 

أما والدي الذي كان يتناول الغداء» مع مجموعة من الضيوف» 
فأصيب بثلاث رصاصات في ذراعه اليمنى وبرابعة في الركبة. 
عندما ألقي القبض عليه مع عدد آخر من الضيوفء وبما أنه كان 
ينزف» فقد أجلس على كرسييٌ» في حين بقي جرحى آخرون 
طريحي الأرض. سأل والدي الجندي الذي يحرسه أن يأتيه 
بالماء» فأبى فما كان من والدي إلا أن عقّب على رفضه بالقول: 
”كيف هذا؟ انقلاب بلا ماء؟ ما هذا التخطيط البائس؟ هياء 
بسرعة» اذهب وجئني ببعض الماء!“. فما كان من العسكري إِلّا 
أن امتثل. ملقّى على الأرض تابع أحدهمء مولاي هاشم العلوي؛ 
هذا الحوار مشدوهًا. كان مولاي هاشم من رعيل محمد 
الخامس وكان يشغل في البلاط منصبًا أشبه ما يكون بمنصب 
صاحب المظالم أو ”الوسيط“ ف الأنظمة الحديثئة. بعد ستة 
أشهر على واقعة الصخيرات روى مولاي هاشم للحسن الثاني 
أنه لم يكد يصدق ما رأى من برودة أعصاب والدي حتّى إنه 


0700 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


اعتقد للحظة أنه متواطئ مع مدبّري الانقلاب» فأجابه الحسن 
الثاني: ”لا تنسء إنه ابن أبيه“. 

لم يكن توبس مولاي هاشم من دور ما لوالدي في الانقلاب 
من خارج سياق ما. فالعقيد فنيري» مرافق والدي العسكريء 
كان من عداد المتامرين وقد رُسم له أن يتولى وزارة الداخلية في 
حكومة ما بعد الانقلاب. صَدَّم هذا الاكتشاف والدي فقرّر زيارة 
فنيري في سجنه للوقوف منه على دواعي خيانته كنت حاضرا 
ذلك اللقاء وسمعت فنيري يجيب عن أسئلة ئلة والدي مرتبكا بأنه 
اس ا سي الس 
ها تلط لي عندما تبيّن العقيد فنيري» يوم الانقلاب» حقيقة 
ما يجري وحيحمة:([ بجع عنقا اناق لخر اليه حكن الال 
دون إعدام عمتي للّا نزهة وأنقذها من موت محقّقء يبقى أن 
محاولة أبي التشفع لمرافقه العسكري السابق لدى الحسن الثاني 
وقد باءت بالفشل ‏ زادت من شكوك مولاي هاشم حول 
تورط والدي؛ ومما زاد لربما أكثر وأكثر من شكوك مولاي 
هاشم أنَّ هذا الأخير كان قد توقّع خلال حوار صريح دار بينه 
وبين والدي قبل المحاولة الانقلابية بأشهر أن ينهار النظام خلال 
ثلاث سنوات» في حين توقع والدي انهياره بعد ثلائة أشهر 
فقط! بطبيعة الحال كانت أصداء هذه النقاشات تصل إلى مسامع 
الحسن الثاني فتصيبه بالأسى العميق كما أسرٌ لي بنفسه فيما بعدء 
كان الحسن الثاني يستاء كل الاستياء من اراء شقيقه القاسية التي 


74> 87 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تذكره باسثمرار أنة لين محمد الخامس. وإن أنسن لآ أنسى نما 
اسن سروس ديسل اشاب راك م 
في فرض نفسي بطريقتي الخاصة وعلى سجيّتي. لم تكن التركة 
خفيفة ولا سهلة. بينما كان والدك يقضي وقته مستمتعًا بطيّبات 
الحياة» كنت أجتهد لثلاً تغرق السفينة!“. 

غداة الانقلاب» كنا جميعًا نسعى لفهم ما حدث. في هذا 
السياق رَوَتْ والدتي للحسن الثاني» بشيء من الإلحاف» 
مُجريات مكالمتها الهاتفيّة مع الجنرال عروب يوم الانقلاب. 
لم يستسغ الملك روايتها فقاطعها: ”رويدًاء هل تريدين إقناعي 
بأنه كان شريكا في الانقلاب؟ في هذه الحالة» لا ييقى لي إِلّا أن 
أصدر الأمر بإعدام الجميع...“. لقد كان الانقلاب صدمة كبيرة 
للحمن الذاني. ما زلت أذكر كيف رأيته يضرب رأسه بالجدار 
منتحباً: ”بسببي؛ بسببي أناء كادت أربعة قرون من تاريخ العلوتين 
أن تتبخّر. لقد ورئثٌ هذا العرش أَنّا عن جد كمن يرث جوهرة 
نفيسة تنقلت من يد إلى أخرىء, وها آنذا أوشك أن أضيّع تلك 
الجوهرة“؛ وما زلت أذكر كيف أن والدي طلب من والدتي أن 
تخرجنا من القاعة التي كانت تشهد هذه الاعترافات قائلا لها: 
”لطفاء أبعدي الأولاد كي لا يسمعوا ما يقال. إن لم تفعلي فلن 
يغفروا لك ذلك!”. 

بعد يوم واحد من الانقلاب» وصل عميد الملوك العرب, الملك 
حسين,» إلى المغرب للقاء الحسن الثاني . كانت الزيارة تعبيرًا 


7 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عن التضامن بين أبناء العمومة الشريفيين المتحدّرين من سلالة 
الرسول» فهذا النسب هو ما يميّز هاتين العائلتين الملكيّتين 
عن الملكيّات ”القبليّة“ التي تحكم دو ل الخليج. ومع ذلك» 
فإن الحسن الثاني كان يعد الملك حسين منتجًا من منتجات 
الاستعمارء وكان يتعامل معه بمزيج من العطف ومن التكر. أمّا 
يومذاكء فاستمع إليه ملء أذنيه: ”إِنْك تواجه سرطانًا يستدعي 
أن يُجتتَّ أنصحك بأن تُحاكم كل من شارك مباشرة أو غير 
مباشرة في هذه المؤامرة» ثم بأن تنزل بهم عقوبة الإعدام”. 
إستمع الحسن الثاني إلى نصيحة الحسين ونفذها بحذافيرهاء 
ولا سيّما أنها وافقت نصيحة الجنرال أوفقير» فقام بما أشير عليه 
من عمل جراحي؛ فيما بعد ذهب الحسن الثاني إلى القول بأنّ 
حماسة أوفقير للقضاء على المتامرين إِنْما كان وراءها رغبته في 
ألآ يكشف هؤلاء أو يكتشف بأنّه كان متواطنًا معهم. 

هذا في ما يخص أوفقير. أمَا العقيد عروب, الذي تشهد له 
استقامته ومهنيّنه العسكريّة ولقد رجح لريّما بحسّه الوطنيء أَنَّ 
مستقبل البلاد يستوجب التخلّص من النظام الملكي» فعوقب بأن 
همس لنحو عشرين عامًا قبل أن استدعاه الحسن الثاني» على 
أواخر عمره؛ إلى الخدمة مجدّدّاء وأسند إليه مسؤوليات كبيرة. 
أقلّ ما يقال في مفاعيل محاولة الانقلاب الأولى هذه إِنّها قابت 
حياتنا رأسًا على عقب. فبين ليلة وضحاها عدنا مثلا لا نتتجوّل 
الأمعيّة حرس شخصيين. وليس هذا فحسب. لقد بتنا نحتاط من 


<جكر 


كل شيء بما في ذلك المأكل والملبس. صارت جدّتي تحذّرنا 
من تذوّق طواجن ”الآخرين”» وتنبّهنا إلى أنه حتّى الملابس 
يمكن أن يدس فيها السم. باختصارء بات علينا أن نبالغ في 
ا ا 0 
يربت على كتفنا أو لصديقة أن تطبع قبلة على وجنتنا. مع ازدياد 
الإجراءات الأمنيّة من حولنا ازدادت عزلتناء وتحكمت في 
نظام حياتنا فكرة بسيطة هي أن الناس جميعًا أشرار حتّى ثبوت 
العكس. وهكذا مثلا فلقد بات والدي لا يتتقّل إِلّا في موكب 
ترافقه ثلاث أو أربع سيارات حراسة ! 

كان عمري سبع سنوات ونصف عندما وُلدت» خريف عام 
١‏ شقيقتي الصغرى للا زينب. يوم اقترَبْتُ من سريرها 
الصغير في المستشفى» وحدّقت فيها مليّاء فوجئت بطفلة شقراءء؛ 
خضراء العينين. ساعتذاك» لأول مرّة استفقت على أنَّ لي أصولا 
لبنانية. أحببت أختي الصغيرة حيًّا جمّاء ألا طفلة ثم كأخت 
تحوط أخاهاء برغم فارق السنء بالرعاية. خلاقًا لي استطاعت 
للّا زيئب أن تنسج مع والدنا علاقة ثقة وطيدة» كما أنها لم تأل 
جهدًا لأستفيد أنا من هذه العلاقة. 

طوال سنوات؛ وبصرف النظر عن الظروفء تناولت طعام العشاء 
كلّ مساء رفقة للّا زينب» حتّى أصبحت تلك الرفقة طقسا بكل 
ما للكلمة من معنى. ثم أضيف إلى العشاء طقس آخر: كانت للا 
زينب ترفض الخلود إلى النوم قبل التأكد من أني آويت إلى فراشي 


١4م‏ 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كانت تين لنفسها أنّها من يؤويني إلى الفراش. كان علىّء أقلّه 
أن أخلع حذائي وأن أتظاهر بالنوم فتقبّلني على جبيني وتذهب 
هي للنوم بينما أغادر أنا فراشي . لقد تكرّر هذا الطقس كل مساء 
إلى أن بلغتٌ السابعة عشرة وغادرت المنزل إلى الجامعة لا 
أتذكر إلا وشعرت تلك اللحظات بشفتيها تلامسان جبيني. إنهاء 
لا مبالغة» من أعرٌ الذكريات في حياتي. من جانبها لا أظنها تريد 
أن تصدّق حتّى يومنا هذا أنني كنت أنهض من فراشي مجدّدًا ما 
إن تطبع القبلة على جبيني وتغلق وراءها باب غرفتي. 

بعد وفاة والدناء تغيّر للأسف مزاج أختي زينب فَمّسَت وجفت 
طباعها وانغلقت على نفسها. كان عمرها انذاك إحدى عشرة 
سنة. من إِذَاك تغيّرت علي ولم أعد أتعرّف فيها على للّا زينب 
تلك. إحتضن الحسن الثاني للّا زينب وعاملها معاملة ابنته» فحن 
عليها وعطف كما كان والدي يفعل وربّما أكثر. أمّا بنات عمّها 
تل روسل فليهاء يترازو وانعستان والفرؤقة» لكو كل دلق لج 
ا ل 0 
تخليت» عنها والحقيقة أنني لم أفلح في تجديد علاقتي الأخوّية 
معها إلا بعد سنوات طويلة على ذلك. 

لسنوات مديدة ارتفع بيننا جدارٌ من الصمت المتبادل. تزوّجحت 
للذ وس اعد انام عائالات النغرن وحافظ عم بلقة العقري 
وعاداته؛ على شرف زوجها على أحسن وجه. رغم ذلك الانقطاع 
فإنّ وشائج المودّة العميقة التي كانت بيننا اتتقلت إلى أبنائنا وفي 


4 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وقع الانقلاب الثاني يوم ١‏ اب (أغسطس) 19177. كنت في 
الثامنة من عمري وقد شهدت أحداثه بأمّ العين؛ حيث كنت في 
المطار لاستقبال عمّي ووالدي. كنت واقفًا أمام سلّم الطائرة مع 
مولاي رشيدء الابن الأصغر للحسن الثاني. مرهمقًا مكفهرًا نزل 
الملك, من الطائرة التي كانت تبدو واضحة على هيكلها آثار 
التقوب التي خلّفها ما تعرّضت له من إطلاق نار في الجو. 

تبع الملك في مغادرة الطائرة كل من مولاي حفيظ العلوي 
والعقيد أحمد الدليمي. كان الحسن الثاني يستحثهما على 
القيام ب”الضروري” إلى أن تنبّه لوجودي فخاطبني قائلا: ”اليوم 
كدنا أن نموت“» لم يكن عمر مولاي رشيد يتجاوز الستتين أو 
اثلاث سنوات» وانحنى عليه الحسن الثاني مردّدًا: ”بابا كاد أن 
يموت اليوم“. كان الملك قد علم لتوّه أن الجنرال أوفقير» الذي 
ضاق بدوره ذرعًا بالمحسوبيّة والفساد المستشريين في البلاد» 
هو من يقف وراء هذا الانقلاب» وهو من خطط بعناية للهجوم 
على الطائرة الملكيّة. مجدّدًاء أفشلت ”البركة“ التي يتمتع بها 
الحسن الثاني المؤامرة! لدى وصولننا إلى قاعة الشرف, وبرغم 
صعوبة الموقفء تعمّد الملك أن يسلّم على الحاضرين؛ فيما 
هؤلاء يناشدونه الانصراف باعتبار أن الانقلاب لم يُخمد بعد. 


م 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


لا أدري ماذا ينبغي لي أن أفعل. في هذه الأثناء» اقتربت الطائرات 
الحربيّة وحلّقت فوقنا دون أن تطلق النار» ثم ما هي إِلّا لخظات 
حتى اقتربت مجدّدًا وأمطرت المكان بالعيارات الناريّة. في 
هذه الأثناء أيضًا كان بعضهم قد وضعني ووضع مولاي رشيد 
في إحدى السيارات تمهيدًا لإجلائنا عن دائرة الخطر» ولكنني 
رغبة في البقاء إلى جانب والدي» غادرت السيّارة وتهت عن 
المرافقين. إنتقل الحسن الثاني إلى الصخيرات في موكب 
”وهمي“» في حين يَمَّم الموكب الحقيقي صوب وجهة أخرى» 
أمّا والدي» فقد توبّحه إلى الرباط عبر بعض الطرق الملتوية. أمّا 
أناء فلقد قُيَضِ لي أن أشهد على حمّام الدم الذي كان المطار 
مسرحه. فرأيت كيف سقطت إحدى القذائف وكيف تلوّنت 
نافورة المطار بدماء الجنود الذين أدْوا التحيّة» قبل قليل» للملك. 
ببساطة» كانت مذبحة رهيبة! إنتهت مغامرتي بأن التقطني عن 
الطريق أحد ضبّاط الشرطة وذهب بي إلى منزل الوزير الأول 
وصهر الحسن الثاني أحمد عصمانء حيث إِنْ الضابط المذكور 
كان مسؤولا عن حمايته عصمان. حصّرت إلى منزل عصمان 
دورية لاستلامي. بادأ عصمان العسكريّين برفض تسليمي إليهم 
قبل التاكد من ولائهم؛ فما كان منهم إِلّا أن شهروا أسلحتهم 
مهدّدين إيّاه باعتبار أن الأوامر المعطاة لهم تقضي بحياطة كل 
أفراد العائلة الملكيّة الذكور نظرًا لما يحوط بهم من خطر. أصرٌّ 
أحمد عصمان على التأكد من ولاء هولاء العسكريّين وحماني 


85م 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


بجسده مغامرًا بحياته» ولم يسلّمني لهم إِلّا بعدما تعرّفت من 
بينهم على ضابط كان من الفريق المولج بحماية والدي. قضيت 
بقيّة ذلك اليوم وهم يتنقلون بي من مكان إلى آخرء ثم انتهى بي 
الأمر في منزل الآنسة جيليان» التي كانت تعلمني الإنكليزية في 
المركز الثقافي البريطاني والتي كانت تعطي دروسًا خصوصيّة في 
الإنكليزية لوالديّ أيضًا. ساعة دخل خطيبها علينا ظنّ الحارسان 
اللذان كلفا حمايتي أنه تعدف على هويّتي» وأنّ علمه بمكان 
وجودي قد يشكل خطرًا على سلامتي» فقاما من باب الاحتراز 
بتقييد الانسة وخطيبها! 

تحت جنح الظلام سار بي الحارسان إلى منزل قريبة لم تأنس أنّ 
منزلها آمن بما فيه الكفاية فأخرجتني من منزلها خلسة وتوجها 
بي» بناءً على اقتراحهاء إلى مكان قريب تبيّن لي لاحمًا أنّه السفارة 
البرازيليّة. هناك» مكثثٌ في القبو وحيدًا معزولا عن حارسَيّ طرفًا 
من الليل. كانت تلك من الساعات المحرجة في حياتي. لاحمًا 
فهمت أنه جرى تفريقي عمدًا عن مولاي رشيد وسيدي محمد 
الذي قل بعيدًا إلى إفران. كنت أتساءل بيني وبيني: هل يا ترى 
أرى مجدّدًا والدي وعمّي وسيدي محمد؟... في النهاية أفشل 
الانقلاب وعدت إلى المنزل بأمان. 

رأى القصرُ وأهله في انقلاب أوفقير المثال الأعلى في الغدر 
والخيانة. كيف لا وأوفقير دون سواهء هو الذي يفترض به 
أن يقف في الصفوف الأولى دفاعًا عن الملك وعن المخزن. 


6 / مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


خلاصة الأمر أن ملكيّتناء مع انقلاب أوفقير انضمّت إلى نادي 
الاستبداديّات الشرقيّة التي صنعها الاستعمار والتي تفتقد إلى أي 
عمق شعبي. مع انقلاب أوفقير» أصيب الحسن الثاني بأبلغ جرح 
في كبريائه. أمَا والدي فتوسوس بالسؤال: ”أين يكمن الخلل؟” . 
في إطار الظروف السائدة آنذاك كان تأويله لما جرى وصول 
مَدَ الأفكار الناصريّة المعادية للأنظمة الملكيّة والمؤمنة بالقوميّة 
العربيّة إلينا. لقد قامت ثورات في العراق وليبيا ومصر... والآن 
جاء دورنا. كان والدي مقتنعًا بأنه لا بد من استخلاص دروس 
مما جرىء وبأن المملكة يجب أن تتغيّر؛ ولكن الحسن الثاني لم 
يكن يشاطر والدي الرأي؛ بل كان يرى في خيانة أوفقير شيئًا من 
الهرطقة. شيئًا فشيئًا ازداد الملك توجسًا وتوحدًا وقسوة. كانت 
رواية القصر أن الجنرال أوفقير تورّط في محاولتين انقلابيّتين لا 
في محاولة واحدة, أنه بهذا المعنى» خائن مزدوج)» أن داعيته 
إلى الخيانة نما هي طموحاته الشخصيّة وتشوّقه إلى الاستيلاء 
على السلطة ولا شيء سوى ذلك. ولأنه كذلك؛ ولأنّ الخيانة 
والخائن قد استئصلاء فليس إِلّا أن تعود الأمور إلى نصابها وأن 
كان روف أوفقيرء بكر الجنرال أوفقير» واحدًا من أعرّ أصدقاء 
والدي ومن أقربهم إليه وأكثرهم زيارة له. كانا يترافقان في 
وسواها. بعد الانقلاب» عفو الخاطر» سألت عنه؛ فكان الجواب 


85 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أن أكفٌ عن السؤال وأن ألزم الصمتء إلى أن قيل لي يومًا إن 
توفي في حادث دراجة ناريّة في إسبانياء وإن التفوّه باسمه من 
الممنوعات. عرف والدي أن أفراد عائلة أوفقير معتقلون في 
سجون سريّة متفرّقة» كما أدرك أن الحسن الثاني يُنزل بهم شيئًا 
أشبه بالانتقام الشخصي. ولا عجب أن عرف ذلك وأدرك ذاك 
باعتباره أقام لسنوات عدة يمد ”المفقودين" سرًا بالملابس 
والمأكولات والكتب عن يّد أحد مساعدي الملك الذي اتّفق أن 
كان أيضًا والد زوجة الجنرال أوفقير» العقيد الشنا. مّات عديدة 
أنب الحسن الثاني والدي على ذلك وعلى تحدّيه لسلطته. لقد 
عرف والدي أيضًا أن متآمري ١917١‏ معتقلون هم أيضًا في 
سجن رهيب معزول وأنَ الواحد منهم كان لا يُميّر عن الآخر إلآ 
لأن اسمه قد كتب على باب زنزائته الفرديّة» ولكنّي أشكٌ بأنّه قد 
عرفء منذ البداية أن السجن يقع في تازمامارت. 

لسنوات طويلة لم يعرف أحدٌ أي ثقب أسود ابتلع المتآمرين. 
كل ها كثا اصرف أن .ثتها أسوة حرعقا تقد له الأبدان وتضطك 
له الأسئان قد ابتلعهم؛ ولعلّ هذا ما قصد إليه الحسن الثاني من 
تجهيل مكان اعتقالهم. 

شخصياء لم أسمع بتازمامارت إلا في عام ١89‏ في سياق 
حديث مع والدة طارقء زميلي في المدرسة الأميركيّة في الرباط. 
كانت نانسي الطويل» والدة طارق الأميركيّة والمسؤولة السابقة 
عن المكتبة في المدرسة المذكورة» زوجة لأحد الطيّارين 


// 8 
الفكر الجدي 


<كجكر 


المعتقلين. ذات يوم طلبت منّي بلطف أن أخبر والدي أنها 
ترغب في لقائه. ركبتٌُ لها الموعد ولم يُسمح لي بحضور اللقاءء 
ولكني علمت لاحمًا أنّ والدي قال لها: ”سيدتي, لا أعرف عن 
مصير زوحك شيئًا ولو أنني على ثقة بأنه أنهى محكوميّته*. وفي 
ما قاله والدي لنانسي الطويل اعتراف ضمني بأنَ المسألة انتقام 
شخصيّ وتصفية حسابات» لا عدالة وأحكام. 

بعد شهرين تحرّى خلالهما والدي عن الرجل تواصل مع 
نانسي الطويل وحذّرها: ”يا سيّدتي, إن الأمر أعقد ممّا تظنين. 
إصطحبي ابنك وعودي إلى الولايات المتحدة". سمعت نانسي 
نصيحة أبي ولكنّها لم تعمل إلا بشقّها الثاني. لقد عادت فعلا 
إلى الولايات المتحدة ولكنّها لم تستسلم أبدًا ولم تتخل عن 
نضالها من أجل إطلاق سراح زوجهاء وبالفعل فإنّ تحرّكاتها 
دفعت السفارة الأميركيّة في الرباط إلى البحث عن الطيّار إمبارك 
الطويل وإلى تحديد مكان اعتقاله» وبعد ذلك نجحت السفارة» 
بفضل الضغطء أن تضمن له الحدّ الأدنى من ظروف الاحتجاز. 
إقرأة #حاعة بحقا, 

في السبعينيات» لم أشعر باستبداد المخزن تجاهي إِلّا في 
. مناسبات نادرة. كنت ألتقط أحيانًا شذرات من أحاديث يُهمس 
بها في المنزلء كأن يأتي أناس إلى والدي يرجحون مساعدته وهم 
يتكلمون عن حالات ”اختفاء“... ولكن الكلام كان يصلني 


مُبهمًا مجرّدًا من التفاصيل. كل ما كنت أعرفه هو أن الجنرال 


4م 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أوفقير من الملك- بالمصطلح التراثي - في منزلة ”الوزير“؛ علمًا 
بأن هذا المنصب وامتيازاته لم يوضعا موضع الشك بعد أوفقير 
الذي تزيد الرواية الرسميّة بأنه انتتحر! أما السبب من وراء الابقاء 
على هذا المنصب فحاجة النظام الملكيّ إلى رجحل قويّ. يكون 
في محل صما الأمان الجاهز للاحتراق لضمان إطالة عمر 
النظام بفضل القمع. تاريخيّاء كانت هذه الوظيفة منوطة بأقرب 
مساعدي الخليفة العبّاسي» الوزير» وهو مصطلح يشير صراحة 
إلى تفويض للمسرولية أكثر ممّا هو تفويض للصلاحيّات. أمّا في 
المغرب فقد برزت وظيفة الوزير في القرن الئالث عشر» تحت 
حكم الدولة المرينيّة» وبقيت من ذلك العهد ملازمة لمشهدنا 
السياسي . منذ استقلال المغرب في عام .١94655‏ تعاقب على 
هذا المنصب ثلاثة رجال بارزين» شغل المنصب كل واحد منهم 
لفترة معيّنة» وجسّد خصائص معيّنة. ومن اللافت أن كلّ واحد 
من هؤؤلاء وافق نموذجًا من النماذج الثلاثة المعروفة تاريخيّاء 
وهي العسكريّ ذو الطموح الجامحء والبيروقراطيٌ صاحب 
المهارة التقنيّة» وأخيرًا صاحب الحظوة» وهو الذي يُفترض 
أنه الأكثر ولاء. بعد الجنرال أوفقير الذي مارس القمع وشارك 
بنفسه أحياناء بوصفه عسكريًا في المواجهات؛ جاء دور أحمد 
الدليمي ومن بعذه إدريس البصري» و علي الرغم من أنّهم تولوا 
جميعًا المنصب نفسه. فلقد كان كل واحد منهم ذا شخصيّة 
مختلفة تناسبت مع أو ضاع البلاد الاجتماعيّة والسياسيّة. هكذا 


8 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تطوّرت منهجيّة الحكم من القمع العسكريٌّ العاري إلى أساليب 
أكثر دهاءً توسّل بها الكولونيل الدليمي» على الرغم من خلفيّته 
العسكريّة؛ حيث إِنّه كان شغوفًا بجمع المعطيات الشخصيّة 
وب”فبركة“ الملقات. أمّا البصريّ» فكان نموذجًا للشرطيىٌ 
المنحدر من المغرب العميق وصورة كاريكاتوريّة عن ”"صاحب 
الحظوة“»؛ الوفي للملك صاحب الفضل الوحيد عليه في ارتقائه 
لم المشواولية. 

من أوفقير إلى البصري مرورًا بالدليمي تكرّس شيئًا فشيئًا الابتعاد 
عن فرنسا. لقد كان الجنرال أوفقير مغرييًا - فرنسيّا من أصل 
أمازيغيّ يُوثْر الحديث بالفرنسيّة» وفي هذا لربّما ما يفسّر أن 
الفرنسيّة هي الأشْيّع في غرف التعذيب المغربيّة. أما الدليمي 
فكان مغربيًا يحبٌ أن يبدو عصريًا. كان قليل الكلام ذا بلد على 
العمل ومثابرة. بخلاف أوفقير كان حريصًا على حياته الشخصيّة 
وعلى تقليديّتهاء يُحسن اختيار المساعدين على الرغم من 
محاولات الحسن الثاني لتوريطه في لعبة المُجون. كان الملك 
يقدّر الدليمي لكفاءته وسريّته» إلى أن تم التخلص منه في كانون 
الثاني (يناير) عام ١9/8‏ في حادث سير مديّر. أخيرًا هناك 
البصريء ”البدويّ"“ الذي أصبح شرطياء والذي انّخذه الحسن 
الثاني شاويشًا يمارس القمع باسمه ومن خلاله. ولعلّ أحدًا لم 
يُحسن وصف البصري كما الحسن الثاني نفسه. حيث سأله يومًا 
رئيس دولة صديقة: ”لماذا تُبقي البصري في منصبه؟“؛ فأجاب 


<كجكر 


الملك: ”في كل حمّام لا بد من منشفة“! 

كان للجنرال أوفقير قدر كبير من النفوذ على الحسن الثاني الذي 
ترعرع تحت ناظريه» فكان يتجرّأ عليه أكثر من أي شخص آخر؛ 
بل يمكن القول إن شيئًا من الحميميّة كان يتخلّل علاقتهما. 
كان أوفقير مدمئًا الكحول حنّى إِنّْه في بعض المرّات» كان 
يغادر منزلنا مترنْحَاء أو يستلقي على أريكة للنوم بعد الإفراط 
في الشرب. كان أوفقير مخيقًا في كل أحواله. كان أبي وأوفقير 
يلبسان القياس نفسه من الملابس» ولا زلت أذكر أنه كان يمر بنا 
أحيانا ليأخذ برّة أو برّتين إيطاليّتين من خزانة أبي. كان والدي؛ 
مرّات» يهديه البرّة» وفي مرّات أخرى كان يأتي بنفسه» في غياب 
أبي» ويختار ما يشاء دون حرج ويقول لنا: ”لطا قولوا للأمير 
ني أخذت برّة إيطاليّة“؛ فلا يجرو أحد على التعقيب. 

هاكم قصّة أخرى عن الجنرال أوفقير تُغني» ربّماء عن مطوّلات: 
كان أحد العاملين لدى والدي يحلم بالحصول على سيّارة 
جديدة, ولأنه كان يُدرك أنْ الجنرال هو الوحيد القادر على 
تحقيق حلمه؛ فلم يككفٌ عن التودّد إليه راجيًا منه المساعدة في 
ذلك والجنرال يعد ولا يلبّي. لم ييأس صاحبنا ولم يقنُط وجاءت 
ليلة حظه خلال سهرة في بيتنا شارك فيها أوفقير. ليلتذاك» ألحّ 
الرجل في السؤال» فما كان من أوفقير إلا أن تناول بطاقة شخصيّة 
وكتب على ظهرها بخط يده: “الرجاء تسليم سيّارة إلى حامل 
هذه البطاقة". في اليوم التالي توبّحه الرجل إلى شركة صوماكا 


1 1١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


وهي المؤسّسة الرسميّة التي تقوم بتجميع السيّارات المستوردة 
وحصل على الفور على السيّارة التي يحلم بها. حتّى الحسن 
الثاني لم يكن ليستطيع إسداء ”خدمة” من هذا القبيل. منتهى 
ما كان بوسعه لربّما هو أن يوقع على كتاب رسمي تحت طائلة 
أن يُتحرّى عن صحّته. أمَا أوفقير فكان حسبه أن يدوّن بضع 
كلمات على بطاقة شخصيّة. كان اسمه كفيلا ببث الرعب وبفتح 
كل الأبواب. 

بخلاف أوفقير كان الدليمي نموذج الاستبداد الإداري الممنهج, 
صناعة ”حَسَنيّة “ خالصة أنضجها الملك على مهل. أمّا البصري؛ 
الذي عُيّن وزيرًا للداخلية في آذار (مارس) 219175 فلم يكن 
أكثر من مأمور ينفذ التعليمات التي يتلقّاها أو قل كان وزير تنفيذ 
لا أكثر ولا أقل. كانت أصوله الشعبية تزن في ميزان الحسن 
الثاني. فبفضل هذه الأصول كان يضغط على الفاسيّين» عصب 
البورجوازيّة التقليديّة في المملكة. 

كان الحسن الثاني معجبًا بخشونة إدريس البصري حدٌّ أن أصبح 
هو بنفسه يحبّ أن يبدو في مظهر البدوي الساذج. إذ كنا نتنزّه 
فى أخد شوارعباريس قال لى الحم الفانية ”لو لم أكن ملكاء 
لكنت رئيس عصابة أو متعم حي من الأحياء". لم يكن إفصاحه 
عن هذه الميول بالأمر المفابديه قا 

في بداية الأمر كان إدريس البصري نظيف الكفٌ عصيًا على 
الإفساد وهذا مما يُحسب له ولااسييما أنه كات مكلفا مراقة 


0 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


العسكريّين» وعليه» فقد كان مطلعًا على الثروات التي يستحوذون 
عليها بلا حسيب ولا رقيب. إلا أن الحسن الثاني حرص بعناية 
على توريطه في الفساد. ففي عرفه, ليس للرجل أن يكون وزيره 
وأن يتفوّق عليه في الورع وفي النزاهة؛ ولا سيّما متى ما يتعلق 
الأمر بالمال العام. ثم إِنْ من وظائف البصري أن يحتوي المقت 
الشعبي» ومن هنا فققد كان لا بد من تلطيخ صورته لتناسب المهمّة 
الموكولة إليه. إننظر الملك أن يحصل نجل البصري على شهادته 
الجامعيّة» ثم استدعاه هو وأباه وفؤاد الفيلالي» رئيس شركة 
أومنيوم شمال أفريقيا (أونا)» الشركة المخزنيّة القابضة المترامية 
الأطرافء التي تسيطر على جزء كبير من الاقتصاد المغربيٌ؛ 
ووضع أمامهم عقدًا تجاريًا جاهرًا يربط بموجبه البصري الابن 
بشركة أونا في مشروع خليج بوزنيقة العقاري المربح. لم يكن 
أمام الشريكين إِلّا أن يوقّعا العقد تخت أنظار الملك؛ وهذا ما 
كان. منذ تلك اللحظة وجد البصري نفسه متورّطا في الفساد 
العام وقد لاحقه هذا التورّط حبّى آخر أيام حياته. لقد سار بقدميه 
إلى الفخ الذي نصبه له الحسن الثاني وارتأى أن تُصفد يداه 
بالشّبهة ومن ثْمَ لم يعد يشكل أدنى تهديد للعرش. ولو أنه تمتّع» 
لْعَرَلَهُ الملك شأن كلّ من سوّلت له نفسه النزاهة! كان الملك 
بارعا في إفساد ذمم المقرّبين منه: يتحيّن الفرصة المناسبة كما 
يترصّد الصيّاد فريسته. بمكره وصبره كان قادرًا على استنزاف 
الناس والأشياء وعلى إخضاع الجميع لمشيئته. 


0 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بعد محاولتَئْ الانقلاب» تحوّل الحسن الثاني إلى طاغية بكل 
ما للكلمة من معنى. لم يبال بالسمعة السيّئة التي تحوط بإدريس 
البصري بين الناس» بل ارتاح لذلك. كان سعيدًا بأنَ في تصرّفه 
ورهن إشارته فزّاعة طيّعة» ومن ثم فلقد كان يشعر حياله بشيء من 
المودّة - تلك المودّة التي نكنّها لمن ينفعنا من موقع الضعف. 
إستمر البصري طويلًا في منصبه؛ لأنه» كما كان يحلو له أن يقول 
عن الفسهة "لقد تركت السلم كلقى على الأررض: يحعتى أنه 
لم يسع إلى التسلّق إلى أعلى. علاوة على ذلكء؛ لم تكن بين 
يديه مقدذرات حقيقية. فلم يكن له من نفوذ على الجيش ولو أن 
الحسن الثاني كان يستغله للجم الضبّاط الكبار وتحجيم قوّتهم, 
فبقيت المؤسّسة العسكريّة خاضعة للقصر. كانت سيرة كل 
ضابط تمخحص بعناية فائقة» وإذا ما اقتضى الحال أن يوظف هذا 
التفصيل من تفاصيلها لوقف ترقيه في الرتب والمسؤوليات حذر 
أن يتحوّل يومًا ما إلى ”نجم“ أو إلى ”بطل*» كان هذا التفصيل 
ينبش ويوظفء أما حركة القطّع العسكريّة» فكانت دائمًا تحت 
المجهر بما ليدع مجالا للمفاجآت السيئة! 

علاوة على هذه الإجراءات كان في القصر خط دفاع آخر قوامه 
الحاشية المقرّبة من الملك. فوراء خط الدفاع المتوسّل بالقمع 
اليدويّ الذي يقف عليه الجنرال محمّد أوفقير والجنرال أحمد 
الدليمي ثُمْ وزير الداخلية إدريس البصريء كان رجال آخرون 
يخططون وينقّذون عمليّات خاصّة ويرعون أجهزة استخباراتية 


نك 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


موازية تعمل على حماية السلطة. من هؤلاء ملا الجترال مولاي 
حفيظ» وهو من أبناء عمومة الحسن الثاني» أو محمد المديوري» 
المسؤول عن أمن القصر حتى عام .١99/‏ 

إلى هرلاء كان الحسن الثاني يتكل كثيرًا على رجلٍ أعور مقوّس 
السّاقين أحاطت به على الدوام هالة من الغموض غرف باسم 
فضّول وكان يتلقى أوامره من الملك مباشرة. كان فضّول على 
رأس جهاز غرف بالسرايا البتدبكة أو "ب أب *". يتسب 
إليه الختظاف عادة من أعداء النظام الحقيقيّين أو المفترضين. 
من الأسماء التي أطلقناها سيدي محمد وأنا على الملك. كان 
اسم فانتوماس أو الشبح. فكناء إذا ما استدعانا الملك في ماخير 
الليل» نتبادل نكتة مفادها ”إذا ما استبدٌ الغضب بالشبح فاعلم أن 
فضّول في الجوار“. 

في الختام لا بد من كلمة سريعة عن الأخير في فصيلة ”الوزراء". 
بعدما أقال الملك محمّد السادس إدريس البصري في تشرين 
الثاني (نوفمبر) 2١199‏ تقلّد المسؤولية الأمنيّة الأولى في 
المملكة فؤاد علي الهمة» ”رفيق“ الملك وزميله في الدراسة 
في المدرسة المولويّة. هل أخطأ الملك في الاختيار؟ على 
خلاف أسلافه, لم يكتب للرجل إلآّ معموديّة نار واحدة تمدّلت 
بالتفجيرات الإرهابية التي وقعت في الدار البيضاء في ١‏ 
أيار (مايو) 23٠١‏ حيث لم تنجح أجهزته في استباق هذه 
التفجيرات, التي تلتها حملة قمع أمنية واسعة النطاق. 


ه١0‏ 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عام 27٠٠0‏ ومع احتفاظه بالحظوة لدى الملك؛ كلّف فواد 
على الهنقة بإعادة ترثيب: المشهد السياسي. الداغخلى: من 
إذاك تخلى النظام عن منصب الفرّاعة الذي كان يحتله هؤلاء 
”الوزراء“؛ ولكتّه لم يتخلّ عن عاداته القمعيّة» سواء في تعاطيه 
مع الإسلاميين أو في تعاطيه مع المتظاهرين الشباب من حركة 
٠‏ شباط 701١١‏ 

بهذا المعنى يُمكن القول إن التسأّط قد 7 تحوّل من النظام إلى ما 
يشبه الطنع وبرغم كل ما قيل عن تَطبُع النظام بطبع جديد مع تبو 
“ملك الفقراء“ الشاب العرشء فلا يبدو أنّ حليمة قد غيّرت حقًا 
من عاداتها القديمة! 


45 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


الفصل الثاني 
مسار أميركي 


بعد خمسة عشر يومًا من محاولة الانقلاب الثاني على الملك 
الحسن الثاني ١7(‏ آب »)١3377‏ انتقلتٌ إلى المدرسة الأميركيّة 
في الرباط. أدّت جدَّتيء والدة أبي» للّا عبلة» دورًا حاسمًا في 
ذلكء إذ استشعرت التوثّر المتصاعد بيني وبين ابنعمّي وحاولتٌ 
جهدها رأب الصدع بيننا. رضخ الحسن الثاني لرغبة والدته 
ولرغبتي واقتنع بضرورة مغادرتي للمدرسة المولويّة وتتائجها 
المفبركة على أيدي المتملقين تفاديًا لتدهور علاقتي مع ولي 
العهد ومعه. كان ذلك إِلَا أنه شرط ضوءه الأخضرٌ بعدم التحاقي 
بمدرسة فرنسيّة» وبأن أخوض ”تجربة جديدة”» فبذلك يتجتّب 
القيل والقال وأن يُشاع بأن ”مولاي هشام غادر القصر“. حزن 
سيدي محمد لفراقي وحزنتٌ بدوري لفراقه. على المستوى 
الشخصي كان سيدي محمد مني بمثابة الأخ الأكبر. طوال 


/ا5 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


سنوات» بعد مغادرتي المولويّة؛ لم أكف عن المرور بها لتناول 
العشاء معه. أيّامذاك وكانت مناصبنا في إطار النظام الملكىّ 
مجرّد مواقع مستقبلية في عيون الناس؛ كنا متناغمين على أكمل 
وجه. من وجهة نظر سياسيّة بدا توقيت انتقالي من مدرسة إلى 
أخرى في غير محلّه. فلقد نجح بعض حاشية الملك بإقناعه أن 
الانقلاب ما كان ليحدث لولا تشجيع أهل القرار في الولايات 
المتحدة وموافقتهم, وإِلا فكيف يفسّر المرء أن المقاتلات التي 
اعترضت الطائرة الملكيّة أقلعت من قاعدة أميركية في القنيطرة 
شمال الرباط؟ إتّخَذْ القصر مجموعة من الخطوات الدبلوماسية 
والرسميّة إزاء واشنطن للتعبير عن ”استيائه البالغ“» فما كان من 
الرئيس ريتشارد نيكسون إلا أن أرسل ثائيه سبيرو أغنيو إلى 
المغرب للتهدئة من روع الحسن الثاني» وقد نجح في ما يبدوء 
إذ عادت المياه ظاهرًاء على الأقل» إلى مجاريها. 

المدرسة الأميركية التي التحقت بها هيء في الواقع» مدرسة دوليّة 
يرتادها أبناء الجاليات الأجنبيّة وجلّهم من الدبلوماسيّين غير 
الفرنكوفونيين. في هذه المدرسة نسجتٌ لأوّل مرّة صداقات 
حقيقية. ظل عمّي الحسن الثاني» يتابع دراستي عن كثب» 
مذكراء إياي كلّما سنحت له الفرصة وبدُعابة أنّني ”تأمركت"» 
كانت تلك أول المرّات التي سمعت فيها هذه العبارة التي لم 
تلبث أن قيلت لي مرارًا وتكرارًا. 

رغم انتقالي من المدرسة المولويّة إلى المدرسة الأميركية؛ 


14 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بقيت علاقتي بعمي الملك متينة» ولا سيّما أن كلينا كان يهوى 
ركوب الخيل. كانت الفروسيّة من الرياضات المحيّبة إلى 
الحسن الثاني» وقد داوم عليها متّخدًا إِيَّاها متنفسًا حتّى أواسط 
الثمانينيّات. كنت أقوم منه مكان السائس حيث كان لي إذ ذاك 
اسطبليّ الخاص؛ وكنت قد شاركت في عدد من المباريات. 
كلّما عَنّ له أن يقوم بجولة» وكان ذلك يعُنٌ له غالبًا في نهايات 
الأسبوع» كان يتصل بي ويسألني أن أعدّ المطايا. بدوري كنت 
أنُصل بالحرس الملكيّ طالبًا منهم أن يحضّروا لنا خيولنا. وغالبًا 
ما رافقنا في جولاتنا تلك وليّ العهد. والكولونيل جان بير 
لافوري المسوول عن الإسطبلات الملكيّة. 

ذات يوم؛ خلال جولة لناعلى صهوات الجياد بعد عودة الحسن 
الثاني من زيارة رسميّة إلى الولايات المتّحدة» توقفنا للاستراحة؛ 
فأخرج الملك من جيبه دولارًا مثقوبًا وقدّمه لي قائلاً: ”هو لك 
أنتَ المعجب بعالم رعاة البقر الأميركييّن“. كان دولارًا قديمًا 
من ولاية كولورادو أو أركنساسء اخترقته رصاصة حقيقيّة. 
حرت في تأويل هديّته. هل عنى بذلك أن الدولار أصبح مثقوبًا 
وفقد قيمته, أم رأى في هذا الدولار المثقوب برصاصة تعويذة؟ 
لم أفقه حتّى اليوم قصده من تلك الهدية. في اليوم نفسه؛ أهدى 
الملك لسيدي محمد قطعة نقدية تذكاريّة كت عليها صورة 
جدّنا نحن الاثنين الملك محمد الخامس. لم تكن الهديّتان 
متكافئتين» وإذ تنبّه للأمر عاد فأهداني قطعة مشابهة لتلك التي 


145 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أهداها لولّي العهد. تصرّهًا تلو آخرء كان الحسن الثاني يثبت 
إتقانه التلقب بالآخرين: يقبض ويبسطء يعد نم يدني في الوقت 
المناسب لكلا يقطع شعرة معاوية. 

شيئًا فشيئًا تحوّلت مدرستي الأميركيّة الجديدة ملاذًا لي وجدت 
فيه حياة طبيعية. طوال دراستي لم أنقطع عن القيام بواجباتي تجاه 
عمّيء فكنًا نلتقي مرتين على الأقل خلال عطلة نهاية الأسبوع 
ولا أغيب عن أي حفل أر عيد. ذات عام» وبسبب ارتباطي 
بمباراة بايس بول تغيّبت عن معايدته بمناسبة العيد» فقامت قيامته 
واستدعاني ليعاتبني 5 قائلًا: ”ألم يكن باستطاعتك التغيّب عن هذه 
المباراة؟ العيد لا يأتي إلا مرّة واحدة في السنة!“. 

هذه البطولة أيضًا 

الفرق هائل بينهما كالفرق بين السماء والأرض! 

لم يكن لتباين آرائنا في تلك الفترة طابع سياسيّ إِلّا في ما ندر. 
يوم عرضت المدرسة الأميركيّة فيلم الريح والأسد» وموضوعه 
تمرّد أحد زعماء الريف على الحكم, (وهو فيلم يلعب فيه شين 
كونري دور البطولة إلى جانب كانديس بيرغن وبريان كيث 
وجون هيوستن)» غضب الملك الحسن الثاني وأمر بوقف 
اح ا سير 
والده. واستدعى سفير الولايات المتحدّة. أمَا أناء فقد شرح لي 
أنه: ”لا يليق قتل أي ملك بل ينبغي دفنه والحداد عليه“ . وقد ردد 
على مسامعي هذه الجملة مرّات ومرّات. 


<كجكر 


في حادثة أخرى دخل إلى غرفتي واسترعى انتباهه كتاب تاريخ 
مدرسي فيه فصل عن الإسلام» وإذ تصفحه وجد صورة لمحمد 
الخامس وهو يصليء, فاستدعى» مرة أخرىء السفير الأميركي 
ومدير المدرسة الأميركية وطلب منهما تغيير الكتاب لأن الصورة 
في نظره ”أخرجت عن سياقها المغربيَ“. شرح له مدير المدرسة 
أنه لا يستطيع ذلك لأن هذا الكتاب جزء من المنهج الدراسيّ 
المتبّع في سائر المدارس الأميركية على مدار العالم أجمع. تحت 
إلحاح الحسن الثاني» اقتُطعت تلك الصورة بالمقصٌ من جميع 
الكتب المستخدمة في المغرب! 

رغم مغادرتي للمدرسة المولويّة» ظلّ العالم الذي أترعرع فيه 
فريدًا من نوعه. أولاء كان برنامجي اليومي مزدحمًا بالأنشطة. 
فعلاوة على المدرسة والواجبات المنزليّة» كان عليّ أن أتابع 
ساعتين في اليوم» بما في ذلك أيام السبت» دروسًا في اللغة 
العربيّة» كذلك كان عليّ أن أتابع يومي الأربعاء والسبت تمارين 
الفروسية؛ لأنّ كل أمير علوي يجب أن يتقن ركوب الخيل؛ وبعد 
الفروسية تمرين العَدُو عند الساعة الخامسة والنصف»ء ثم حصّة 
فنون الدفاع عن النفس التي كان يفترض بكل ذكور الأسرة 
المالكة أن يتعلموا مبادئها. ضف إلى ذلك تمارين المبارزة 
وحصّة الرياضة الجماعيّة مرّة في الأسبوع؛ مثل الكرة الطائرة أو 
كرة السلّة. أخيرّاء وقبل كل هذا هناك التربية الدينيّة» حيث كان 
الأزهري المرموقء الشيخ إبراهيم عطية الشواظفي» مع عدد من 


0 ١١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الأساتذة المغاربة يتولّون تلقيني مبادئ التربية الإسلامية والتاريخ 
الدينيّ. 

حضرت الازدواجيّة أو قل الانفصام في كل شعاب حياتنا. 
بعد هذا البرنامج اليومي الحافل» كنت أعود إلى البيت» فلا 
جد حميمتة العائلة وعفويتهاء يل أبخد والذي متحاطا بتحاشية 
من المتملّقين» فكان عليٌ» حتّى ساعة متأخرة من الليل في 
كثير من الأحيانء أن أفتعل البشّر لأبدو لائقًا أمام الضيوف» 
شيئًا فشيئًا تمرّست على ذلك. خلال عطلة نهاية الأسبوع 
كان القصر الملكيّ يشهد مسرحيّة تجمع بين العبثيّة والتعليم. 
أيُامهاء كان سيدي محمّد يعاني مثلي» وربّما أكثر متتي» من 
هذه المسرحيّة التي يفرضها المخزن علينا باسم العادات 
والتقاليد. فلقد كان سيدي محمد منكوبًا بوزير مهمّته أن يعنى 
بتعليمه» فكان هذا الوزير يلقّنه خطبًا مثيرة للسخرية وكان 
عليه هو أن يتمرّن على إلقائها. فبرنامج حفل التخرّج السنوي 
وتوزيع الشهادات في المولويّة كان يتضمّن خطايًا يلقيه ولي 
العهد. لم أغب عن هذا الحفل السنوي حتّى بعدما غادرتٌُ 
المدرسة المولويّة. كناء سيدي محمّد وأناء متعاهدين على 
ألا يتخلّى أحدنا عن الآخر» وأن نحافظء أقلّه, على المظاهر. 
كانوا يلقّنوننا ويرغموننا على ترداد أشياء لا معنى لها. كانت 
خطبًا لا أول لها ولا آخرء كلها ثناءٌ على الملك وإِطنابٌ في 
مدحه. كنا نعاني في صمت لأن الأمر ليس بيدناء أما الحسن 


.6 4 
الفكر الجديد 


<جكر 


الثاني فكان يتلذّذ بكلٌ هذا المديح؛ وبأن يُنظر إليه كأنّه متريّع 
في سُدرة المنتهى. 

ليس من السهل على من لم يعش تجربة عالم مليء بالمتملقين 
وأفراد الحاشية أن يدرك حقيقته. فلأضرب مثالّا: ذات مدّة 
جمعنا الحسن الثاني لمشاهدة فيلم من أفلام رعاة البقر» حيث 
كان يحب مشاهدة الأفلام السينمائيّة في جوٌ عائليىٌّ. سأل الملك 
التقنيّ المكلّف تدوير الآلات عن عنوان الفيلم الذي سنشاهده 
فأجاب : آخر رصاصة من نصيبيء ثم أطفأ النور وبدأعرض الشريط» 
وإذ بالعنوان الذي يظهر على الشاشة بخط عريض هو: آخر 
رصاصة من نصيبك. لم يتشجّع التقنىّ المسكين أن يتفوّه بالعنوان 
الخكيشن امام الماك برغم عله أن الحس الثانى لى يليت أن 
يقرأ عنوان الفيلم بنفسه. نعم آنّدُ عند التقنيّ ذاك أن يبدو غبيًا من 
أن يقول ”حقيقة“ لا شأن له بها. 

ذات يوم في قصر الصخيرات» استيقظ الملك من قيلولته 
نشيطاء وصادف أن التقى في القصر أحد جلسائه المفضّلين 
الفقيه الركراكي, أستاذه السابق في المدرسة المولويّة» فاقترح 
الملك على الركراكي أن يرافقه 00 إلى الرباط» ولكن 
الركراكي اعتذر بطريقة ملتوية متذرّعًا أنه مضطر إلى العودة 
بسيّارته الشخصيّة للتوقف في الطريق لابتياع دواء ما. ألحّ عليه 
الملك مقترحًا أن يكلف من يبتاع له الدواء» لكن صاحبنا لم 
يغيّر رأيه فانطلق الملك وحده منزعجًا. بعد مغادرة الملك 


1 ١٠. 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


سالت الركراكي لماذا رفض الدعوة الملكية فاجااسي: وك 
لي أن أرافق الملك وكُلَي أسى أثني لم أرافقه ولكتني » لم انس 
من نفسي الاستعداد لأقصّ عليه حكايات مسليّة طوال ال ه؟ 
دقيقة التي تدومها الرحلة. لا تحضّرني إلا حكاية تدوم عشر 
دقائق فقطء وبعد ذلك سيصيب الملل الملكُ وستكون هذه 
المرة آخر مرّة يدعوني فيها لمرافقته. تذكر هذا الدرس لنفسك 
في المستقبل. لا تبذل نفسك دفعة واحدة» بل قطرة بعد قطرة» 
كالعنبر» إن لم تفعل فمصيرك أن تتحوّل إلى متاع يصلح مرة 
واحدة م ترهى ".. 

في مرّة أخرى تسلم الحسن الثاني سيّارة مرسيدس جديدة» من 
النماذج الأولى لفئة 0٠٠‏ أس. من المبتكرات الجديدة في هذه 
السيّارة أنه يمكن تدفئة مقاعدها بشكل منفرد. كنا في مدينة 
إفران» فماذا فعل الملك؟ دفَأ المقعد المجاور للسائق إلى الدرجحة 
القصوى حتّى يكاد الجالس عليه أن يحترق» وأخذ يتنقل من 
قصر إفران إلى مواضع مختلفة في المدينة» داعيًا خلال كل نزهة 
من أفراد الحاشية إلى مرافقته مدَّة قصيرة اختبارًا لردود أفعالهم؛ 
فمنهم من كابر وجذ» ومنهم من تمسّك بالمقبض وحاول بخفر 
أن يرفع نفسه عن المقعد» ومنهم من دس ملابسه تحت مخرته 
ليتحمّل الحرارة المنبعثة من أسفل. في ما بين ذلك؛ كان الملك 
يحافظ على تعابير وجهه وكأنّ شيئًا لم يكن. في نهاية كل جولة» 
كنا أنا وابن عمّي» ونحن ن الشاهدان المتواطآن على هذا المَقُلَبء 


0 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


نسأل الراكب كيف وجد السيّارة الجديدة» فتأتي أجوبتهم كلها 
مديحًا وإعجايًا. كانوا يفضّلون المعاناة بصمت على أن يغامروا 
بملاحظة تزعج الملك. الوحيد الذي تفاعل بشكل مختلف 
المذكور حنَّى التفت إلى الحسن الثاني وصاح: ”سيدناء مؤخرتي 
تحترق!“؛ فتوقّف الملك في وسط الطريق وخرج من السيّارة 
وهو يقهقه واستمرٌ يضحك إلى أن امتلأت عيناه بالدموع. لقد 
سه أن أحد المحيطين به نفحه؛ أخيرًاء نفحة صدق. 

أحاط الحسن الثاني نفسه بعدد من المهرّجين وكان أحبّهم إلى 
قلبه هو عبد الكريم لحلو؛ فإلى التعظيم والتبجيل كان الحسن 
الثاني بحاجة أيضًا إلى لحظات صدق وعفويّة تعينه على 
المحافظة على توازنه. في الحقيقة كنّا جميعًاء من حين لآخرء 
نودي دور المهرج أو المتملق للملك» ولكن من يرد أن يكون 
مهرّج الملك ونديمه. عن حق وحقيقة» فلا بد له من خيال في 
التذلّل والإبداع, لأن المنافسة قويّة. لكي تلعب دور المهرّج 
تلزمك أُولُا الشجاعة: ولكن أيضًا الكثير من الفطنة ومن سرعة 
البديهة» فدون هذه السرعة لن تستطيع اغتنام اللحظة المناسبة» 
وقوه البديهة. من هذا المنظور المزدوج» كان لحلو صاحب 
موهبة نادرة» بالإضافة إلى خصلة استثنائيّة: كان يخدم مصالحه 
دون الإضرار بمصالح الآاخرين؛ بل على العكس من ذلكء فإنه 
كان يحاول إفادة الآخرين؛ وهذا ما ميّزه عن سواه في البلاط 


١ 5 9‏ مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الملكىّ فبدا وكأنه كائن غريب قادم من .٠‏ الفضاء ء الخارجيٌ. 
أجمل إبداعات المهرّجين البلاغيّة والفكاهيّة تقتبس مواضيعها 
من سُخف أحاديث الحاشية. ذات مرّة في مدينة ا كان 
الطعام عبارة عن طاجين لحم بالباذنجان» فقال الملك ما 
معناه: ”إنّه طاجين رائع» وللباذنجان ميّزات نفيسة“» فانطلق 
الحاضرون يتسابقون في سرد منافع الباذنجان: إنه مفيد للصححة» 
يجب أكله كلّ يوم؛ لماذا لا يكثر الأطبّاء من وَصْفه وهكذا. بعد 
ذلك بشهرين؛ قدَّم إلينا الطاجين نفسه, فانزعج الملك وقال: 
”أبعدوا عنّي هذا الطبق؛ إِنّه يسبّب لي انتفاحًا في المعدة"» فإذا 
بالمتملّقين أنفسهم يُسهبون في ذم الباذنجان: ”نعم يا مولاي 
أنت على حق... الباذنجان ثقيل على المعدة» ويسبب مغصًا 
رهيبًا“. فإذا بالملك ينتفض في وجوههم: ”ألم تقولوا بالسنتكم 
نفسها خلاف ذلك لشهرين خليا؟ ألم : تقولوا إن الباذنجان رائع 
ومفيد؟!" ' خيّم صمت محرج إذ بدا وكأنَّ الملك فضح جريمة 
أفراد حاشيته بالجرم المشهود. ولكن المهرّج عبد الكريم 
لحلو. صاحب البديهة اليقظة» أجاب الملك مباشرة: ”ولكن, 
يا صاحب الجلالة» هل نحن في خدمة الملك أم في خدمة 
الباذنجان؟*, ضحك الجميع؛ معظمهم بتوتّرء ولكن الملك 
ضحك بحرارة. هكذا استطاع المهرّج أن ينطق بالحقيقة دون 
أن يجرح مشاعر أحد. 

الفكاهة بنت اللحظة والمناسبة» والمهرّج يلعب بالنار» وبهذا 


5م606 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


المعنى فاقتناص اللحظات المناسبة رهن بموهبة فذَّة. لقد بلغت 
براعة عبد الكريم لحلو ذروتهاء أقله في حضوري؛ خلال رحلة 
من الحجال وأصابها جميعًاء فارتجٌ المكان بهتاف المادحين: 
”برافوء لقد نال منها سيدنا بضربة واحدة! تهانينا!“ وبعد ذلك 
بقليل أخطأ الملك طريدته فصمت الجميع إلا لحلو الذي صاح: 
”برافو» سيدنا أنقذ نفسًا من الموت! يا لها من حكمة!“ 

كان الحسن الثاني لاعبًا ماهرّاء ولكن بما أنه صاحب الكلمة 
العليا في تقعيد اللعب فإن منازلته محفوفة بالمخاطر. بداية 
عميمي أن يُفقد الملك صوابه. كان لدى عميمي هذا فكرة 
راسخة: كان يحلم بالحصول على مأذونية سيّارة أجرة كبيرة. 
كلما زار الحسن الثاني الدار البيضاء كان عميمي يخترق حشود 
المواطنين ويسلمه. شخصيًاء رسالة يلتمس فيها الحصول على 
تلك الرخصة. بعد محاولات عذة أصبح الملك يتعةف علية 
وانزعج من إلحاحه. لقد أحسٌ الملك بنوع من التحدّي لأنْه لا 
يُحبٌُ أن يُمليَ عليه أحد شيئّاء ولكن اتفق أنَّ عميمي كان لا يقل 
عنادًا ويعتقد أن من حقهء باعتباره من رعايا الملك, أن يلتمس 
الرخصة من ”ملكه“ . وهكذا اشتعل بين الرجلين صراع خفيٌ 
يعكس بأمانة منطق المخزن وتوازنات قواه. 

كان عميمي جلودًاء فاستمرٌ في تسليم الرسائل إلى الملك كلّما 


2 ١١/ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


متحت لاساتيحةو] ستمرٌ الحسن الثاني في تسلّمها وفي إحالتها 
إلى الحاشية دون النظر في مضمونها. ودارت الأيام إلى أن وَبََدَ 
الملك نفسه يرعى يومًا مباراة في كرة القدم» نجح عميمي» وقد 
ارتدى قميص أحد الفريقين» في الخروج من بين الصفوف وفي 
التوجه إلى المنصّة الرسميّة وتسليم رسالة جديدة إلى الملك. 
قام الحسن الثاني باستدعاء المسؤولين عن سلامته وأنذرهم 
بأنّه في حال نجح هذا الرجل مرّة جديدة في الوصول إليه فإنه 
سوف يعاقبهم جميعًا. بعد فترة وجيزة» ذهبنا للسباحة» الحسن 
الثاني وسيدي محمّد وأنا. وبينما نحن في الماء بلباس السباحة 
برز من بين الأمواج عميمي وأخرج من سرواله القصير كيسًا 
من البلاستيك بداخله غلاف مختوم, ثْمْ اقترب من الملك فقبّل 
يده بشجاعة وسلّمه الكيس وانصرف! غلب عليّ الضحك كما 
غلب على ولىّ العهد في حين استشاط الملك غضبًاء فاستدعى 
المسؤولين عن سلامته وأنبهم بقسوة: ”في المرّة القادمة؛ 
سأخفّض رتب العسكربّين وأحيل الأمنييّن إلى التقاعد, وإذا لزم 
الأمر سوف أنقل محافظ المدينة من منصبه!“» ولكنه أرفق وعده 
لهم بتحذير صريح من أن يصيب عميمي أي مكروه نظرًا لمعرفته 
كبق حص فل عولاء.. 

إستدعت أجهزة الأمن عميمي» وأبلغته التالي: ”من اليوم 
فصاعدًاء كلما علمتٌ أن الملك قادم إلى الدار البيضاءء عليك أن 
تتقدّم بنفسك إلى السجن المركزيّ» وها هي زنزاتتك جاهرة! 


068 47 
الفكر الجديد 


<كجكر 


إن لم تفعل فإنّنا سنتولّى جلبك وفي هذه الحال لا تلومنٌ إلا 
نفسك!“» إمتثل صاحبنا للأمر وأصبح كلّما زار الحسن الثاني 
الدار البيضاء يذهب بقدميه إلى السجن. هكذا عادت العلاقة بين 
الملك وبين هذا الفرد من أفراد ”رعيّته“ إلى نصابهاء أي عاد 
ميزان القوى فيها إلى الرجحان لصالح الملك. وحصل الرجل 
بعدها على رخصة سيّارة الأجرة. لقد نال مبتغاه من المخزن 
ولكن في إطار القاعدة الذهبية الضمنيّة المقعّدة» التي مفادها: 
”لا عطاءًَ تحت الضغطء ولا عطاء بلا ضغط" . 

كان الحسن الثاني يتقبّل الدّعابة وريّما حتّى الانتقاد شريطة أن 
يكون التغير عنهما مكلفا بحسب مواضفاتك مطبوظة .ولا 
شك أن تقبّله هذا كان يمنحه شيئًا من المناعة. ولأنّ التحكم 
بخيوط اللعب وبالدمى في أطراف هذه الخيوط كان, في نهاية 
المطاف, بين يديه» فهو لم يكن يتردّدء إذا ما شعر بأنَ هذا 
الخيط أو ذاك يوشك على الانقطاع من أن يغيّر دور الدمية تفاديًا 
للقطيعة معها. أمّا في بعض الحالات القصوى لم يكن ليتردّد في 
القذف بالدمية تلك خارج المسرح كما فعل بالجنرال أوفقير 
وعائلته. في الحالات العاديّة كان يختار أن يُمَنّع القصاص الذي 
يريد إنزاله بما أوتيه من مكر ودهاء. حين بالغ والدي بمعارضته 
على سبيل المثال» أخضعه للإقامة الجبريّة مرّتين؛ في عام ١917‏ 
أسكنه في مدينة إفران وضرب حول منزله هناك طوقًا أمنيّا يقوم 
عليه جنود يحرسون الطرقات» وهكذا منع والدي من مغادرة 


1 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الحدود التي رسمها له. لا زلت أذكر أنْني زرته صحبة أختي 
يومّاء وأننا مُنعنا من القيام بجولة في السيّارة حيث أوقفنا الجنود 
عبد الاجر و خاطه الضايظ المنيةو ل قائلة: "سق يا صاحب 
السموء الأوامر المعطاة لي تقضي بعدم السماح لكم بتجاوز 
هذه النقطة" . 

قبل إقامة والدي الجبريّة قامت أجهزة الاستخبارات التابعة للقصر 
التنضّت على محادثة هاتفيّة بين والدتي وشقيقتها الكبرىء تناولتا 
خلالها ما أبداه العقيد القذافي من رغبة في الزواج بشقيقتهما 
الصغرى. لم تكن لوالدي ناقة في الموضوع ولا جمل. ولكن 
فكرة زواج ابئة الصلح الصغرى من الرئيس الليبيٌ واحتمال تقرّبه 
من الملك بالنسب أبمج غضب الحسن الثاني. فالحسن الثاني 
كان يرى في "زعيم ثورة الفاتح” رجلا للرصانة أرعن وعلى من 
يتعامل معه توخي أعلى درجات الحذر. من جهته لم يسامح العقيد 
الثوريّ الحسن الثاني على عرشه. لقد بادله الحسن الثاني سوء 
الظن فاعتبره صعلوكا نكرة أوصاته تقلبات الأقدار والصدف إلى 
عضي ' ليش عاذ لف آخية] #دخل المعرذترة وشوحوا للحسد 
الثاني أَنَّ القذّافي لا يكف عن طلب يد بنات العائلات الكبرى» 
وأنه عرض الزواج على عدّة أميرات سعوديّات دون طائل؛ وأنّ 
الأمر كله لا يستحقّ كل هذا الاهتمام. في أيٍّ حال لم يُكتب 
لمشروع القذافي الزواج من خالتي النور. 

أمّا الاقامة الجبريّة الثانية التي لا أتذكر ملابساتهاء فجاءت عقابًا 


1 ١0١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


على تصرّف يَدَّر من والدي واعتبره الحسن الثاني تجاورًا لخط 
أحمر. لقد أرسله مرّة أخرى إلى مدينة إفران وحدد بنفسه لائحة 
الأشخاص المسموح لهم بزيارته» وهي لائحة لم تنضمّن إلا 
أسرته الصغرى وعددًا قليلّا من أصدقائه المقربّين أَيّامِ الدراسة 
في المدرسة المولويّة برفقة أخيه الملك. كانت الرسالة واضحة 
للجميع: ”إنتبهواء مولاي عبد الله مصدر إشعاعات مضرّة 
ابتعدوا عنه . 

بعد سنوات على ذلكء يوم "١‏ أيّار (مايو) 4١5/0١‏ وإذ كانت 
”إشعاعات"“ والدي قد تفاقمت» نظمنا لهء بمناسبة عيد ميلاده؛ 
حفلة دعونا إليها لاثمئة وخمسين شخصاء ولاستقبال هذا العدد 
من المدعوّين» قمنا بتأهيل مضمار مزرعتنا في عين عودة حيث 
غطينا الأرضيّة الترابيّة بألواح من خشب. وكم كانت صدمتنا 
كبيرة عندما لم يتشبّع على تلبية الدعوة إلا ثلاثون من الأصدقاء 
الأوفياء. لحسن الحظ أن والدي تعامل مع الأمر بكثير من المرح 
والدُعابة» فدعا ضيوفه إلى خلع ملابسهم الأنيقة وتحوّلت السهرة 
إلى مباراة مرتجلة في كرة القدم. لا أشك بأن المدعوّين الذين 
لبوا الدعوة كانوا مدركين أن تلبيتهم لن تسر الملك. أمّا والدي» 
فلم يحفل بالأمر كثيرًا إذ اعتبر أن وضعه في الإقامة الجبرية لا 
يعدو مشهذا من مشاهد مسرحيّة طويلة... سيدي محمّد نفسه 
عوقب مرّتين بالإقامة الجبريّة. مرّة في ١587-١94١‏ وأخرى 
في ١984١98*‏ خلال إقامته الجبرية الثانية» استدعاني 


0 ١11 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الحسن الثاني ذات يوم في وقت متأخر وأخذ يلومني لتقصيري 
عن زيارة ابن عمّي في ”السجن” الذي زجّه فيه هو نفسه؛ أي 
أبوه الملك. لله في خلقه شئون. 

في عام 2١59174‏ توتّرت العلاقات بين والدي وعمّي فاستقال 
والدي من منصبه كممثل شخصيٌ للملك. كان الحسن الثاني 
قد عهد إليه بهذه المهمّة للاستفادة من شبكة علاقاته العربيّة 
وليطمئنٌ إلى تبعيّته للعرشء ولكنّ والدي سرعان ما تنبّه إلى شكليّة 
اللقب وخوائه. في البيت» توقّعنا هذه الأزمة قبل حصولها بفترة 
طويلة. وممَّن سعى إلى تأجيجها مستشار الملك أحمد بنسودة. 
بالتعاون مع مستشار آخر هو أحمد رضا إكديرة» نجح بنسودة 
في ذر الشّقاق بين الملك وأخيه. كان أحمد بنسودة متخصّصًا 
في الفقه الإسلامي» وكانت مهمّته إلى جانب الملك حراسة 
تقاليد العائلة العلويّة واليات عمل المخزن. في الحقيقة كان 
الملك محاطا بالعديد من حرّاس التقاليد» وكثير منهم تخرّجوا 
من جامعة فاس» وكان كل واحد منهم متضْلَعًا في جانب معيّن 
من هذا الباب من أبواب العلم. إستغل بنسودة قربه من الملك 
وراح يهمس في أذنه أن على والدي ألا يذكر في أحادينه العلنيّة 
أنه ابن هقد الكامن وا كبا تعيدة لضرورة ازيم قا يشدكل 
تهديدًا في يوم ما. مع الوقت أصبح الحسن الثاني أكثر حذرًا 
وتوجسًا من والدي وأصبح أكثر حساسيّة حيال بعض التفاصيل. 
خلال زيارة قام بها الملك إلى إسبانيا صحبة والديء» استقبلهما 


حل 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الملك خوان كارلوس في لاس بالماس. هناك اختلى الملك 
الإسبانيّ بوالدي لبضع لحظات فاستاء الحسن الثاني وأسرّها 
في نفسه. ولكنّه. بعد عام كامل» وفي سياق مشادّة كلاميّة بينه 
وبين والدي ذكره بالواقعة قائلا: ”لقد أهنتني أيّما إهانة عندما 
تركتني وانفردتٌ بالحديث مع الملك خوان كارلوس. ثم إِنَْك 
لحري بموضوع جيلردجها . ماهذا التكنّم؟"”» فأجابه مولاي 
عبد الله: ”انطلاقًا من احترامي لك لم أشركك في الأمر“. لقد 
قال لي خوان كارلوس ماز نحا :”يدو أن السلطات الفرنسثة مقبلة 
على اعتقال مدام كلود. ما حيلتنا من بعدها؟!»: في تلك الفترة؛ 
كانت مدام كلودء واسمها الحقيقيّ فرناند غرودي تتزعَم شبكة 
ترود النخبة السياسيّة وأثرياء العالم بالعاهرات من الطراز الرفيع. 
إنضم آاخرون من الحاشية إلى الفريق المناوئ لأبي» ومنهم أحمد 
باحنيني رئيس الوزراء الأسبق وأحمد السئوسي الذي تولى 
مناصب شنّى منها سفير المغرب في الأمم المتحدة» بتأثير من 
هؤلاء جميعًا راح الحسن الثاني لا يتورّع عن إهانة مولاي عبد 
ال عادطة وعن تقليص مهامّه بتجاوزه وعدم الأخذ برأيه. ذات 
مرّة كان والدي في لقاء مع الملك خالد, فأخبره هذا الأخير أنه 
استقبل للتو مبعوثًا من الحسن الثاني جاء يطلب منه ألا يلتفت 
إلى ما سيقوله له مولاي عبد الله. كان رد فعل والدي ذكيًا: 
طلب من الوفد المرافق له أن يعود إلى المغرب على متن الطائرة 
الخاصّة نفسها التي وصلوا على متنهاء وانطلق في رحلة صيد 


0 ١١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


دامت خمسة عشر يومًا في الصحراء مع الملك خالد. وعند 
عودته إلى المغرب» رفض أن يقدّم تقريرًا للحسن الثاني عن 
مهمته. إستمرت هذه المهزلة حتّى لم يعد أبي يطيقهاء فكتب 
رسالة استقالته وأرسلها إلى القصر. لم يصله جواب عليها لأيام؛ 
فبدأء في قرارة نفسه. يُرَجَي نفسه ألا يقبلها الملكء بانيًا على أن 
الحسن الثاني» مهما كان من أمر بحاجة إليه للإبقاء على توازن 
ما. بقي والدي متريّصًا على هذه الحال إلى أن أذيعت الرسالة 
عبر شاشة التلفاز. لم يتمالك نفسه فأجهش بالبكاء» وكانت تلك 
إحدى المرّات القلائل التي رأيت فيها والدي يبكي. تلى ذلك أن 
انفض الناس من حوله وكانت تجربة مريرة. 

خلال المراسم البروتوكوليّة أصبح الحسن الثاني يدي الازدراء 
لأخيه. وكأنه يقول له: ”لم تعد تساوي شيئًا“. في الحقيقة» لقد 
صدم الملك عندما طالع رسالة الاستقالة إذ رأى فيها أنَّ أخاه 
يخوّل لنفسه أن يقول له ”لا“» وهو ما لا يتقله الملك أبدًا. ثم 
إن الملك انهم والدتي علائيّة» أمام أفراد الأسرة والمجتمعين في 
القصرء بأنها هي من أملى على والدي رسالة الاستقالة» لأنهاء 
حسب زعمه؛ مكتوبة بأسلوب مشرقيّ. ولم يكتف بذلك؛ بل 
أمرها بمغادرة القاعة» لم تسكت والدتي على ذلكء بل أجابته: 
” لست من يطردني من هنا ولكتّي أنسحب بإرادتي“» وغادرت 
المكان. كان رد فعل الحسن الثاني للانتقام من هذه الإهانة تشجيع 
والدي خلال السنوات التالية التي تلت استقالته على اللهو. كان 


1 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


هناك باب يربط بين بيتنا والقصرء وكان والدي يستعمله للخروج 
من البيت خلسة:» فيلقي له الحسن الثاني من الشرفة بمفاتيح 
سيّارته وهو يقول: “خذ, يمكنك أن تمضيّ حيث تريد» سأقول 
للجميع إنك كنت في زيارتي لتناول الطعام”“. 

كان ذلك وبلغت القمة بباحنيني» مستشار الملكء أن اقترح 
عليه أن يسجن هذا الأخ المتمرّد في أحد القصور على الطريقة 
التقليديّة» أي بوضع الأغلال الحديديّة في قدميه... كان ذلك في 
عام ١917/5‏ وكان عمري عشر سنوات عندما استدعاني الحسن 
الثاني» وأدخلني إلى الغرفة التي كان مجتمعًا فيها بباحنيني 
لأستمع بنفسي إلى ما اقترحه عليه» ثم قال: ”هذا ما يُنْصح لي 
أن أفعله!“. بطبيعة الحال» أرادني الملك أن أنقل هذا الحوار إلى 
المنزل» ولكتّي لم أفعل من قلّة جدوى هذه النميمة» لما في ذلك 
من إهانة لكرامة أبى. 

في نهاية عام 5 هدأت مشاجراتنا العائليّة نظرًا للتهديدات 
التي تعرّض لها النظام الملكيّ برمّته» تحت هجمة ”اليسارئين» 
وقلقًا مما يضمره الجيش. إلى ذلك فلقد استأثرت قضيّة الصحراء 
بمعظم اهتمامه ووقته» نظرًا لأهميتها القصوى. تعود بدايات 
قضية الصحراء إلى ما عبّر عنه يومًا علال الفاسي من حلم بإنشاء 
”المغرب الكبيا“ على أن يضم هذا المغرب موريتانيا وجزءًا 
من صحراء الجزائر. الأمور في الواقع أخذت مسارًا مغايرًا. 
فلقد بتر المغرب بإرادة القوى الاستعماريّة» من أجزاء من عمقه 


1 ١1١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الأفريقيّ ومن جزء آخر من عمقه العربي» وهكذا وجد المغرب 
نفسه بعد الاستقلال ضمن الحدود التي رسمها له الاستعمار. 
ثم اعترفت الأمم المتحدة بموريتانيا كدولة مستقلّة ذات سيادة 
على الرغم من الرفض المغربيّ القويّ لذلك؛ ولم يبقّ من حلم 
علال الفاسي الكبير إلا كثبان الصحراء الغربية؛ وهي المستعمرة 
الإسبانيّة السابقة. سنة »١57٠0‏ أحيل النزاع الصحراوي إلى 
الأمم المتحدة» وبقي معلقا لسنوات عديدة» ثم عاد إلى واجهة 
الأحداث في تشرين الأوّل (أكتوبر) ©1917» عندما أصدرت 
المحكمة الدوليّة في لاهاي قرارها التحكيمئ» ومفاده أن بين 
الصحراء الغربية والمغرب علاقات بيعة» ولكنّها ليست علاقة 
سيادة ”ترابيّة“. وهذا التعبير مشوب بما يكفي من الغموض 
لكي يقرر المغرب الاكتفاء بالاعتماد على شطره الأوّل فقطء 
لأن البيعة» في منطق الملكيّة, برهان كاف على السيادة! 

برزت قضيّة الصحراء الغربية إلى الواجهة في وقت كان فيه الحسن 
الثاني موضع معارضة لم يخفف منها افتقاده إلى كاريسمية 
والده محمد الخامس. توطيذا لشرعيته تمشّك الحسن الثاني 
لو ل ا ل اير رار 
الداخلية. كذلك» بحق يمكن القول إن قضيّة الصحراء الغربية 
كانت للحسن الثاني أشبه بهبة سماويّة» ولم يقصّر في استثمار 
هذه الهبة» فسعى إلى تحقيق الحلم الكبير الذي راود علال 
الفاسي» من أجل البلاد ومن أجل مصلحته السياسيّة الخاصّة. 


0 ١15 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


وضع الحسن الثاني مسعاه موضع التنفيذ بفضل فكرته العبقريّة 
التي تمثّلت ب”المسيرة الخضراء“. في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 
١‏ انطلق نحو ٠‏ 5" ألقا من المواطنين المغاربة إلى الصحراء 
مشيًا على الأقدام ملوّحين بالعلم المغربيٌ بيد ورافعين المصحف 
باليد الأخرىء وهدفهم استعادة ”أقاليم المملكة المحتلّة“ من 
يد المستعمر» بطريقة سلميّة. عاش الشعب المغربيٌ يومذاك 
لحظة استثنائيّة خالدة من تاريخه. على الصعيد الدوليّ؛ كان 
السياق ملائمًا أيضَاء حيث كانت الحرب الباردة في أوجها ولم 
تتأخر الجزائر عن التهديد, لكنّ قدرة النظام الملكيّ على تلك 
الحماسة الوطنية واستنفاره ماكينة لوجستيّة إعلاميّة ضخمة كانا 
كافيين لإوبهار العالم بما في ذلك السوفيات. بعد فترة وجيزة» 
قام سوهارتوء رئيس أندونيسياء بمحاكاة الحسن الثاني وذلك 
بالسيطرة على تيمور الشرقيّة. أعطت المسيرة الخضراء الانطباع 
بأن نظامًا ما يستطيع أن يكون ملكيًّا وشعبيّا كما عرّزت شرعية 
الملك الدينيّة والوطنيّة. كان الحسن فخورًا جدًا بفكرته» وقد 
أسرٌ لنا فيما بعد أنه استوحى فكرته من لوحة فنيّة تصوّر مسيرة 
شعبية. بالفعل» لا ريب» كانت ومضة عبقريّة بامتياز! 

إشتطاع الحسن الثاني» باستكماله الوحدة الترابيّة للمغرب» 
استئناف عمليّة تحرير البلاد التي بدأها والده. ولو بوسائل 
مختلفة. هو كذلك ولكنهء مع الأسف» ومباشرة بعد هذه 
المبادرة العبقريّة» ارتكب خطأ فادحًا في السياسة الخارجيّة 


007 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


عندما أعلن في نهاية المسيرة الخضراء: ”إن الملفٌ قد أغلق“. 
فالملف لم يغلق يومذاك والانتصار العسكري لم يتحقّق إِلَا 
في وقت لاحق» في عام ١1/١‏ بفضل ”الجدار“ الذي كلّف 
إنشاؤه إمكانات هائلة. ضف أن عديد الجيش المغربيّ بسبب 
قضيّة الصحراء تضاعف ثلاث مرّات» في عشر سنوات» مستنزفا 
الكثير من موارد الدولة» وفاتحاً الباب أمام المزيد من الفساد 
ومن التبذير ومن المحسوبيّة في طول البلاد وعرضها. إلى ذلك 
خيّم على البلاد سوال مُمضٌ قلَّ من تجرّأ على طرحه بصراحة: 
ما مصير كل هؤلاء الجنود وهؤلاء المنتفعين يوم أن ينتهي النزا ع؟ 
لا سر اس اسع ات با ريات 
نكراء. ذ ا 
البوليساريو. لم يتقبّل المغرب الإهانة فانسحب من المنظمة 
تارك لخصوي الباجة الديلو ماي القارية: 

غيّرت المسيرة الخضراء الحسن الثاني تغييرًا جذريًا. بل يمكن 
القول إن السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) 19175 يُمثّل 
منعطفًا حقيقيًا في سيرة الملك. فغداة ذلك اليوم أسفر الملك عن 
استبداده وسلطويّته من بعد أن سلب المعارضة رأسمالها الرمزي 
وتفوّق عليها بين جمهورها بظهوره أكثر وطنيّة منهاء فمنحه 
هذا الانتصار على الحركة الوطنيّة سلطة غير محدودة» فأفرط 
في تعظيم شخصه. وزاد تكبّره وبات لا يتور ع عن إهانتنا لأبسط 
الأسباب. حتّى علاقته بالدين تبدّلتء فلم يعد ذلك الرجل المؤمن 


ل 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


التقيّء ولم يعد يقارن نفسه وأفعاله بأبيه» بل أخذ يرنو إلى مرتبة 
الأنبياء... لقد ظنّ نفسه بعد أن نجح في ترويض المعارضة سيد 
اللعبة بلا منازع وأن أحدًا أو شيئًا لا يستطيع التغلب عليه أو قهره. 
حتّى عندما كان يشتكي من تصرّفات أبي كان شيء من التعجرف 
يطبع حديثه. قال لي ذات مرّةء في أحد الأيام سألت والدك: ”قل 
لي يا مولاي عبد الله في تقديرك كم سأبقى ملكا؟ فأجابني: لا 
أن هن تعزو رقا علكا لسكة اشير ١‏ لج يعيد ف يوقا الى سا خلس 
على العرش طويلًا شأنه في ذلك شأن بن بركة والآخرين الذين 
حسبوا أن أيامي على العرش ستكون معدودة ولن تتجاوز ستة 
أشهر. لكن, بينما كنت أنا أعمل وأجتهد وأتعب؛ كان والدك 
يسرح ويمرح؛ ويستقل الطائرة ليذهب إلى حفلة يشارك فيها 
كاترين دونوف والان ديلونء أو يطارد النساء الجميلات. أنا من 
ثابر وأنا من وطد حكم السلالة العلويّة في عصر الثورات والعالم 
القالثك1!”. 

في عام »١9175‏ كان الملك يعتقد أيضًا أنه برهن للجميع أن 
النموذج الجزائري» محط إعجاب العالم الثالث» لا يصمد 
لمقارنة بنموذجه المبنيّ على الانفتاح السياسيّ» والذي أثبت 
فعّاليته أو هكذا خُيّل إليه. حتّى منتصف التسعينيّات من القرن 
الماضيء بالغ الحسن الثاني في نرجسيّته, فأئخن في التسلط 
والطغيان» والويل ثم الويل لمن تجرّأ وعارضه. كانت تلك 
فترة حرجة لأسرتي» حيث تدهورت خلالها العلاقة بينه وبين 


1 ١8 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


والدي. أتذكر عنيدذًا يوم عيد ميلادي الرابع عشر: أخر جني 
الملك من السينما ليبلغني أن هديّته لي هذا العام هي قراره 
بأن يرعى مبارياتي في الفروسيّة, ْم أذيع الخبر على التلفازء 
وكأنّه أمر جلل؛ وتُظم حفل رسمي بمشاركة الحرس الملكيّ 
للاحتفال بهذا القرار. يومها» شعرت بحرج كبير» حيث إن 
والدي لم يكن في عداد المدعوّين إلى ذلك الحفل. ثم كانت 
المفاجأة... فما إن بدأ الحفل واصطف ضبّاط الحرس الملكىّ 
لأداء التحيّة حتّى اقتحم والدي الساحة بسيّارته الهوندا سيفيك؛ 
ونزل منها بملابس الغولفء أشعث الشّعرء وتوبّه بالكلام إلى 
قائد الحرس: ”أهكذا تنظمون حفلًا على شرف ابني ولا أدعى 
إليه؟* ران صمت محرج. فالجميع يدرك أبعاد ماذا يحدث: 
والد مُحاصه يُختطف ابنه أمام أعينه. 

بعد سنة» أواخر عام 2١41/4‏ ظهرت على والدي طلائع أعراض 
تليّف الكبد: لقد حذّره الأطباء أن إفراطه في الشرب سيهلكه. 
فأقلع؛ ولكن إدمانه السكر طوال السنين» فضلا عن خياناته 
الزوجيّة كانت قد فعلت فعلها. آلم الوضع والدتي وحمّلت 
المسؤولية للملك. هدذدت والدي مرّتين بالطّلاق» الأولى 
في بداية عهد الحسن الثاني» والثانية سنة 2١9177‏ وفي كلتئْ 
الحالتين» تدخل الملك شخصيًا لمنعها. كان يسعى لتجتّب 
الفضيحة, عاملًا في الوقت نفسه على تأجيج صراعاتنا الداخليّة 
وعلى شرذمة عائلتنا بصمت. 


حل 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عام 577١»ء‏ قبل ولادتي» عزمت والدتي على العودة إلى لبنان. 
وعندما استقلت الطائرة المتوبحهة إلى باريس» أمر الحسن الثاني 
أن خط الطائرة في طنجة بذريعة عُطل تقنيّ. هناك تقدّم الجنرال 
إدريس بنعمر مرتديًا بزّته العسكريّة من والدتي وخاطبها: 
”سيدتي» أرجو أن تتفضّلي إلى قاعة كبار الشخصيات أثناء 
التوقف“» فوافقت. ولكنه لم يلبث أن منعها من العودة إلى 
الطائرة فأقلعت الطائرة صوب وجهتها وبقيت أمي في المطار 
مع الجنرال الذي خدعها وعاملها كسقط متاع يتحكم فيه كما 
يحلو له... 

في المرّة الثانية» صمّمت أمي على الطلاق رغم إدراكها صعوبة 
الأمر. صارحت الحسن الثاني بنيتهاء فأجابها: ”إسمعيء لن أدع 
لك أن تتصرّفي بحماقة كما فعلت لخمسة عشر عامًا! تصرّفك 
سيضرٌ بصورة الملكيّة» وأولادك جزء من العائلة المالكة. عليك 
أن تفهمي دور الحريم في الحياة» وأنَّ دور الحريم هو تلبية 
حاجات الرجال. لقد أردت أنت وزوجك أن تكونا الاستثناء 
عن القاعدة وهذه هي النتيجة. وافقت والدتي على البقاء بشرط 
واحد أن يعمل الملك على إبعاد اثنين يؤثران سلبًا على زوجها؛ 
إثنان رأت فيهما قوّادِين لا أكثر ولا أقل وقد هدّدت في حال 
عدم تنفيذ شرطها باللجوء إلى راديو الجزائر لفضح المجون 
المستشري في البلاط. وغني عن القول إنه ابتزاز ترتجف له 
الفرائلص! 


8 "١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بناءَ على هذا التفاهم, قام الحسن الثاني بما يلزم. أما القوّاد الأوّل 
فدُعي إلى حفل تدكري دخله بلباس سجين ولكنّه ما لبث أن طرد 
منه واقتيد مباشرةٌ إلى مركز الشرطة حيث طلب منه أن يغيب عن 
الأنظار فورًا تحت طائلة ألا يخلع ذلك الزيّ. وصلت الرسالة 
فغادر المملكة في الليلة نفسها مع زوجته الألمانيّة. أمّا القوّاد 
الثاني فقد تولى الحسن الثاني أمره. إذ دعاه إلى أمسية قمار 
ربح في ختامها مبلعًا طائلا بالعملة الصعبة. طار الرجل فرحا 
وظنٌّ نفسه فوق المساءلة» فقرّر أن يذهب إلى باريس للاستمتاع 
بالأموال التي ربحهاء لكنّه. في المطار» فوجئ بالشرطة تطلب 
منه فتح حقيبته» ففتحها وانكشف ما تحتوي عليه واقتيد إلى 
السجن لأنّ تهريب العملة الصعبة كان جريمة يُعاقب عليها 
القانون! مكث الرجل في السجن ما يكفي من الوقت ليفهم أنه 
لم يعد من أصحاب الحظوة الملكيّة... أفرج عنه لاحمًا وبقي في 
المغرب ولكنّه ابتعد من تلقاء نفسه عن القصر وعن والدي. مع 
هذه التدابير» تراجعت والدتي عن فكرة الطلاق» ووضع الملك 
بتصرّفها منزلا موقَنًا ريئما تهدأ التوترات بينها وبين والدي. 

كثيرًا ما أشعرني إدمان والدي بالذنب. كنت أرى فيه رجلا ضعيقًا 
في مواجهة رجحل هو أقوى منه بكل المعاني» ومن ثُمْ فلقد كان 
منتهى ما يستطيعه هو أن يُقاطع أخاه الملك! شيئًا فشيئًا تبيتت أنه 
كان يتألّم لضعفه عن مواجهة الملك. لم تعزه الشجاعة الجسليّة 
بيد أن تربيته وعبء التقاليد حالا بينه وبين ذلك. لعل طريقته في 


2 ١1 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


المواجهة كانت أن حوّل بيته إلى مجلس يجتمع فيه المعارضون 
المغاربة والزوّار الآنون من الخليج والشرق الأوسطء فيعبّر كلّ 
عن وجهة نظره مُطْمئنا لا وجلا من أن يُعدّ من عداد المنشقّين؛ 
ولكنّ هذا المجلس لم يَزِدْ الحسن الثاني إِلّا عُدوانية حياله. 

عام »١11١‏ قبل عام ونصف من بلوغ سيدي محمّد سن الرشد» 
قرّر الحسن الثاني تنحية مولاي عبد الله رسميًا من رئاسة مجلس 
الوصاية» فأضيف هذا القرار إلى سجل حافل من الإهانات 
التي وبَهت إليه. صادف الإعلان عن هذا القرار زيارة للملك 
السعوديٌ خالد بن عبد العزيز إلى المغرب فصّدم واستاء من هذا 
التصرّف ولم يتردّد في مفاتحة الحسن الثاني بالأمر» فأجابه أن 
مصلحة الدولة فرضت هذا التدبير وأن الضرورة تقتضي انفتاح 
الملكيّة على تيّارات أخرى من المجتمع» وأنْ النظام الملكيّ لا 
يمكن أن يبقى شأنًا عائليًا فقط.لم يقتنع الملك خالد بهذا التبرير: 
”أبهذه الطريقة تكافىئ أخاك بعد إقلاعه عن شرب الخمر أم 
تريد أن تدفعه إلى الشّكر مجدّدًا تحت وطأة الاحباط والشعور 
بالخيبة؟ كان عليك على الأقلّ أن تعهد إليه بمسؤوليات أخرى“. 
تحدّث والدي مع الملك السعوديٌ عن رغبته في السفر إلى 
فرنسا للراحة والابتعاد عن كل هذا الضجيج, وأخبره أنّه وجد 
شقّة ملائمة في باريس ودفع نصف ثمنها. مساء ذلك اليوم أبلغ 
والدي أن مممّلا عن الملك خالد سدّد النصف الآخر وقيمته ه١١‏ 
مليون فرنك فرنسيّ آنذاك أي ما يزيد على مليوني أورو بعملة 


1 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


اليوم» وفي هذا ما يدل إلى أي حدّ كان الملك السعوديٌ مُستاءً 
من الإهانة التي تعرّض لها مولاي عبد الله. 

ولكنء على ما يقول المثل» رب ضارة نافعة. لقد كان من شأن 
ابتعاد والدي عن القصر وإقلاعه عن معاقرة الخمر أن عاد إليه 
شيء من توازنه. رأيناه يتغيّر تحت أعيننا وعمّت السعادة بيتنا 
حين وُلدَ شقيقي الأصغر مولاي إسماعيل في شهر أيار (مايو) 
١‏ . لقد نزل المولود من بيتنا منزلة الهبة المسماويّة التي نرته 
ولاعجب أن أضحى محور حياتنا وأن أخذت صالونات الرباط 
تضحٌ بأن مولاي عبد الله بدأ حياة جديدة وتتحدّث عن شغفه 
برعاية ابنه الصغير. 

للمفارقة» بعد عشرين عامًا من المنازلة مع الحسن الثاني» انهزم 
الطرف الأقوى وتفككت أوصال لعبته» ارس هي التي 
خريغت منتصرة حيث الرها والذي على لقيقه شقيقه الملك. لم يَعْدْ 
الحسن الثاني مدار أحاديثنا. طوي ملق اتلك إلى غير رحعةه 
وهذا أسوأ ما قد يصيب شخصًا مثله. حاول الحسن الثاني بشتّى 
الوسائل أن يعود إلى حياتنا خاطبًا وُدّ والدي مقترحًا عليه القيام 
بمهمّات في الخارج لكنّ مولاي عبد الله رفض ذلكء ثم دعاه 
إلى حضور اجتماعات مجلس الوزراء» فلم يقبل؛ أرسل له الهدايا 
والسيّارات الفخمة لكن دون جدوى. رغم هذا التوترء لم يكف 
والدي عن استقبال أبناء الملك وبناته لما كان يكنّه لهم من 
حبٌ. بلغت محاولات الحسن الثاني للتودّد إلينا أن ارتأى 


1 ١> 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


تنظيم اللقاء الأوّل بين ابنته وبين فؤّاد الفيلالي» ابن رئيس الوزراء 
السابق في منزلنا بالمحمّدية» كما أن خطوبة الاثنين جرت في 
منزلنا. فللا مريم وأخوها مولاي رشيد مكانة خاصّة في قلب 
عمّهما وقد أشاع الملك يومها أن مولاي عبدالله سيتولى تنظيم 
حفل الزفاف بنفسه. وهذا لم يحدث. 

في أيام القطيعة بين الشقيقين» بقيّ وزير الدفاع السعودي؛ 
الأمير سلطان» يزورنا باستمرار لتناول الشاي» ولم تكن مثل 
هذه الزيارات لتمرّ من دون أن تثير حفيظة الحسن الثاني. إلى أن 
كان ذات يوم أن شاهدنا عددًا مدهشًا من سرايا الحرس الملكىّ 
تصطف أمام بيتنا قبل وصول الأمير سلطان» وأن تابعنا التلفاز 
الوطنيّ يذيع أنَّ والدي استقبل وزير الدفاع السعوديٌّ بناء على 
توجيهات من القصر. أقل ما يُقال إِنَ هذا السلوك كان يدعو 
للشفقة. لقد تصرّف الملك يومها كعاشقٍ هجرنّه محبويثه. 
فُحوّل والدي» في السنوات الأخيرة من حياته» تحوّل من رجحل 
جمهد لجذب انتباه شقيقه» وعمل من أجل الظفر برضا الملك؛ 
إلى رجل مختلف يسخر من البلاط الملكيّ ومن تشريفاته 
إومسرحه. شيئًا فشيئًا أدرك أن الحسن الثاني سلبه ما لا يعوّض: 
لبه أجمل عشرين عامًا من حياته. حافظ والدي على أدبه وعلى 
طيب خلقه؛ ولكن دون إفراط في المجاملة؛ وأولى جل اهتمامه 
لإفحضير أطروحة دكتوراه حول قانون البحار» متخليًا عن عاداته 
الفديمة كحضور الحفلات والسهرات. لقد بات يستيقظ عند 


<كجكر 


التاسعة من كل صباح» ويمارس رياضة الغولف يوميّاء ويواظب 
على أداء صلواته واتتظمت حياته كما لم تنتظم من ذي قبل. 
يوم ٠١‏ حزيران (يونيو) »١1548١‏ دُعينا إلى مأدبة عشاء لدى 
عائلة أحمد الدُليمي؛ المسؤول الأمني الكبير وماهي إلا لحظات 
والهاتف يرنّ. غادر الدليمي المنزل على عجل لأنّ احتجاجات 
شعبيّة لم يتوقعها أحد اندلعت تلك الليلة في الدار البيضاء. لدى 
عودته» طلب الدليمي أن يتحدّث إلى والدي ‏ الذي كان انذاك 
في خصومة مع الملك - على انفراد ليشرح له الوضع. في اليوم 
التالي والتوّر على أشدّه في أكبر مدن المملكة» استدعى مولاي 
عبد الله دون علم الحسن الثاني» إدريس البصري إلى المنزل 
لكي يسمع منه ملخَصًا عن الوضع. في هذا السياق اكتشفتٌ 
للمرّة الأولى أن المغرب ليس في منأى من الفقر. حتّى أواخر 
السبعينيّات من القرن الماضي لم أكن أدرك ذلك. في محيطي 
كثيرًا ما سمعت أن الفقر في المغرب ليس من شيء يذكر. إنه جزء 
من المشهد كما أن الملكيّة جزء من المشهد نفسه؛ وأن المشهد 
هذاء في أي حالء لن يتغيّر. يومذاكء تبدّى البؤس كما لم يتبدٌ 
من ذي قبل ولم يعد من سبيل إلى إنكاره. ولكن كيف يفهم المرء 
شيًا لم يتعرّف عليه بالتجربة؟ لقد اقتضاني سنوات لأستوعب أن 
الغالبيّة العظمى من مواطنيٌّ يعيشون في العوز. 

في عام 2١15/11‏ بعد انتفاضة الدار البيضاءء سافر والدي مع عمّي 
إلى نيروبي» عاصمة كينياء لحضور قمّة منظمة الوحدة الأفريقيّة. 


)| 0 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


بدا عليهما وكأنهما قد تصالحا. بعد أسبوع على سفرتهماء وفيما 
كنت أساعد الحسن الثاني على امتطاء حصانه نمي إلى صوتٌ 
والديء الذي لم يتنبّه لوجوديء, يسأل الملك بحدّة: ”متى ستفتح 
عينيك على ما يجري في البلد؟ كم من انتفاضة تريد أن تندلع لكي 
تقتنع بأننا نسير في الطريق الخطأ؟" لم ينبس الحسن الثاني ببنت 
شفة وأصغى بصمت. واقع الحال أنَّ والدي لم يكن الشخص 
: الوحيد الذي يتوجّه بمثل هذا الكلام إلى الحسن الثاني. فمولاي 
'أحمد العلوي رئيس تحرير صحيفة لوماتان الصحراء شبه الرسميّة, 
|إلعارف بتفاصيل البلد وتاريخه» والمشهور بعفويّته»كان يردّد 
أهلى الملك الخطاب نفسه واللهجة نفسها. أعترفء أنِّي لم أفقه 
ممما ماسمعهيومذاك, كان الأمر أعقد من أن أعيه, 

في تلك المرحلة من عمري لم يكن الفقراء في نظري إِلّا أوئنك 
الئاس الذين يعيشون خارج أسوار القصرء والذين كنا نحملهم 
أهلى محمل العبر. كان فقرهم في عينيَ بعضًا من طبيعة الأشياء 
أونظامهاء بل لم يكونوا عبيدًا وإنْما أناس لهم طريقتهم الخاصّة 
:في الحياة مع كونهم جزءًا من عائلتنا الموسّعة. في القصر كان 
يعيش من بينهم بضع مئات من الموظفين للقيام بمهامٌ محدّدة 
يتوارثها الأبناء عن الآباء والبنات عن الأمّهات. كنا نعرفهم جيّدًا 
ونحفظ أسماءهم, ولكنٌ بَوْنَا شاسعًا كان يفصل عالمهم عن 
عالمنا. 

وليس في ما تقدّم أدنى مبالغة. فإن رغبت أسرةٌ من هولاء بمغادرة 


3-2 


3 ١ 
الفكر الجدي‎ 


<كجكر 


القصر والخروج إلى أرض الله الواسعة إن الحصول على الإذن 
بذلك يقتضي مشقّة ما بعدها مشقّة» لأن نظام التصريح يلحظ 
هذا الاحتمال. صحيح أن الزواج كان مسموحًا به داخل القصرء 
لكنّ مغادرة شاب لمتابعة دراسته في الخارج كانت أشبه بالأمر 
المستحيلء اللهم إلا بناءً على حل وسط لا يفك المغادر معه كامل 
ارتباطه بالقصر بل يبقى بصيغة أو بأخرى في خدمة السلطان. 
إستمرّت هذه التقاليد الغريبة العجيبة إلى أن توفي الحسن الثاني 
عام .١99559‏ يوم تبوّأ محمّد السادس العرش ألغى هذا النظام» 
علمًا أنه نظام سلطاني أكثر منه ملكيّاء ويتعارض كليًا مع مفهوم 
المواطنة في الديمقراطيّة الحديثة. 

في خضمٌ شهر الاحتجاجات والشغب ذاك» وكنت في السابعة 
عشرة من العمرء اجتزتٌ امتحان البكالوريا الأميركيّة بالرباط, 
وحصلت على نتائج جيّدة تؤقلني أن أراسل أفضل الجامعات. 
بموافقة والدي عزمت على متابعة دراستي في الولايات المتّحدة. 
كان مقتنعًا أنه من المفيد التمكن من أدوات المعرفة الغربيّة, 
شريطة ألا تتغيّر مفاهيمي الأساسيّة العميقة. كانت الدراسة في 
الولايات المتحدة استمرارًا منطقيًًا لمساري الدراسيّ. ولكن 
الحسن الثاني لم يوافق على ذلك. صحيح أنه وافق على ارتيادي 
مدرسة أميركيّة في المغرب ولكنّ السماح لي بالسفر إلى 
أميركا كان شأنًا آخر لأنه» في العمق, لم يتقبّل فكرة خروجي 
عن سيطرته. تحدّئنا في الموضوع مرارًا وتكرارًا دون التوصّل 


8 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


إلى اثّفاق. كان القرار بيد أمي وأبي ولكن الحسن الثاني بوصفه 
رأس العائلة الملكيّة» كان له حقّ الفيتو» ولقد استعمله بكثير 
من التعشف: ”أنت تعرف أن أميركا عبارة عن سوق كبير وأنْ 
المدارس هناك مثلها مثل المخازن الكبرى» السوبر ماركتء فيها 
الصالح والطالح“. لم أقتنع بهذه المقارنة» فذكرته أن الأميركتين 
حصدوا عددًا لا يستهان به من جوائز نوبل ووصلوا إلى القمر. 
بعد أيام» اقترح علىّ صفقة أخرى: ”أوافق شرط أن تلتحق بإحدى 
هذه الجامعات الثلاث: هارفارد أو يبل أو برنستون! اتفقنا؟ وإلا 
فأنا افصل إن تسكل فى يدامحة السوريرت” . كان الحسن الثاني 
قد قام على الأرجح بتحريّاته» وخلص إلى أن حظوظي بأن أُقبل 
في واحدة من هذه الجامعات المتميّزة على الصعيد الأميركي 
كله ضئيلة؛ لا مستبعدًا أن يكون قد تدخَل بطرقه الخاصّة لعرقلة 
0 أميركية في مدرستي بالرباط بالتواصل الاداري 
بين المدرسة والجامعات في أميركاء وقد ضيّق عليها المخزن 
ما استطاع للحيلولة دون إرسالها ملف التسجيل الخاصٌ بي إلى 
تلك الجامعات. قام حميدو العنيكري» وهو وقتئذ ضابط في 
الدرك الملكيّ بترهيبهاء ولكن دون طائل فتدخل رجال الشرطة 
مباشرة وقاموا باقتيادها للقاء أحد كبارهم الجنرال حسني 
بنسليمان الذي طلب منها أن تسحب نفسها من هذا الموضوع, 
فما كان منها لمعرفتها الجيدة بي إِلّا أن شرحت كل ذلك لوالديٌّ 


0 ١8 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


نس "هل رأيت؟ بعد أن فرغ 000 
أنت» ها إن الملك يسعى حثيثًا لتدمير ابنك. هذه أفعال مبرمّجة“ : 
تادرو لبي الرنة جات انتهزنا الفرصة ووضعنا خطة سريّة 
تشئّت الانتباه: رسميّاء سأرسب في كل الامتحانات التحضيريّة 
ولن أترشّح إلا لجامعات متواضعة حيث سنرسل إليها ملفات 
الترشيح عن طريق البريد» الذي تنجسّس عليه مختلف الأجهزة. 
بالتوازي سنرسل الملفات الحقيقيّة إلى الجامعات الكبرى التي 
أطمح إليها عن طريق بريد سريٌّ يمر عبر قاعدة روتا الأميركيّة 
المقامة في إسبانيا. 

في أيّار (مايو) 211/١‏ أشعرت بقبولي في جامعتئ برينستون 
ويبل. نزولا عند إصرار والدتي اخترتُ برينستونء التي درّس فيها 
المستشرق الكبير فيليب خوري حتّي. إنتظرتٌ التأكيد المكتوب 
وعندما وصل التلكس حملته وهرولت إلى الملك. قطع الحسن 
الثاني إفطاره لاستقبالي» فق رأ التلكس وراح يتحقق على الفور من 
أن الوثيقة ليست مزيّفة! تحقّق من صحتها ومرّت أسابيع بقيت 
خلالها مسألة سفري معلّقة. هنا ر بحت أن يكون الحسن الثاني 
لل اه او 0 ني 
ب م 
عليها علامات عنف ظاهر. لقد دفعت ثمن مساعدتها لي ضربًا 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


مبرحًا على يد زوجها المغربئّ الضابط في سلاح المدرّعات» 
الذي اعتبر أن تصرّفها قد يؤثر سلبًا على مساره المهنىٌ. إنتهى 
الأمر بالزوجين أن افترقاء فعادت هي إلى الولايات المتّحدة» 
حيث لم ينقطع التواصل معهاء لما أقدّره من شجاعتها وأحفظه 
من جميلها. سقط الحسن الثاني ضحيّة فحنا وتجرّع الهزيمة» 
م اغتدم فرصة زيارة رسميّة إلى الولايات المتحدّة وضمَّني إلى 
الوفد المرافق له» عساه يحفظ بذلك ماء وجهه لأنه بهذا ينبت 
أنني لم أغادر إلى نيويورك من تلقاء نفسي بل في معيّته. قد يبدو 
الأمن ميْيمًا ولكن ذلك ان السميل الوحيد النقاخ له أيهم 
نفسه أني لا زلت تلك الدمية التي يتحكم فيها حسب هواه. 
كانت برينستون بالنسبة إلى اكتشافا لعالم آخر شيئًا أشبه بما 
يصوّره ديفيد لودج في كتابه الصادر عام 51/5 ١‏ والمُعَنْوَنَ تغيير 
الديكور» حيث تنظر العجوز بريطانيا الهرمة لنفسها في مرأة 
أميركا التي تفيض حيوية وشبابًا. 

يا لها من نشوة! لقد أفلتٌ من برائن المخزن وشعرت كأني أولد 
من جديدة في غالم باذ حدوه وبلا محظورات: كلمن أشاء» 
وأفعل كل ما يخطر ببالي؛ دونما اعتبار لما يُرّبِ هذا أو ذاك على 
النظام العام وعلى محلي منه. وصلت إلى الجامعة وتوبجهت إلى 
غرفتي في الحرم الجامعي. في الطريق لاحظت ثلاث فتيات 
ينظرن إلىّ ويتهامشن هازلات: ”ما خطبه هذا؟“. لم أجد الوقت 
الكافي للتأمّل في لحظات البداية هذه إذ سرعان ما اندمجت في 


107 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


مناخ من المرح والبهجة. عند الثانية فجرًا اقتحم غرفتي» يلباس 
مدني أحد مساعدي عمّي الملك وخاطبني قائلا» بعد أن طالعني 
بأنه حاول الاتصال بي مرارًا خلال الساعات الماضية هاتفيًا: 
”الأوامر تنص على أن تنفضل معي إلى المغرب!“ رفضتُ بشدّة 
واحتججت. وأخيرًا هاتفت الحسن الثاني رغم الوقت المتأخر: 
”مولاي» آاسف جدَاء ولكن غدًا أولى المحاضرات. لقد كنت 
متورًا جدًّا وآثرت أن أحتوي توثّري بالتنزُه والمشي“. 

- هل تسخر منّي؟ هل تحتاج إلى خمس ساعات لتخفّض من 
توتّرك؟ ما هذا الهراء! عد فورًا مع المرافق. ناقشت وفاوضت» 
وأخيرًا حصلت على الموافقة بالبقاء. وفي اليوم التالي رافقني 
المرافق إلى الدرس... 

كانت بداياتي بهلوانية بعض الشيء. عندما يدخل الأستاذ إلى 
الفصل كنت الطالب الوحيد الذي يقف لتحيّته» وكنت لا 
آكل إِلّا جالسًا وفي أوقات الوجباتء بينما أقراني لا يتقيّدون 
بوقت موقوت لالتهام وجباتهم من الهامبرغر وسَلّطة الكرنب 
بالتوابل التي تعوّدت شيئًا فشيئًا على الاستمتاع بها. ذات ليلة 
كنت أراجع درس الكيمياء استعدادًا لامتحان في اليوم التالي؛ 
ثُمْ خرجت في نزهة مع صديق هندي» وإذ بسيّارة شرطة تتبعنا 
ثم تعترضنا ويطلب منا رجال الأمن أن نرفع أيدينا. امتثلتٌ للأمر 
فورّاء أمَا صديقي فرفض رفضًا قاطعًا قائلا: ”"عندي حقوق ولن 
أرفع يديّ“. كنت أرتجف من الخوف وأنا أتساءل ما الذي 


1 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


يضيره لو رفع يديه كان هذا أوّل نقاش أشهده حول الحريّات 
المدنيّة في الشارع وفي جوف الليل. فيما بعد قال لي صديقي: 
”لقد غادر والدي الهند بوصفه لاجنًا سياسيّاء ولن أوافق أن أفعل 
هنا ما كنا نرغم عليه هناك”» فأجبته: “إسمعني» ما نحن فنطيع 
الأوامر هناك ونطيع الأوامر هناء فلا تتعبني من فضلك!“ بالنسبة 
لي» السلطة هي السلطة» سواء كانت ترتدي القبّعة أم الطربوش. 
بعد التأكد من هويّاتناء أطلق رجال الأمن سراحنا موضحين أن 
رجلين قاما باعتداء مسلّح وملامحهما تشبه من بعيد ملامحنا. 
لم يُرض ذلك صديقي فعقّب: ”لو كان لون بشرتنا أبيض لما 
أوقفتمونا أصلًا!“؛ وهنا كانت مفاجأتي الثانية لأنّه أثار انتباهي 
إلى العنصريّة والتمييز. 

شيئًا فشيئًا بدأت أتحرّر من عاداتي القديمة» فاستبدلت السراويل 
الأنيقة بالجينز وأحذية الرياضة. ومن المفارقات أنّي صرت أقدّر 
اللغة العربيّة حقٌّ قدرها بينما كنت في السابق لا أشعر بأيّة متعة في 
استعمالهاء بل كنت أعتبرها أداة لتعذيب الذاكرة. هناكء آنذاك 
بعيدًا عن موطنيء اكتشفت أنها لغة حيّة وأنّها ”بيت الوجدان“ 
كما قال الفيلسوف هايدغر» وليست فقط وعاء للقرآن الكريم 
والوحي الإلهىّ. 

في الولايات المتّحدة حققتٌ رغباتي. إكتشفت موسيقى الروك 
الإنجليزيّة وحضرت سهرات فرقة “الرولينغ ستونز“ و”الهو“ 
و”يو تو“ ولم أتردّد بقضاء خمس ساعات في القطار لحضور 


م١‏ 47 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حفل موسيقي. كما أنني سافرت كثيرًا للمشاركة في بطولات 
الفروسيّة التي كنت أمارسها على مستوى الشباب الدوليّين. بل 
غالبًا ما سافرت خلال عطل نهاية الأسبوع» للمشاركة هنا أو 
هناك في تلك المسابقات» وللمشاركة في ألعاب كرة المضرب 
والسكواش. خلال هذه السفرات لم أحتج حقًا لمغادرة الحرم 
الجامعيّ) لقد كان فيه كل شيء: المطعم والسينما ومجالس 
النقاش. كنا حقًا نبحر في فضاءات من الفكر والثقافة. فجامعة 
برينستون أشبه بمجرّة جامعيّة» أو إن شئت فهي ريال مدريد 
العلم. ليس بالأمر العابر أنّها الجامعة التي درّس فيها ألبرت 
أينشتاين» في قاعاتها استمعنا إلى محاضرات شخصيات بارزة 
من شتى بقاع العالم» مثل دان يال أورتيغا من نيكاراغواء وجيري 
أدامز من حزب الشين فين الإيرلندي؛ وديسموند توتو من 
جنوب أفريقياء والناشط الأميركيّ رالف نادر» وكارل إيكان» 
رجل الأعمال المشهور بصفقات البورصة حتّى لقبّوه ب”ذئب 
فول سعريت" ... البيحت لنا في رحاب ذلك الحرم الجامعي 
فرصة النقاش المباشر مع تلك الشخصيّات» فاكتشفنا السياسة 
من زاوية أقل تنميطًا وأكثر إنسانيّة وعفويّة» واستطرادًا أقرب إلى 
الحققة: 

خلال إقامتي» زارني سيدي محمّد عدّة مرات» وراقه ما 
اكتشفه في هذا العالم الذي أعيش فيه. رافقني مرّة إلى إحدى 
المحاضرات وجلسنا جنبًا إلى جنب نصغي مبهورين إلى درس 


4 ١5 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


حول الثورات في أميركا اللاتينيّة. نهاية العام الدراسيّ الأول» 
عدت إلى المغرب لقضاء عطلة الصيف... تنبّه والدي إلى ما 
تغيّر في شخصيتي؛ حيث أصبحت في نظره أكثر ثقة بنفسي 
وأحرص على استقلالية أفكاري حَدٌ القمّة في الدفاع عنها كما 
أنني أصبحت لا أتورّع عن ارتداء الجينز... لم يرقه ذلك منّي 
كثيرًا ولكن واقع الحال أنّني لم أكن فريدًا من نوعيء لأنَّ عددًا 
لا بأس به من شبان الطبقات الميسورة كانوا يتابعون دراستهم 
في أميركاء ويعودون منها كما عُدت. كنت عندما ألتقي برفاقي 
العائدين أيضًا من الولايات المتححدة أو كندا أجدهم يعانون 
ما أعانيه من قلّة انسجام مع المنظومة المغربيّة. لم يكن سوء 
التفاهم في العلاقة مع الوالدين فقط. ولكنه شمل أيضًا النخبة 
الفرنكوفونيّة التي كان أفرادها يظتون أنهم وحدهم القادرون 
على فور القرسة باعنيازه ملكاخاضًا عي 

ذلك الصيفء متوجّسًا من تأمركي» ومن باب التدارك العقابي 
عليه» ألحقني والدي بالأكاديميّة العسكريّة في مكناس. لم 
يدهشني ذلك. فيافعٌاء أرسلني بانتظام إلى الثكنة الواقعة خلف 
بيتنا ل”إعادة تأَهُّبِي“ كلما بدا له ذلك ضروريًا. في مكناسء 
تكفّل الكولونيل بلمجدوب بي فارضًا علي القيام بجملة من 
التمارين الرياضيّة والعسكريّة المرهقة. كان ضابطا مستقيمًا 
وأميئاء يوْدّي مهمّته ويُرهقني ولكن دون أن يجرح كرامتي. 
بالطبع كان بوسعه أن يتأوّل السلطة المفوّضة له بشكل مختلف 


ه١١‏ 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ولكنه لم يفعل... 

في عام 4/7 ١ء‏ مع بداية السنة الجامعيّة الجديدة» غادرت غرفتي 
في الحرم الجامعي في برينستون لأسكن في منزل وسط المدينة- 
وهو نفسه المنزل الذي أقطنه اليوم عامذاك زار والدي الولايات 
المتحدة بانتظام لمراجعة فريق طبّي في شيكاغو, متخصّص في 
أمراض الكبد. بمناسبة هذه الزيارات تكثّفت لقاءاتنا وللمرة 
الأولى دارت بيننا أحاديث حميمة. فمنذ أن أقلع والدي عن شرب 
الخمر صار رجلا آخر وهذا ما أتاح لنا أن نستمتع بالتععدّف على 
بعضنا. أمّا عن منزل برينستون الذي أقطنه اليوم مع عائلتي فهو 
منّي بمثابة الشاهد الصامت على ”الأمركة“ البطيئة التي طرأت 
علىّ. أذكر أْني حين انتقلت للسكن في هذا المنزل لم أعرف 
هل يُعَدَ ينا فخمًا أم لا. أيَامها حلّقت خارج قوانين الجاذبيّة 
وسواها من المقاييس ومن قواعد ارتكاز. في عام 2»١9/5‏ 
كانت مساحة هذا البيت المتوسطة؛ تمليها ضرورة إيواء حرّاسي 
الشخصيّين وضابط اتصال بيني وبين العائلة في المغرب. على 
عكس السعوديّين والأردنيّين الذين يتركون أمراءهم يذهبون إلى 
الخارج دون حسيب أو رقيب لاطمئنان أسرهم إلى أن هؤلاء 
الشبان سوف يكتسبون أدوات المعرفة الغربيّة دون تغيير في 
ا و » في نظرهماء 
أن يُخَل ب”أمني“. بمعنّى آخرء أنه كان لا بدّ من امتلاك أسلحة 
الخصوم, 00 المغربيٌ ف د احير بكي المخرض 


1 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


على عدم تجاوزه. رغم هذه الجهود, أصابتني الأمركة أو هذا ما 
بدا لأفراد عائلتي» الذين ظلّت عيونهم تشخص إلى باريس. أما 
هنا فكنت على ثقة بأنّه ليس ما أخشاه على الإطلاق» وعلى يقين 
بن روحي المغربيّة في مأمن. 

في عام 19/7ء بلغ والدي السابعة والأربعين. عامها أيضًا 
صارحه الأطباء بأنّه مصاب بسرطان الرئة وأنّْ الورم قد امتدٌ 
إلى الدماغ. راجت حينها أيضًا شائعة مفادها أن والدي عاد 
إلى المسكر. عوض السعي إلى نفيها ساهم الحسن الثاني 
في ترويجها وكأنه مرتاح إليها. والحقيقة أنني لم أغفر له هذا 
التصرّف المقيت إِلّا يوم أصيب هو نفسه بعد سئوات بالمرض 
في المغرب؛ لم يعرف إِلَّا بعض المقريّين من مولاي عبد الله أن 
أيّامه باتت معدودة. من هؤلاء» المعارض عبد الرحيم بو عبيد 
الذي زار والدي خريف 187 ١ء‏ أي قبل أسابيع من وفاته. خلال 
تلك الزيارة قبّل بو عبيد يد والدي بحرارة؛ محوّلًا تلك الإيماءة 
البروتوكوليّة إلى حركة إنسانيّة» ترمز إلى الوداع الأخير. أدّى 
بو عبيد» ذو القناعات الاشتراكيّة» دورًا هاما في الحياة السياسيّة 
المغربيّة. لقد عارض الحسن الثاني بشجاعة وأدّت به معارضته 
هذه إلى السجن. كان رجلا في زمن عر فيه الرجال. كان الملك 
يحترم أولئك الذين لا يرضخون له وفي الوقت نفسه يستخدمهم 
لإذلال المسبّحين بحمده الواقفين على أعتابه وكأنه يُعيّر هوؤلاء 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بأولئك أو يخاطبهم قائلًا: ”انظروا يا جبناء إلى شجاعة هؤلاء. 
نبا لكم» لن تكونوا أبدًا مثلهم“. ذهل الحسن الثاني عندما انتهى 
إليه أن بو عبيد قبّل يد والدي وهو الذي لم يقبّل يومًا يد الملك؛ 
فاستدعى كل الخدم الذين شهدوا الواقعة ليتأكد من صحتهاء 
وكان أحد الذين استدعاهم رجحل مسن توجّه إلى الملك بالقول: 
”إنها الحقيقة ولا داعي للاستغراب لأنّ صداقة تجمع الرجلين 
منذ ثلاثين عامًا“. لم ينبس الملك ببنت شفة لأنّه» على الأرجح: 
لا يعرف ما تعنيه الصداقة بين متساوييّن. 

في العشرين من كانون الأوّل (ديسمبر) 2١3487‏ توفي والدي 
منتصف سنتي الجامعيّة الثالئنة. ذلك اليوم» ذهبت كعادتي إن 
من الطلّاب. جاءني الخبر بأنّ والدي مريض جدًا فعدت إلى 
المنزل فورًا. وجدته على فراش الموت» والجميع من حوله. 
حتّى الأطبّاء كانوا ييكون. أدركت أختي الصغيرة أن أمرًا خطيرًا 
يحدق بنا ولكنّها لم تستوعب ماهو تمامّاء فبدت تائهة لا تلوي 
صامتة. حتّى الحسن الثاني بدا مذهولاء إذ تبيّن أنّه على وشك 
أن يفقدَ الشقيق ورفيق الدرب والأمين على أسرار النظام وقناة 
التواصل مع الخصوم والشريك أحيانًا. هنا خاطيّت والدتي 
الملك: ”هيا انطق» قل له شيئًا ما! في الحقيقة» كان يستمع إليك 


8 ١4 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


أنت فقط. لقد أحيّنا طوال حياته نحن الاثنين أنت وأناء هيّاء 
حدّثه من فضلك...“» بعد سنّة عشر عامّاء عند وفاة الحسن 
الثاني» قُذّر لي أن أعيش المشهد نفسه. إِنّها لحظات حرجة 
يختل فيها فجأة نظام القصر برمّته وتنهاوى الأعراف التي تحدد 
السلوكيّات في الأيّام العاديّة وكأنّ شبح الموت ينسفها نسفًا 
ويعرّي زيفها. بين يدي الموت تبهت منظومة المخزن. على 
عكس المخزن, يعامل الموت الجميع بالتساويء فيعود الملك 
إنسانا. نعم» للموت مفعول مشابه لقنبلة النيوترون التي تعطل 
أجهزة الملاحة. إِنْه نقطة الضعف في النظام الملكي. 

قبل وفاة والدي بسنواتء قال له الحسن الثاني يومًا: ”أريدك 
أن تصبح بابا حسن لأطفالي“ وبابا حسن هو لقب شقيق 
محمّد الخامسء العم القدلل الآبناء المللكمولاي التحسنء 
ومولاي عبدالله وأخواتهماء الذي كان يدع لهم أن يركبوا على 
ظهره وأن يشدّوا لحيته وهكذا... روّعت هذه الرغبة التي عبّر 
عنها الحسن الثاني يومذاك والدتي. فإن يُرد الحسن الثاني من 
والدي أن يكون بابا حسن يلخخص التباس العلاقة بين الشقيقين 
لما تحتمله من قراءات: فهي قد تعني ”أريدك أن تصبح العم 
المختصّ في اللعب والدعابة بينما أنا أحتكر السلطة والمجد”» 
كما قد تعني ”يسعدني أن تكون لأولادي في محل الأب“. ندم 
الحسن الثاني على قولته هذه عندما أدرك أن والدتي قد حملتها 
على محمل التبخيس. فكانت» كلّما عرض والدي نفسه لازدراء 


4 ١8 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


أخيه. ذكرته بلقب ”بابا حسن“. من جانبه لام الملك والدتي 
على رغبتها أن يصير زوجها لورد مونتباتن المغرب» آخر نائب 
للملك في الإمبراطوريّة البريطانيّة بالهند. بالمختصر» كانت أمّي 
والملك في منازلة دائمة يعمد فيها الواحد منهما إلى تشويه رؤية 
الآخر ونواياه. 

في آب (أغسطس) من العام 2١9/4“‏ قبل وفاة والدي بأربعة 
أشهر» رافقه الحسنّ الثاني إلى ملعب الغولف. كان منهكا لا 
يقوى على المشي فاستقل العربة الكهربائيّة» وركبتٌ معه بنات 
أخيه. وإذ أرادت أصغرهنٌ» الأميرة للّا حسناء؛ أن تتسلى بقيادة 
العربة بنفسهاء صاح بها الحسن: ”توقفي فورًا! إن عمّكء ابن 
محمّد الخامس ! قبّلي يديه وقدميه ورأسه... ما هذا التصهف؟“ 
إحتضن مولاي عبد الله الطفلة بين ذراعيه؛ وأجابه أمام الحضور 
المذهولين: ”ليتنك تدري. لقد أردت دومًا أن أكون من أبنائلك 
بابا حسن!“. إرتبك الحسن الثاني وطرح عصا الغولف وتوققف 
عن اللعب. يومها رأيت علامات الارتياح والفخر في عيني 
والدتي. لقد أعطى زوجها درسًا بلِيعًا للملك» وكأنّه يقول له: ”يا 
للحسرة» ليتك كنت أيّها الملك أكثر يساطة وصدقًا وأقلّ مكرًا 
وخبئًا. لو كنت كذلك لحصلتٌ من شقيقك الأصغر على ما لم 
تخضل غليه بالاهانات والمؤاعراك» ولكان هذا "بارا عسي » 
وعن طيب خاطر.” 

بعد وفاة والدي وعملًا بالتقاليد» أصبح الحسن الثاني ربٌ 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


أسرتناء يبسط عليها حمايته ويمارس عليها استبداده. إحتضن 
أخي الأصغر مولاي إسماعيل وسلك به المسلك التقليدي: 
الدراسة في المولويّة والمران على المنصب. نشأ مولاي 
إسماعيل نشأة حفيد للحسن الثاني لا سيّما أنه كان فعلّا في 
عمر أحفاده. لاحقّاء درس مولاي إسماعيل إدارة الأعمال في 
جامعة إفران» ثم شقّ طريقه في مجال الأعمال والتجارة. إلى 
ذلك تابع القيام بواجباته البروتوكوليّة بجانب الملك في المغرب 
والخارج. إنه شاب مهذب ليّن الجانب» ورغم فارق السن بيننا 
١1(‏ سنة)» فلقد حرصت على عدم معاملته معاملة أبويّة. صغيرًا 
اعتاد أن يناديني بابا خوياء وهو لقب متداول في العائلة المالكة؛ 
تمامًا كما كانت عمتي الصغرى تنادي والدي» ولكن عندما علم 
الحسن الثاني بالأمر منعها من ذلك باعتبار أنه وحده من يستحقٌ 
لقب ”بابا“! لا أذكر أنّْني أسديت له من نصيحة غير هذه: 
“”الإمارة منصب لا مهنة» فابحث لنفسك عن مهنة حقيقيّة وإيّاك 
أن تكون جزءًا من البلاط الملكئ. نعم للعائلة ولكن لا للبلاط. 
إيَاك من استغلال النفوذ ومن الامتيازات الخاصّة» مهما كانت 
الإغراءات؛ لأنّك إن فعلتَ سيأتي يوم تدفع فيه الشمن باهظا“. ما 
خلا هذه النصيحة لا حديث في السياسة بيننا وكأني من الأفضل 
لنا ألا نتتحدث فيها. 

غداة وفاة والدي زارنا الملك في منزلنا ليسأل على مسمع من 
الملأ عن الرغبات الأخيرة للفقيد, فأجابته والدتي أنه أوصى 


4 ١:١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بأن يُدفن جوار والده. كان الحسن الثاني يقصد الأمور الماليّة 
فنزل عليه جواب أمي نزول المفاجأة السيكة» فشكك في كلامها 
وتحوّل إلى الحاضرين سائلًا: ”هل عبّر مولاي عبد الله حمًا 
عن هذه الأمنية الغريبة؟ ولم ينتظر طويلًا إذ بادره مرافق والدي 
العسكريء الليوتنان الكولونيل أحمد الدغيمي: 

- إن الأميرة لا تقول إِلّا الحق» وقد حدّثني الأمير مرّات عدّة إِنّْه 
يرغب عند وفاته بأن يُدفن بجوار والده؛ وقد كتب ذلك على 
بطاقة. 

- لماذا قال ذلك لك أنت ولم يقله لي وأنا أخوه؟ 

- لقد قال لي ذلك خلال زيارة إلى ضريح والده أقسم بشرفي 
العسكريّ على ذلك». 

كان يُمكن لهذه الجرأة أن تقضي على مستقبل الدغيمي المهنيّ 
ولكن؛ لحسن الحظء فإن العكس هو الذي حصل؛ إعترف 
الحسن الثاني للدغيمي بشجاعته ورَفْعَهُ لاحقًا إلى مناصب 
هامّة. 

لم تنته المسألة عند هذا الحدّء فقد تدخَلت جدّتي إلى جانب 
الحسن الثاني في هذا الصراع الرمزي حول مكان قبر والدي؛ 
حيت إنها لم تبصور أنا يدان حولاي عي اله مخرار. مجعة 
الخامس. كيف لا والحسن الثاني نفسه لم يكن ليجروٌ على أن 
يتصوّر أن يدفن هو نفسه بجوار والده. هنا أقدّمت للا لطيفة» 
زوجة الملك» وكنت أناديها ”ماما“ تودّدّاء على فعل لا يكاد 


7 ١4 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


العفقل يُصَدَقه: عندما كانت ساعة استقبال التعازي» وبينما كان 
حشد من حوالى ألفي شخص يتوبّه صوب منزلناء ولدى وصول 
الحسن الثاني على متن سيّارته وتأهبه للنزول منهاء ارتمت للا 
لطيفة على الأرض أمام السيّارة وكشفت عن وجهها ليراها 
الجميع وصاحت مخاطبة زوجها: ”أناشدك وأتوسّل إليك» 
لم يطلب منك مولاي عبدالله شيئًا أبدّا طوال حياته» فانزل عند 
رغبته بأن يدفن بجوار والده ولا تخيّبه ميتا“. لم يستطع الحسن 
الثاني أن يرفض هذا الطلبء ولا يُعقل أن تكون هي أحرص منه 
على احترام رغبة شقيقه. 

لفهم خلفيّات هذا التصرّف من قبل للّا لطيفة» لا بدّ للمرء أن 
يتذكر بأن أحد أعمامها قتل خلال انتفاضة شهدها الأطلس 
الأوسط في 5177١-337/4١ء‏ كما ألقي القبض على العديد من 
أفراد عائلتها. وكان الموكل بهم أحد أقسى ضباط الأمن» وقد 
تدخل والدي أنذاك للحدٌ من غلواء ذلك الضابط» ما تسبّب 
بمشادّة عنيفة بينه وبين الحسن الثاني. من هنا فلقد جاء ضغط 
للا لطيفة على الملك من باب رد الجميل لوالدي على ما كان 
من تصرّفه الإنسانيّ. 

في النهاية رقد مولاي عبد الله في ضريح إلى جانب والده محمّد 
الخامس. ولعلٌ الحسن الثاني عندما رأى ما يناهز المليون 
ونصف المليون من الناس يشيّعون جنازة والدي» أدرك حجم 
الخطأ الذي ارتكبه عندما وافق على تلبية رغبته بأن يُدفن بجوار 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


والده, لأنه فهم أني سأرث نصيبًا من هذا الرصيد من التقدير 
والتعاطف, والحال أنه لولا ذلك الحماس الشعبىّ الذي واكب 
الجنازة لما اعتبرني الحسن الثاني مصدر تهديد لعرشه. 

في كانون الثاني (يناير) عام »١5/.5‏ عقب وفاة والدي» انفجرت 
انتفاضة اجتماعيّة جديدة كان محرّكها الجوع, وتزامنت تلك 
الأحداث مع ذكرى الأربعين على وفاته. خلال هذه الموجة من 
الاضطرابات. جاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة 
الامارات العربية المتّحدة للتعزية بوفاة والدي» عشيّة مشاركته 
في مؤتمر القمّة الإسلاميّة في المغرب. وافيته في إفران لشكره 
على ذلكء. وإذ سألني عن أسباب ”الاضطرابات“» أجبته أن 
الناس يريدون الخبز وأنّ قيمة الدرهم, العملة المغربيّة» تتاكل 
بسبب حجم الديون المستحقة للجهات المانحة. ذكرني الشيخ 
بتقديره البالغ لدور الوسيط الذي لعبه والدي أكثر من مرّة لديه, 
ثم أضاف: ”قل لعمّك إنني سأقف إلى جانبه لمساعدته“» 
فسارعت بإبلاغ الرسالة إلى الحسن الثاني» الذي طلب مني أن 
أحيط بها علمًا الكولونيل العنيكري الذي رُفْع في عهد الملك 
محمّد السادس إلى رتبة جنرال» وكان في تلك الفترة قائدًا لفرقة 
من رجال الدرك المغربيّ معارة إلى أبو ظبي ومكلفة بالأمن 
الشخصيّ للشيخ وأسرته. إنتقل العنيكري إلى إفران برفقة وزير 
الماليّة المغربي للقاء الشيخ زايدء فسلمهما شيكا بمبلغ ٠٠١‏ 
مليون دولار» وهكذا سدّدت الديون المستحقة بجرّة قلم 


1 ١45 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


واحدة! 

غداة دفن والدي» وبحبّة الحداد» وضعنا الحسن الثاني في ما 
يشبه الإقامة الجبريّة. ثم طلب متّاء وطلبه لا يُرَدْه أن نسافر إلى 
لندن لحضور حفل زفاف ابنة خالتي وابن شقيق أحمد الجلبي» 
ناظر مالية النظام الملكي العراقيّ السابق» ثم في وقت لاحق» 
وفي سياق غزو العراق عام .٠٠0٠١“*‏ رجل المحافظين الجدد 
الأميركين. تكفل الملك بإقامتنا في فندق دورشيستر» ووضع 
بتصرّفنا بعضًا من خدمه الخاصٌ»ء كما هيّأ لنا سيّارة رولز رويس 
للذهاب إلى قصر كر وزفنور هاوس حيث أقيمت مراسم الزفاف» 
وهناك حرص على أن تكون مقاعدنا على طاولة الشرف. كان 
ذلك ولكن بعد عودتنا إلى المغرب وجدنا أنفسناء من جديد 
في منزلنا معزولين عن العالم. 

في اليوم التالي على دفن والدي» جاء الحسن الثاني إلى المنزل» 
وطلب ان تتح له جرانات شقيقة الني كانت امي تحتفظ 
بمفاتيحها بعناية . رفضت أمَي أن تسلّمه المفاتيح قائلة له: : ”أنت 
ملك ولكتك لست ملكا في غرفة زوجي“. 

”أنا أمير المؤمنين“» هذا ما أجاب به الملك قبل أن يخلع الأقفال 
أمام الجميع. كانت هذه طريقته لإشعارنا أن مساحة الحريّة التي 
كان منزلنا ملاذا لها وَّلْت إلى غير رجعة. سقطت حرمة منزلنا 
وبات الملك الآمر الناهي فيه وعليه» حتّى إِنّه لم يتورّع عن 
وضع الأختام على خزانات غرفنا. هكذا وجدنا أنفسنا نعيش 


4 ١ 
الفكر الجدي‎ 


<كجكر 


في منزل لا نملك مفاتيحه. وليس بالمعنى المجازي فقطء, لأن 
بعضًا من هذه الخزائن بقيت مختومة بالمعنى الحرفي للكلمة. 
خلال عبثه بأغراض والديء عثر الحسن الثاني على نسخة من 
أطروحة القانون البحري التي وَقَفَ والدي نفسه على إنجازها 
بعد مغادرته البلاط الملكي. على صفحة الإهداء قرأ الملك هذه 
الجملة بالعربيّة: ”إلى التي ألهمتني“؛ أي أمَّي . إنترع الملك 
الصفحة بعنف ثم قذف بالكتاب أرضًا غضبًا لأنّه لم يتقبّل أن 
يكون الإهداء لغيره. 

الثاني إلى منزلنا واختلى في غرفة أخيه المتوفى ليصليّ بضع 
يومها رأى الأقفال المخلوعة عن أبواب خزائننا والأختام التي 
أمر بوضعها (لا زلت حنّى يومنا هذا أحتفظ ببعضها فلا أنسى 
أبدًا هذا الفصل الأليم). صِدم الملك وأصابه الاشمئزاز من فعلته 
المشينة فغادر الغرفة مسرعًا لا يلوي على شيء, ناسيًا سُبحته 
المفضّلة التي ورثها عن والده محمّد الخامس. في اليوم التالي» 
”كيف أقدمتٌ على فعل قبيح من هذا القبيل؟ كيف استطعتٌ أن 
أخرب غرفة أخي...". 

يوم فعل ذلكء لم تحرّكه أيّة عاطفة إنسانيّة. فبعد وضع الأختام 
على الخزائن أمر بتغيير حرّاس بيتنا ومنعٌ أن يُرفع عليه العَلم الوطنيّ 


8 ١5 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بل أمر بإزالته» وهذه مسألة رمزيّة غاية في الأهميّة» وهكذا أخذت 
برفعه فوق سطح البيت كل صباح وبتنكيسه كل مساء بدلا من 
ضابط الصف الذي كان يوكلة بذلك. علما أن هذا العلم هو 
الذي لف به نعش والدي. في أي حال لم يكن بوسع الملك أن 
ينتزع مني الولاء لهذا العلم. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ» بل 
فرض الحسن الثاني علينا أن يدفع هو رواتب العاملين في بيتناء 
فأصبحنا أشبه بضيوف لديه نسكن جناحًا ملحقًا بالقصر. كذلك 
أرسل الملك بأحدهم لإحراق الأوراق الرسمية التي كان مولاي 
عبد الله يستعملها في مراسلاته وقد طبع عليها اسمه. .. بل ذهب 
إلى أبعد من ذلكء إذ أمر بوقف العمل في مطبخنا وبدأ يرسل لنا 
الطعام الذي يطلقون عليه اسم الملزومة في التقاليد المخزنيّة» أي 
الهدية التعاقديّة. إستاءت والدتي جدًا من هذا الإجراءء ولتفادي 
الاصطدام مع الملك علانيّة» زعمت أنها أصبحت ببانيّة تيع حمية 
فريدة للغاية ولا تأكل إلا السلّطات... كان الملك يسأل كل يوم: 
هل قبلت الأميرة الطاجين الذي أرسل إليهاء فيأتيه الجواب بالنفي» 
كانت تُحيل الوجبات التي تأتينا إلى العمال المنزليّين» وقد غضب 
الحسن الثاني غضبًا شديدًا لمّا علم بذلك» فأمر بأن يُكفٌ عن 
إرسال الطعام إلينا. بعد حين على ذلكء قالت له أمّي ساخرة: ”هل 
تدري» لقد انخفض معدّل الكولسترول في سمي ويمكتي الآن 
أن أعود إلى تناول الطاجين من جديد> '» فلم يرْدَد إلا غيظًا وإهانة. 
مما كان أيضًا أنّنالم نعد أحرارًا في تحرّكاتنا. رغم ذلك قام ياسر 


7غ ١‏ 00 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عرفات الذي عرف والدتي منذ طفولتها في بيروت بزيارتنا. لم 
يتمالك الحسن الثاني نفسه فأرغى خلال خطبة له على التلفاز 
وأزبد» متذرّعًا بلقاء جمع بين عرفات وجبهة البوليساريو 
في الجزائرء ذهب الملك إلى. حد القول: ”إن المغاربة الذين 
يتعاملون مع عرفات يستحقون أن تُلَطْحْ أبواب بيوتهم بما لا 
للخل مايه , نعم» حط نفسه إلى هذا المستوى؛ كان الملك 
مستاء ومكفهرٌ المزاج ويريدنا أن نبقى معزولين عن العالم 
الخارجي» وعن شبكة علاقاتنا التي لا يتحكم بها. وممًا أسرٌ لي 
به عرفات يومذاك أنه يخشى على سلامة والدتي. 

مع الوقت أصبح هذا الحصار يهدّدنا بالموت الاجتماعيّ لأنه في 
غياب التواصل مع الخارج لا يبقى إلا الاختناق في مملكة الحسن 
الثاني. لقد بات ملحا أن نسعى إلى تخفيف القيود التي تكبّلنا. 
م إن بروتوكول القصر أضاف إلى عزلتنا عزلة عندما بات يختلق 
الأعذار لتنبيط عزيمة طلاب زيارتنا: ”الأميرة مريضة لا تستقبل 
أحداء مولاي هشام في الولايات المتّحدة“ وهلمّ جرًا. كف 
الهاتف عن الرنين في البيت وتحوّلت كل المكالمات إلى القصر 
الذي لا يحوّل لنا إلا من رحم ربي وكان اسمه على قائمة وضعَها 
الحسن الثاني بنفسه! هنا أطل بأعجوبة الشيخ سحيم؛ شقيق أمير 
قطرء الذي كان على صلة وثيقة بأبي والذي كنا نعتبره فردًا من 
أفراد العائلة. إنّصل الشيخ بالبروتوكول بادئ الأمر» معبّرًا عن 
نيّنه المجيئ لتقديم تعازيه للعائلة وزيارة ”أخته“ لمياء. لم يكلّف 


1 ١18 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


أحد نفسه عناء الردّ عليه فكتب رسالة يعلن فيها قدومه. بقيت 
الرسالة بلا جواب إلى أن جاء إلى المغرب» حاول البروتوكول 
أن يثنيّه عن زيارتناء ولكنّ الشيخ تجاوز الحواجز ومكث معنا 
يومين في الدارء فكان أوّل اختراق للحصار ولاحظ الجميع - 
ابتداءٌ من جير اننا أن شخصًا ما قد تحدّى الملك بنجاح؛ وأننا 
لسنا بموبوئين يحجر عليهم. مع هذا الخرق للحصار» شعر 
العديد من الأمراء العرب بأنّه لا بد لهم من الارتقاء إلى مستوى 
ما وإظهار شيء من الوفاء لذكرى والدي. غضب الحسن الثاني 
ولكنّ الشيخ سحيم كلّمه بهدوء: ”يا جلالة الملك؛ لقد توبحهت 
إليكم مرتين كربٌ لأسرة شقيقكم ولكنّي في المرتين لم أتلقّ 
أي جوابء ثم أبلغتكم بوصولي. لا يمكنكم منعي من القيام 
بواجبي كمسلم تجاه عائلة صديقي الراحل. عندما كنتم بحاجة 
للمال وجدتمونا إلى جانبكم, فلا تقارنوا بيني وبين الشريد ياسر 
عرفات» رجاء لا تفعلوا» لست كذلك”. 

ذلك اليوم» أدرك الحسن الثاني أن معركته ضدّنا ستكون في غاية 
الصعوبة وأنه خسر الجولة الأولى» وخاصّة أن والدتي» بمساعدة 
بعض أركان آل سعود, راكمت لنا ثروة لا يستهان بها. بعد خمسة 
عشر يومًا من وفاة والدي باعت عقارًا أهدته لنا المملكة العربيّة 
السعوديّة بمبلغ ٠‏ ملايين دولار. بالمختصرء لم نكن نشكو من 
قلة المؤارفه ولو أن هد ة الفواره كانت سحدودة نسيًا. 

لقد كان بوسع الملك» بعد وفاة والدي» لو شاء ذلكء أن يفتح 


8 ١.8 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بيننا وبينه صفحة جديدة لكنّه آثر سياسة تغييبنا محتقرًا مي وآملا 
أن تغادر المغرب بعد فترة الحداد وليس عبثًا أن أشاع بأن ”لمياء 
(أمي) سترجع إلى لبنان لإعادة ترتيب حياتهاء سأستعيد الدار 
وألحقها بقصر الضيافة. سوف يستأنف مولاي هشام جعجعته 
إلى أن أحطمه؛ وسأتكفل بالطفلين الاثنين الآخرين“. هذا هو 
باختصار المخطط الذي رسمه الحسن الثاني. لكنّ والدتي لم 
ترغب في العيش خارج المغرب. ففي هذا البلد بنت حياتها 
عب نت نر و اح ا ايت 
وعن شرف والدي بكل ما أوتيث من قوّة. هكذا وجدنا أنفسنا 
نتأقب لحرب طويلة» أو على أقل تقدير» نتأمهّب لنطبّق مقولة 
تروتسكي عندما بدأ الروس البيض يستعيدون السلطة» فبعث 
إليهم قائلا: ”ربما تنجحون في طردناء ولكن كونوا على يقين 
أثنا سنغلق الباب وراءنا بقَوّة حتّى يسمعه الجميع“. كنا متضامنين 
ومصمّمين على المثابرة حتّى الرمق الأخير لإنقاذ عائلتنا. لأنه 
كان كذلكء لا مبالغة إذ قلت بأنْ لوالدي أن يرتاح في قبره 
لأنَ الرباط الزوجي الذي اختاره, هو الذي ضمن لنا من بعده 
استقلاليتنا عن الملك» وهذه الاستقلالية هي الأمْنية التي قضى 
شطورًا من حياته يحاول تحقيقها. 

توالت حلقات هذه المعركة تسعة وعشرين عامّاء إلى عام 
5 أي إلى ما بعد وفاة الحسن الثاني. لقد كانت في 
الواقع حربًا اقنصادية نشبت بين والدي وأخيه الأكبر يوم أن 


ثه١‏ 5 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تربّع الحسن الثاني على العرش في عام ١551١‏ واستمرّت حتى 
التاريخ المذكور أعلاه. الواقع أدضا أت لا شيء يجسّد طبيعة 
المخزن مثل هذا الصراع الطاحن على أصول ممتلكاتنا» وهو 
صراع ينتقل من جيل إلى جيل داخل الأسرة الحاكمة. ومرد 
ذلك أننا نعيش في نظام سياسي يُشترى فيه الولاء بالمال» أي 
ما يسمى في الوسط الأكاديمي نظام ”الغنائميّة الجديدة“. في 
هذا النظام» من يملك الثروة يمسك بالسلطة؛ ومن يُحرم من 
المال ينقرض سياسيًا. لهذه الأسباب ”البنيويّة“ كما يقول علماء 
السياسة» حرص الحسن الثاني على الحيلولة دون أن يتمكن 
والدي في ستينيّات القرن الماضي» بعد وفاة محمد الخامس» 
من أن يتحوّل إلى رقم اقتصادي ذي شأن. والحال أن سلوك 
الحسن الثاني لا يخرج عن منطق التعاقب العمودي» حيث 
يحرص الملك الجديد على قطع الطريق أمام كلّ طامح محتمل 
للسلطة بمنعه من التحوّل إلى قطب مستقل قادر على مزاحمته. 
من جانبه» حاول والدي أن يفرض وجوده في إطار هذه المنظومة 
من موازين القوى التي كان مدركا تمام الإدراك لقواعد لعبتها. 
من ثم فإن سردي لفصول الحرب الاقتصاديّة بين أفراد السلالة 
العلويّة» سيحاول قدر الإمكان ألا يُسفه أيّا من المشاركين في 
هذه الحرب. لم يكن والدي الضحيّة البريئة لدهاء الحسن الثاني 
ولا كان انقلابيًا مسكونًا بالرغبة في السطو على عرش أخيه. 
بعد وفاة محمد الخامسء والدهماء وجد كل واحد منهما نفسه 


3 ١٠١ 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


أسير المنطق الذي يفرضه عليه موقعه» فالأول ملكء والثاني 
أميرء وهذا في حدّ ذاته امتحان عسير لشخصيتيهما المختلفتين 
علمًا أن الاختلاف في المزاجء بينهما هو أيضاء ولو جزئيّاء من 
مترنّبات المنظومة التي وجدا نفسيهما فيها. 

لَيْسَ من شأني أن أجمّل صورة والدي ولا أن أشيطن صورة 
الحسن الثاني. كان هذا الأخيرء على سبيل المثال» قد سلم في 
عام ١471١‏ ما يعادل ٠١‏ ألف دولار نقدًا إلى والدي» كجزء 
من حصّته في إرث أبيه» ليشتري أرضًا مساحتها 1١‏ هكتارًا 
في الرباط» بجانب السفارة السوفياتية. وكان يفترض أن يكون 
تملّك هذا العقار استثمارًا مربحًاء ولكن والدي أخذ المال 
وذهب إلى أوروبا وبذَّره على ملاهيه. بالمقابل قام والدي خلال 
العقد الذي تلا وفاة محمد الخامس بتوزيع ما لا يقل عن 5٠.6٠6٠‏ 
هكتار من الأراضيء أي 6٠١‏ / من ممتلكاته العقارية من أجل 
استقرار العرش وتوطيد حكم الملك الجديد الجالس عليه. في 
تلك الأثناء كان الملك يجهض بشكل ممنهّج كل المبادرة 
الاقتصاديّة التي يحاولها والدي. وأخصٌ بالذكر عقدين للتنقيب 
عن النفط: الأوّل مع شركة كنَدْيَانَ دلهي للنفط المحدودة في 
عام »١977‏ والآخر مع شركة أوكسيدنتال بتروليوم في عام 
5 الأدهى من ذلك أن الحسن الثاني تدخل في عام ١1175‏ 
لدى ولي العهد السعودي الأمير فهد بن عبد العزيز لإلغاء صفقة 
بناء مساكن في المملكة العربيّة السعوديّة كان والدي قد ظفر 


6 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


بها بالشراكة مع شركة بويغ الفرنسيّة. شعر السعوديون بالحرج 
فنححوا وزير الأشغال الأمير ماجد بن عبد العزيز» صديق والدي» 
ريئما يقوم خليفته الموقت بإعادة النظر في تلك الصفقة... 

في قم “لمم ١‏ بعد وفاة والدي» وضع الحسن الثاني يذه 
على كل ممتلكات أخيه» فباع لأصدقائه عددًا من الأصول التي 
كانت لوالدي أو كان شريكا فيهاء ومنها عدد من العقارات في 
الدار البيضاء. ومصنع للورق المقوّى ومعمل للإسمنت. كما 
باع ممتلكات له في الخارج وحوّلت الأموال المحصّلة من 
هذه الصفقات إلى المغرب. بموازاة ذلك كان الحسن الثاني 
يُسوّق معلومات تحفظ صورته بين الناس» منها أنه عيّن مديّرًا 
لثروة العائلة» هو وزير الصيد البحري السابق بنسالم الصميلي. 
هو كذلك ولكن الصميلي كان في واقع الحال ينقذ أوامر سيده 
بحذافيرها. علاوة على ذلك» قام الملك بضغط هائل للتعردف 
الاقتصاديّة يسجّل بعض الممتلكات بأسمائهم بينه وبين أخيه. 
توبحه إلى الملك عقب وفاة والدي وقال له: ”أنت الآن رب 
الأسرة» تفضّل ها هي ممتلكات الأمير“» فرح الملك بذلك 
وأجابه: ”لقد أحببتٌ أخي كلّ الحبٌ ومن ثم أحبٌ أن أراك كل 
يوم...“. وهكذا صار الرجل فردًا من حاشية الملك وس بذلك 
كثيرا» حتى إن الملك قال له يومًا: “لقد الحية أخي الاختيار» 


١‏ ل 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فمرحبًا بك عندي!“ 

إلى جانب محمد جنانء استعان والدي أيضًا بكل من أحمد 
الشبيهي وأحمد فرشاضو لإخفاء بعض ممتلكاته. غير أن هذين 
الاثنين لم يكونا بنزاهة جنان» وهما وراء اللقب المقيت ”رجل 
العمولة 2/5١‏ الذي يحيل إليه جيل بيرو في كتابه صديقنا الملك 
لدى حديئه عن والدي. لقد أفصح كل منهما عن أملاك والدي 
الموكلة إليه محاولًا الاحتفاظ بنصيبه منها أي محاولا أن يجري 
عليها الاتفاق الذي كان بينه وبين والدي خلال حياته» ولكن لا 
هذا ولا ذاك تنبته» على ما يبدوء إلى أنّ السمك لا يُعَلّم السباحة 
وأن الملك أدرى بشعاب مخزنه من أي أحد سواه.. 
كان لوالدي خزنة في مصرف فرنسيىّ ضِْمّت الأغلى عليه 
من متاعه وأوراقه. بعد وفاته أراد الحسن الثاني الاطلاع على 
محتوياتهاء فحاول إقناع مدير البنك بأنه» بوصفه رئيس دولة 
وشقيق المتوفى وأمين أسراره» فمن حقّه الوصول إلى محتويات 
تلك الخزنة باعتبارها تحتوي لربّما على مستندات تعود ملكيتها 
للدولة. كلفت عائلة أمي محاميًا لكي تتم عملية فتح الخزنة 
بحضوره؛ ويجري التحقق من خلوّها من أي وثائق تعود للدولة 
على أن تُقفل من جديد مع الحفاظ على الممتلكات الشخصية 
بداخلها. وبالفعل فتحت الخزنة وفق هذه الشروط ولم يكن 
بداخلها أيّة وثيقة تعود للدولة. 

أخيرًا لا بُدّ من التوقف عند ”ملفٌ المجوهرات» الذي 


11 ١5 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


أسهم بتعكير أجواء ملتّدة بالأصل؛ في ما يلي القصّة وما فيها: 
عرف والدي بجمع المجوهرات» سواء التي أهداه إِيّاها رؤساء 
الدول أو تلك الأحجار الكريمة التي ابتاعها بنفسه؛ والتي 
كانت والدتي تتفنن بصياغتها لدى صيّاغ في باريس وطهران 
وبيروت» فطوال عشرين عامًا شغف والدي بالمجوهرات 
والأحجار الكريمة. أراد الحسن الثاني أن يستحوذ على هذه 
المجموعة التي أهداها والدي لوالدتي. لم يكن دافعه إلى ذلك 
الرغبة في امتلاكها بقدر ما سعى الملك لترسيخ الاعتقاد بأنّه 
يسيطر على كل شيء بالمطلق. لقد كان يعبّر عن ذلك صراحة 
وبلا استحياء: ”أنا السيد الذي يعود إليه كل شيء. المخزن يمنح 
والمخزن يستردٌ ما منح". 

زعم الملك أن هذه الحلي ملك للأسرة العلويّة» ولذلك فهي 
تعود إلينا نحن ذرّية أبي» والملك هو الوصي الشرعي علينا. لكنه 
اصطدم بمقاومة من طرف خالتي مُنى» التي عمدت إلى الحجز 
على الخزنة في باريس بعد تزوير توقيع والدتي. إكتشف الملك 
من خلال التجسّس على المكالمات الهاتفية» (عندما أعيد فتح 
الخط الهاتفي في بيتنا ولكن عبر المرور بمقسّم القصر) بقضية 
التروير هذه التي شكلت في الحقيقة مادة خلاف بين أمي 
وشقيقتها. طلب الملك إخضاع التوقيع للتحليل» وإذ تبيّن أنه 
ليس توقيع والدتي» باشر الملاحقة القانونية. أخذت هذه القضية 
اللئي كانت قيد النظر أمام محكمة باريسيّة» منحَى غير مسبوق في 


إٍ ١6‏ 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تاريخ الأسرة العلويّة» حيث إِنْها أكثر من مجرد فضيحة... هنا 
طلب الحسن الثاني من والدتي أن تتبرّأ من أختها منى» ولكتّها 
رفضت بشدة وأجابت : ”إذا ما أحبرتٌ على الاختيار بينك وبين 
أختي» سأختار أختي“. 

أخيرًاء طوي الملف حيث فضّلت العائلة المالكة التسيّر على 
أمورها الشخصيّة. بيد أن الموضوع لم يختم نهائيًا إلا سنة 
51؛»؛ عشيّة سفر الملك إلى الولايات المتحدّة» حيث 
استدعى الحسن الثاني والدتي على وجه السرعة قبل مغادرة 
المطار» موْخْرًا إقلاع طائرته خمسًا وأربعين دقيقة ريئما تصل 
أمي» ليقول لها جملة واحدة: ”استردّي المجوهراتء إنْها 
لأولادك“. في الأسبوع نفسه أمر الحسن الثاني بهدم سجن 
تازمامارت السيّى الذكر. قد يبدو الربط بين الموضوعين غير 
لائق ولكنّ الخيط الناظم بينهما كان حاضرًا على ما يبدو في 
ذهن الملك: إدراكه بأنه مقبل على مرحلة جديدة؛ دعاه إلى 
الشرو ع في تصفية حساباته وإصلاح ما يمكن إصلاحه. 

بعد رحيل والدي» وجدت في محمد الشرقاوي زوج عمتي 
الأميرة للّا مليكة ملادًا آمنًا أهرع إليه فأبئه هواجسي وأشكو إليه 
أحزاني بكل ثقة واطمئنان. شغل الرجل منصب وزير دولة في 
وَل حكومة مغربيّة ثم منصب سفير في فرنسا ثم تولى وزارة 
المالية وبعدها وزارة التنمية. كان هذا الرحل صاحب شخصية 
أنيقة» وهو فضلًا عن ذلك من رموز تاريخنا الذين أساء إليهم 


الول 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الحسن الثاني في أواخر ستينيّات القرن الماضي. ومع ذلك لم 
يجزع ولم يكتئب مثل غيره ممن لفظهم المخزن. بل حافظ 
على سكينته ووقاره» وكأنّه بذلك يقول للملك متحدّيا إياه: إن 
المغرب أكبر منك» لقد وجد قبلك وسيبقى بعدك فتأمّل. صحيح 
أنه كان من المدافعين عن التقاليد» الذين لا يرتاحون كثيرًا 
للديمقراطية ”الغربيّة“ غير أنه كان محيًا للانصاف وللعدالة. كان 
الحسن الثاني مملوءًا حنقًا حيال الشرقاوي» وكان حنقه يتصاعد 
مع زياراتي المنتظمة إلى بيته» لا سيّما يام السبت عندما كان 
محمد الشرقاوي يستضيف على مائدة الغداء أفرادًا من النخبة 
فتتحوّل داره إلى منتدى للنقاش السياسي. حول تلك المائدة 
كنت تجد امن أ أبناء الكلاوي باشا (مراكش)», والمهدي 
بنونة مؤْسّس وكالة الأنباء المغربيّة (ماب) وكبار الموظفين 
وآخرين من مشارب شتّى يجمع بينهم كرههم لقسوة المخزن 
وسوقيّته. معظم هؤلاء توقع لي مصيرًا أسود في مواجهتي مع 
الحسن الثاني. أمّا آنا وكين امعم في التعبير عن أفكاري إلى 
حدّ الاستفزازء» مدركًا أنه صباح يوم الأحد سيصل تقرير إلى 
الملك يُفصّل له ما قيل يوم السبت حول مائدة صهره الشرقاوي» 
فيزداد غيظًا وغضبًا! 

رسميّاء ظل الحسن الثاني يردّد أنه يقوم ”بواجبه“ أي 
برعاية أولاد أخيه ”العزيز“» ولكن الخدعة لا تنطلي إِلَّا على 
الشعب والغرب. لدى النخبة المغربيّة وفي أوساط قادة العالم 


/اه ١‏ 5 
الفكر الجديد 


<كجكر 


العربي كانت اللعبة مكشوفة. على الرغم من نجاحنا في كسر 
”الحصار“» فإن منزلنا لم يعد يستقبل أحدًا بعدما كان عامرًا 
بالأفكار والنقاشات. أصبح ذوو المناصب المالية يتجتبون لقاءنا 
خوفًا على مناصبهم. أما أصدقاونا الصدوقون فكانوا يشاطروننا 
الرعبء ومن كان يزورنا منهم يتوقع أن يلومه الحسن الثاني على 
ذلك» بل يمكن القول إن الملك وجد في ذلك فرصة للانتقام من 
تحت هذه الظروفء كان أكبر تحدٌّ أمامي هو أن أنشئ مكتبي 
الخاصء أي كيانًا رسميًا لي مستقلا عن الملك. كان لا بُدَ لي 
أن أجترح لنفسي هويّة اقتصادية أتفاعل من خلالها مع المحيط, 
سواء تعلق الأمر بأصغر الأمور أو أكبرها. قد يبدو الأمر هيّنا 
٠ 5 5‏ 0 م 4 
لمن هو خارج المخزن؛ ولكنّه تحد بكل ما للكلمة من معنى 
في إطار منظومتنا. لقد جرت العادة أن يصدر الحسن الثاني 
مرسومًا بإنشاء المكاتب الخاصة لأعضاء العائلة المالكة» وهذا 
ما كان مع ابنه سيدي محمد ومولاي رشيد. أما أنا فقتحايلت 
على غياب المرسوم. واخترت اسم ”المكتب الخاص بالاأمير 
مولاي هشام“» فلم يعترض الحسن الثاني مباشرة ولكنه اقترح 
أن يتكلف مكتبه الخاص بنفقاتى» وهو ما رفضته بأدب. بعد 
حين» فتح الملك الموضوع مجدّدَاء فسألني وهو يتأمل الرسائل 
التي يُصدرها مكتبي: ”ما الغاية من كل هذا؟" فأجبته ما معناه 
أنني اصطنعت لنفسي بطاقة تعريف» فأجحاب بصرامة: ”أنظر» 


15 ١4 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


سأنشئ لك مكتبًا خاصًا كما فعلتٌ مع أبنائي. سيكون المسؤول 
عنه هو مكتبي» وتحت إشرافي“. ربعا للوقت اعتذرت بأدب 
عن هذا ”الشرف الكبير“ مع اقتناعي أن المماطلة لن تجدي 
في نهاية المطاف نفعًاء فالحسن الثاني يتحكم بكل ما يتحرّك 
في مملكته بما في ذلك الزمن! للخروج من عنق الزجاجة هذاء 
كان لا بُدَ من الالتفاف على الملك» وهذا ما كان. كان لفندق 
حياة ريجنسي بالدار البيضاء دَيْنٌ يناهز 5.٠‏ ألف دولار» في 
ذمّة صديق والدي علي بوخشيان» الذي جئت على ذكره سابقّاء 
فقمت صوريًا بتسديده باسم “مكتبي الخاص"“. في الواقع؛ 
طلبتٌ من علي بوخشيان أن يسدي لي خدمة هي أن يسدّد 
دينه ولكن باسم مكتبي؛ ففعل» وقد انطلت الحيلة على الحسن 
الثاني الذي توهّم أنّْي قادر على دفع هذا المبلغ الكبير» وفضّل 
السكوت. منذ تلك اللحظة: لم أعد في نظره ابن مولاي عبد الله 
فقط ولكن مولاي هشام الذي يملك من الإمكانيات ما يكفي 
ليفرض وجوده. وكأنه يقول للملك: ”أنا أمير وفي الوقت نفسه 
مستقل ماديا عنك“. لقد دامت المبارزة من أجل الاستقلاليّة 
هذه عامين كاملين! 

ما إن تحقق ذلك حتّى عدت إلى موضوع يخصٌ والدي 
فاستفسرت من الحسن الثاني عن كل القيل والقال الذي سار 
حول إدمان والدي على الكحول. كان الأمر يُؤرقني بل ينخر 
كياني» وكان يلح علي اللغز أن أفهم لماذا استمر الملك في 


8 ١8 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الترويج لهذه الأكذوبة. لقد طالعتٌ بعناية الملف الطبيّ الخاصّ 
أني «ستعيا بالطبببين خاي وكيرشتير (الأول احضاتي في 
أمراض القلب. والثاني أخصّائي في أمراض الجهاز الهضمي). 
كان الطبيبان هذان يعرفان بالتفصيل حالة والدي الصحية. يومًا 
ما وجدتٌ الفرصة سانحة فسألت الحسن الثاني: ”لماذا أسأتم 
إلى ذكرى والدي بترويجكم للشائعات حول إدمانه» في حين 
أن الثابت من ملفه الطبي هو إصابته بسرطان؟»”. إستولت على 
الملك حالة عصبيّة رهيبة» وكأن سؤالي أخرج شبح والدي من 
قمقم مختوم, من إذ ذاك تصدّعت علاقتي بالملك لم يكتب لها 
أن ترجع أبدًا إلى سابق عهدها. لا أنسىء يوم جنازة والدي كيف 
انفرد بي الحسن الثاني وقال لي : ”لقد أمضيتٌ سنتين في جامعة 
برينستون» وحقّقت رغباتك هناك. الآن عد إلى الوطن"» وراح 
يزعم أنه لم يوافق أبدًا على دراستي في الولايات المتحدة» ثم 
فاجأني بقوله: ”هل تعلم أن قاتل الملك فيصل هو ابن أخيه؛ نعم 
ابن أخيه ومن أقرب الناس إليه» ولكنه قتل عمه لأآن أميركا لعبت 
بأفكاره“. لم أستسلم للموقف بل أجبته: ”ماذا تريدون مني أن 
أفعل هنا؟ هدفي أن أحصل على الشهادة الجامعية» وأتحدّاكم 
أن تقعوا على خطأ واحد ارتكبته خلال وجودي في الولايات 
المتحدة ولو على مخالفة سير!“ 

”هذا ليس الموضوع! أنت اليوم في المركز الثالث في ترتيب 
الخلافة» وأريدك تحت أنظاريء وأن أسهر على تربيتك كما 


ل 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


ينبغي» فمن يدري... لعل مكروهًا أن يصيبني أنا وأولادي“. 

- أن يصيبك مكروه؟ مستحيل» كيف لك أن تتخيّل ذلك» في 
حين أنّك تعتبر نفسك منذورًا للأبد؟ دعوتك إِيّاي للبقاء فح لا 
أكثر ولا أقل. 

غضب الملك مرة أخرى وأنزلني من سيارته البولمان 5٠.٠‏ 
وهو يصرخ: ”على أي حالء لقد اتخذبُ قراري ولن تعود إلى 
الولايات المتحدّة!“ منذ أن حمّلتٌ الحسن الثاني مسؤولية 
المتاعب التي عانى منها والدي» أصبحت أحاديثنا صداميّة 
ودخلنا مرحلة المواجهة الصريحة» مع عزم مني على عدم 
الاستسلام. عندما حان موعد السفر صعدت إلى الطائرة للعودة 
إلى الولايات المتحدة إلا أنها لم تقلع. وما هي إِلّا أن وافاني إلى 
الطائرة محمد المديوري رئيس جهاز أمن الملك» فوقف أمامي 
بجلبابه الأنيق وأخبرني أنه مأمور بإعادتي إلى القصر. رفضت أن 
أرافقه. كنت مدركا لضعفي في هذه المواجهة ومدركا أيضًا أن 
الحسن الثاني لا يحترم إلا من لا يرضخ لسلطته. 

”صاحب السموء بإمكاني أن أنزلكم من الطائرة عنوة“. 

إن أرغمت على مغادرة الطائرة سأعتبر أثني خسرت جولة 
لا المعركة. ونظرت إلى الخلف وأضفت متهكمًا: ”إن ابنك 
خالد هنا في الطائرة» ويجلس خلفي وسيعود لمتابعة دراسته في 
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. هو مبتعث بمنحة ملكية, أمّا 
أنا فلا“ . 


مل 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


طأطأ المديوريٌّ رأسه وغادر الطائرة. على الأرجح لمكالمة 
الحسن الثاني. أخيراء وبعد تأخير دام ثلاث ساعات» أقلعت 
الطائرة» والملك يستشيط غضباء والمعركة موجّلة بلا ريب. 
وصلتٌ إلى الولايات المتحدة متيقّنًا بأنّ مرحلة جديدة من 
مراحل المواجهة قد فتحتء فبادرت على الفور إلى مغادرة 
البيت الخاص الذي كنت أنزل فيه وسلمة مفاتيحه إلى 
القنصل واستأجرت غرفة ة في الحي الجامعىّ» فيما عاد مرافقي 
إلى المغرب. 

بعد فترة وجيزة» على ذلك ولدى مغادرتي إحدى المحاضرات» 
أبلغت أن رئيس الجامعة يستدعيني على جناح السرعة. بغمضة 
عين بدّلتٌ ثيابي وتوبهت إلى مكتبه الواقع في مبنّى مُهيب 
مصتّف كأثر تاريخي لما كان من إيوائه الكونغرس الأميركيٌ 
خلال ار بوم أن ار ب لدي 07 9 
ا ل 
كان مستبدّاء هو رمز وحدة الأمة» ومن ثُمّ فصورته تستحقّ أن 
تعلق على الجدار» ولو كان موضع اعتراض من الرعية. طمأنني 
الرئيس بداية ثم قال: ”لقد انصل عمّك الائعة وهويريدك أن 
تعود إلى المغرب . 

ع نقد الر ارين أيستطيع ذلك! أنا أدفع أقساطي الجامعيّة 


8 ١5 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


ووالدتي موافقة ولم تعترض. 

- ولكن الملك هو الوصيّ القانونيّ عليك إلى أن تبلغ الواحدة 
والعشرين؛ وله الحقّ في النظارة على دراستك. نحن ملزمون بأن 
نطلعه على نتائجكء وعندما يأتي موفدوه سأنادي عليك» ولكن 
أوّد أوَلُا أن أعرف هل ترغب في البقاء أو المغادرة؟ 

أوكد لك رغبتي في البقاء. 

بعد أيَام على ذلك أتى إلى الجامعة محاميان يرافقهما القنصل 
العام للمغرب لدى الولايات المتحدة» عبد السلام الجعيدي» 
وهو من متملقي الحسن الثاني المقرّبين» يتكلف بمشترياته في 
أميركاء من الملابس إلى الستارات:.. كدث وسيذي محمد تلقبة 
بملك المشتريات. فضلًا عن ذلك كان معروقًا باجتراح الحلول 
لأعقد المشكلات. كانت محفيّات الحسن الثاني على سبيل 
المثال يأتين» بين الفينة والأخرىء بالقطط والفئران إلى غرف 
نوم الملك لإزعاجه لأنه كان يكره هذه الحيوانات. وإذ سئل 
الجعيدي أن يجد الحلّ وجده بأن اشترى كلبين ضخمين من 
فصيلة الأكيتا. وما إن سمح الملك بأن يشاطره الكلبان جناحه » 
حتّى اختفت فجأة القطط والفئران!... جلس القنصل أمام رئيس 
جامعة برنستون ممتقع الوجه: ”إِنَ الملك يريدك أيّها الأمير أن 
تر ججع. لا بذ من عودتك إلى المغرب". أكدت أمام الجميع 
رغبتي في البقاء» فقال أحد المحاميئن إِنَ الملك هو وليّ أمري 
وإِنّ باستطاعته استطرادًا أن يرغمني على العودة. هنا أخرج رئيس 


ادحل 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


الجامعة وثيقة تتضمّن رأيًا قانونيًا مضادًا أعدّه محامي الجامعة» 
وخلاصتهء أنه ليس لأحد أن يرغمني على إيقاف دراستي ما 
دمت أتابعها بانتظام. تدخّل الجعيدي برعونة مهدّدًا بأن الأمر 
قد تكون له ”تداعيات دبلوماسيّة“, فأجابه الرئيس إنْه سيتصل 
بوزارة الخارجيّة إذا ما تطور الأمر في هذا الاتجاه» وأضاف 
أيضًا على سبيل التحذير إِنه سيتّخذ الاجراءات الكفيلة بضمان 
سلامتي, ثُمٌ رافق الوفد إلى الباب معتبرًا أن الملف قد طوي. 
بعد هذه الواقعة قضيثٌ ستّة أشهر في الولايات المتّحدة دون 
أي اتصال مع القصرء متسائلا متى سيرسل الحسن الثاني من 
يختطفني في ممرّ مُظلم ويضعني في كيس ليعيدني بالقوّة إلى 
مملكته. كانت أمّي تُساندني ولكنّ التواصل بيننا كان قليلًا لأننا 
كنا نتدارك التجسّس على اتصالاتنا باستعمال شيفرة خاضة ينا. 
نشفّر أحاديثنا بالاحالة إلى كتابين لدى كل واحد منّا نسخة 
منهماء الأول عن النضال البيئيٌ بقلم كارول فان ستروم عنوانه: 
الضباب المرّ مبيدات الأعشاب وحقوق الإنسان؛ والثاني هو قاموس 
أكسفورد الموجز. كنا نتبادل عبر الهاتف أرقام الصفحات والسطور 
التي تشتمل على الكلمات التي نؤلّف منها بُحُمل أحاديثنا. كان 
الأمر شاقًا لا سيّما أن شبح الحسن الثاني كان يحفّ بنا مهدّدًا 
بالانقضاض علينا. 
ص ا اس فم 
تكفلك خالتي الكبرى علياء» التي عوّلتٌ عليها في 


8 ١55 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


أحلك الظروف» بتمويل دراستى. أسقظ الأمر من بيك «التتسيق 
الثاني» فتوجّه إلى الملك السعودي فهد. بطلب غير مسبوق: 
أن يستدعي أبناء أخيه. وهم أبناء خالتي» وأن يدعوهم إلى النأي 
بأنفسهم عمًّا بينه وبيني: ”إنّه نزاع شخصيٌ بين ابن أخي وبيني» 
وإذا أقحمَ أبناء أخيك أنفسهم فيه فتذكر أن لك أيضًا خمسة آللاف 
من أبناء الأخوة وباستطاعتي أن أشعل فتنة في عائلتك”". هذا ما 
أخبرني به أبناء خالتي. يوم ه حزيران (يونيو) ١94/5‏ بعد أشهر 
من الصمتء وإذ كنت في الجامعة» اتصل بي الحسن الثاني 
هاتفيًّا: ”كيف حالك أيّها الغبيّ العنيد؟ لقد اقترب عيد ميلادي» 
فهل تنوي الحضور؟ ماذا ستحضر لي كهدّية؟ في الواقع» كل 
السجال حول موضوع دراستك هراء في هراء. عليك أن تنسى 
الموضوع ولك أن تتابع دراستك حتّى تنال شهادتك". أغلق 
الملّف إِذَاء وعدت إلى المغرب بمناسبة عيد ميلاد الملك يوم 
4 حزيران (يونيو)» وكانت معاماته إِيّاي على قدر من اللطف. 
لدى عودتي إلى برينستون اكتفى الحسن الثاني بأن أرسل برفقتي 
ضابطين من الشرطة الملكيّة هما الليوتنان عميري والليوتنان 
التوزاني» وأستادًا في المدرسة المولويّة كان يعلّم آنذاك سيدي 
محمّد, ممازحًا اتصل بي سيدي محمد وسألني: ”هل تعرّفت 
على أستاذك الجديد؟". 

بالتأكيد! يا له من هدية! 

- أحسنت,ء ويسرّني أنني قد تخلصتٌ منه. شكرًا لك! 


يل 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في ثنايا لطفه؛ كان الحسن الثاني يواري خطته الرامية بأن تعود 
والدتي إلى لبنان وبأن يتعهّد شقيقي وشقيقتي حيث ألحقهما 
بالمدرسة المولوية: كدت الوحيد المنفلت من سيطرته: ولكنه 
اعتقد أنني بعد عودتي من أميركا لن ألبث أن أعود إلى بيت 
الطاعة. في الوقت نفسه؛ كلّما كنت أزور المغرب كان يتعمّد 
ألا أقضي وقنًا طويلا معيّة أخي وأختي» فما أكاد أصل حتّى 
يرسلهما مع أولاده, أبناء عمّهمء في زيارة رسميّة إلى مكان ما. 
كان هدفه مزدوبجًا: تحطيم حياتنا العائليّة من جهة» وتهميش 
مَؤْئل ذكرياتناء أي بيتنا في الرباط» لا سيّما أن هذا البيت كان من 
عناوين التمرّد على سلطته. 

لبا ل و سرد اه 
نفسه. ذات يوم من أيام سنة 2١91/5‏ استقبلني ديفيد روكفلر 
شخصياء وأخبر: ني أن الملك قد فتح لي حسابًا لديه ولكته لم 
يودع فيه إلا سنا واحدّاء أي جزءًا واحدًا من مئة جزء من الدولار 
الأميركيّ! ثم استدعاني الحسن الثاني وقال: ”سوف أخصصص 
لك مبلعًا شهريًا. سيدي محمّد يحصل شهريًا على ٠٠‏ 5/ادرهم. 
أنت ستحصل على 5.٠٠‏ درهم مثل مولاي رشيد“. كان هذا 
المبلغ متواضعًا بالنسبة لي ولو لمصروف الجيب» فقصدت 
سيدي محمّد أسأله كيف يدبر أمره بمبلغ 7٠٠٠‏ درهم.ء فقال 
إِنْه حاول في البداية أن يحصل على أكثر من ذلك. ذات مرّة 
طلب من خيّاط ماهر شهير في باريس أن يخيّط له عشرين بِرّة 


3 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وأن يرسل الفاتورة إلى القصرء لكنّ الفاتورة وجدت سبيلها إلى 
مكتب والده الذي نادى عليه ووبّخه توبيخًا شديدّاء ورفض أن 
يدفع المبلغ للخيّاط الفرنسيّ. هنا استنجد سيدي محمّد بوالدي 
لإنقاذه من ورطته» فدفع عنه المبلغ خلسة. 

أصغيت إلى ولىّ العهد مذهولاء لأني لم أتعرّد هذه الأساليب في 
العلاقة مع والديٌ. لكنء ما العمل الآن؟ لم تكن المسألة مسألة 
احتياجات بل تحدٌ جديد يواجهني به الحسن الثاني تحت ذريعة 
مصروف الجيب الذي ينوي التكرّم به عليّ. وهكذا وجدتني؛ 
مع أبناء عمّي» ننخرط في لعبة مراهقة لعلها من الطقوس التي لا 
بد للأمراء الباحثين عن التحدّي من المرور بها. بين عامي ١1/5‏ 
و48١»‏ وهو العام الذي بدأت فيه حياتي المهنيّة» تعاطيت مع 
أولاد عمّي في لعبة ”التسلل“ التي كان جميع من حول الملك 
يتعطاها حسب قدرته. على سبيل المثال» كان الملك يمنح لكل 
أمير مرّة في السنة رخصة لاستيراد سيارتين مُعفاتين من الرسوم 
الجمركيّة. لم تكن السيّارات التي يحقٌ لنا باستيرادها سيارات 
أحلامناء ولكن سيّارات مرسيدس تتمتّع بمواصفات سلامة 
عالية. كانت تجارتنا الصغيرة تقضي بأن نحتفظ بسيّاراتنا القديمة 
ونعيد صباغتها بلون جديد ونبيع السيّارات الجديدة المستوردة 
ونقبض ثمنها نقدًا. كانت العملية تستلزم التواطوٌ أولّا مع 
وكيلئ مرسيدس المحليّين» شركة الإخوة حكم وهم أصدقاء لنا 
يحتكرون استيراد تلك السيارات الألمانيّة. أمَا المتواطئ الثاني 


١ /‏ 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فكان الميكانيكيّ الذي يصبغ السيارات واتفق أن الميكانيكيٌ 
الكورسيكيّ مارسيانو هذا كان صديقًا قديمًا لوالدي ومن 
معارف الحسن الثاني في حلبات الغولف؛ أول مرّة طلبنا منه 
مساعدتنا فعل ذلك عن طيب خاطر وفي المرّات التالية وجد 
نفسه متورّطا فاستمرٌ في تلبيتنا» تحت ضغط ابتزازنا اللطيف. 
تجارتنا الصغيرة الثانية كانت تذاكر السفر. كان الحسن الثاني 
يُهدي كلّ واحد مناه ورفيق سفر من اختياره» تذاكر سفر على 
الدرجة الأولى إلى الوجهة التي يشاء. كانت الشركة التي تُشرى 
منها التذاكر هي شركة طام. كذلك كنت أختار وجهات بعيدة ثم 
أوقف رحلتي في باريس وأستردٌ فرق الرحلة نقدًا. كان صاحب 
شركة طام بنسعيد الحريزي يحتكر بيع التذاكر للقصر وللقوات 
المسلّحة الملكيّة» وكان» على غرار الكثير من المسؤولين 
المدنيّين والعسكرئّين» متواطنًا في هذه اللعبة التي يربح فيها 
الجميع. ومن ثم فإن الجميع أيضًا كانوا يلتزمون التكّم لتستمرٌ 
البقرة الحلوب تدرٌ على الجميع من ألبانها. 

لقد افق لي في عداد ما انّفق أن تاجرت بالرمل! مرّة في العام؛ 
بالتواطوة مع عسكري برتبة معاون مولج بحماية شاطئنا الخاصٌ 
في تمارة» كنت أنظم عمليّة شفط لرمل ذلك الشاطئ ثم أقصد في 
صباح اليوم التالي مركز الشرطة لأشكو سرقة الرمال مدّعيًا أني 
الضحيّة. جرت العادة أن لا يفضي التحقيق إلى نتيجة ولتهدئة 
روعي كان يعوّض علي بالكميّة نفسها من الرمال. 


538 8 
الفكر الجديد 


<جكر 


كان البلد يعجٌّ بهذه الممارسات» حيث يجري تسييل كل ما 
يباع ويشترى. حتّى الهواء لو أمكن بيعه لما تدّدد البعض في 
ذلك. كانت الأحراج الملكيّة الشاسعة مشجرّة بالصنوبر و 
الأوكاليبتوس» وكانت قدب مرّة كل أربع سنوات؛ كذلك كان 
يكفي مثلًا أن ينال الواحد حظوة بيع ما يذب من هكتار أو 
بضعة هكتارات لتجميع مبلغ معتبر. 

من الامتيازات التي كنّا نحصل عليها أيضّاء قسائم وقود صادرة 
عن الجيش والشرطة لنحو خمسين سيّارة. أن نبِيعٌ قسمًا من هذه 
القسائم كان أيضًا من الأمور المألوفة. سيرًا على تقليد أرساه هو 
ووالدي» كان الحسن الثاني يمنحني» ير ليو في السنة إجازة 
صيد في الأطيان الملكيّة التي تُطلق فيها طرائد جرت تربيتها في 
حظائر خاصّة. هذه المنحة أيضًا كنت أقايضها مع بعض الأثرياء 
لقاء مبالغ يودعونها في حساب مصرفيّ خارخ المملكة. خلاصة 
الأمر أننا كنا نتدرّب بالمال الحىّ على مقاعد واسعة دونما أن 
يملك الملك مواخذتنا على ذلكء لأنْ المنظومة منظومته وهو 
نفسه منغمس فيها وسيّدها ! 

انذاك لم تكن هذه التجارات» في عرفي» سوى لعبة قطاع 
طرق مسلية. أمّا لِسَدّ حاجات الحياة» بالمعنى الأوسع للكلمة» 
فكنت أتوكل على عدد من أصدقاء والدي المنتشرين في دول 
المشرق والخليج. وفي الطليعة من هؤلاء الملياردير اليمنيّ 


1 ١8 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


اليمنيين إلى المملكة العربيّة السعوديّة» أي أولئك الذين وصلوا 
إلى السعودية قبل بروز طبقة المقاولين المحليّين. كان علي 
بوخشيان يحبٌّ والدي حبّه لأبنائه» حتّى إنه رفض عرض الملك 
أن يتشارك معه على حسابنا. أراده الملك أن يقوم بمشروع 
عقاري على قطعة أرض تعود ملكيتها لوالدي في قلب الدار 
البيضاء. رفض بوخشيان تحت طائلة المسؤولية أن تتعرّض 
ممتلكاته في المغرب للمصادرة. لم نحتج يومًا إلى شيء إلا ولبّى 
هو أو شقيقه سالم طَلْبتنا. من المُلبِين لنا عند الحاجة أيضًا أذكر 
الأمير عبد الله الفيصل الابن البكر للملك السعوديٌ. لقد تعدض» 
بدوره» لمتاعب في المغرب بسبب الصداقة التي كانت تجمعناء 
كان الأمير عبد الله لا يرفض لي طابًا أبدّاء وكان يعطي بسخاء 
ومروءة ونبل» وكذلك الحال مع الشيخ القطري سحيم الذي 
تحدّثت عنه سابقا. 

أخيرًا وليس آخرّاء لا بد لي من الإشارة إلى سكرتير الحسن 
الثاني الخاصٌّء عبد الفتّاح فَرج. على الرغم من قربه من الملك: 
ساندني دومًا ضاربًا عرض الحائط بالخلافات العائليّة لقد كنت 
منه ابن أبي» أزوره في بيته» فيقدّم لي الشاي ويُصغي إلىّ ولا 
يرد لي طلبًا. لا أدري لماذا كان يحرص عليَ كل هذا الحرص 
لريّما تحت تأثير زوجته الألمانيّة ريتا التي كانت صديقة حميمة 
لجدّتي. سألته يومًا من باب الفضول هل يخفي علاقتي معه عن 
الملك فأجحاب: ”أنا وفيّ لصاحب الجلالة» ولكن لنفرض أني 


08 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أتيته يومًا وبسطت بين يديه طلبًا لصالحكء هل تعتقد أنه سيرفضه 
في حين أنه يوْمّئني على المليارات؟“. 

كان فرج في المشهد المغربيّ رجلا فريدًا من نوعه لا تؤثّر 
فيه المتغيّرات الظرفيّة؛ وكانت زوجته مهووسة بأمور التغذية 
وتحسب السعرات الحراريّة التي يتناولونها في المنزل بدقة 
متنامية» بل كانوا يضعون قفا على باب برّادهم علمًا أن هذا 
البرّاد كان خلوًا إلا من بضع تفاحات هزيلة ! كانت حياة فرج 
في المغرب منظمة كالساعة» ولكنّها لم تكن كذلك عندما كان 
يأتي إلى الولايات المتّحدة» فألتحق به في نيويورك لتناول العشاء 
معه. أيامذاك عشق شابّة روسيّة جميلة اسمها لودميلا تعيش في 
نيويورك. عندما يغيب فرج وتشتكي لودميلا من الوحدة» كنت 
أدعوها للعشاء. وأردّد على مسامعها أن فرج ليس كأيّ رجل 
وأنّها محظوظة جدًَا لكونه شغوفًا بهاء فتغمرها البهجة والسعادة. 
الخلاصة أنني كنت أدافع عن فرج لدى الشابة التي أسرت قلبه 
كما كان يدافع عنّي لدى الحسن الثاني . 

سيدي محمّدء أيضاء تعاطى رغم الرقابة الصارمة المفروضة 
عليه من طرف والده تلك التجارات التي تحدّثت عنها. وإذلم 
تفلح تلك الرقابة الأبويّة فلن معظم المسؤولين كانوا يفضّلون 
غضٌ الطرف عن تصرّفات الملك المقبل. ولعل الوحيد الذي لم 
يساير الإجماع هذا كان وزير الداخلية آنذاك» إدريس البصري» 
الأميل إلى مولاي رشيد. كأمراء» كنا تتواطأ على فكرة الاستفادة 


ا/ا١‏ 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


هذه ولكن كل واحدء في نهاية المطاف, كان يعمل لمصلحته 
الذاتية» من نافل القول إن الحسن الثاني كان يدرك جيّدًا أن 
ما نتتصردف به من أموال يفوق بكثير عطاءاته» ولكن ما عساه 
يفعل وقد التقّت حوله خيوط شبكة الفساد التي نسجها هو 
بنفسه. كانت استقلاليتي الماديّة» بغض النظر عن مداخيل تلك 
التجارات الصغيرة» تمنحني القدرة على الصمود. أمّا من وجهة 
نظر الملك» فكنت بؤرة تمرّد استعصى عليه إخمادها. 

في بعض الأحيان» كان مبلغ ال ٠٠٠٠‏ درهم المخصّص لي يتأخر 
أشهرًا عدّة ثم يتدارك الملك الأمر فيرسل إلىّ المبلغ المتأخر في 
حقيبة مملوءة بأوراق نقديّة من فئة عشرة دراهم. لم تكن المبالغ 
التي تحتويها هذه الحقائب كبيرة ولكنٌّ حجمها كان يبدو كبيرًا. 
كان الحسن الثاني لا يحب أن يقال إِنِي أعتمد على موارد غير تلك 
التي يضعها بتصرّفي؛ فحرص على أن يشيع الاعتقاد بأني لا أعيش 
إلا بنفضل سخائه. طبقا لتقاليد المخزن» كانت هذه العطايا تَسمّى 
”المونة“ حيث إنْها مزيج من المال ومن مشاعر المودّة. هكذاء 
فعندما كان الملك يرسل إليّ بتلك الحقيبة المحشوّة بالأوراق 
النقديّة الصغيرة:» فإِنّهء في الحقيقة» كان يريد أن يبرهن على وفائه 
الماديٌّ والمعنويٌ» حيال ازى أغيد على مر أ قو اللجميع. 
الملك في مملكته سلطان, لا سيّما متى ما كان الملك المعني هو 
الحسن الثاني. وحذار حذار من اللعب مع الملك تحت أي عنوان 
من العناوين. هذا هو الدرس الذي استخلصته من واقعة “كوكو“. 


8 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


كوكو ببّغاء ذو منقار أصفر وريش أدهم,؛ كان من الحيوانات التي 
يعتني سيدي محمّد بتربيتها في مدينة سلا في دارته الواقعة في 
الصابلون. كان الحسن الثاني يكره كلاب الدوبرمان وسيّارات 
البي أم دابليو» وكان هذا كافيًا لكي يعشق ابنه الأكبر هذا النوع 
من السيّارات الألمانيّة ولكي يقتني كلبًا من هذه الفصيلة» وديعًا 
رغم ضخامته وقد أسماه جالوت؛ خلال سهرة سال فيها الخمر 
بكرم حاتمي» فاجأنا الملك بزيارة غير متوقعة. وفيما كان يرتقي 
السلم الموقي الى حعيتقا كثاء لحر إلى شمعة رى من الكعاته. 
وإذ صار بيننا لم يكتشف الملك فقط أن مصدر الشتائم» هو 
الببغاء كوكو الذي كنا نلهو ونسقيه الخمر بل إِنَّ كوكو مدرّب 
على سبّ الملك بأقذع الشتائم. بلا إبطاء أصدر الملك حكم 
الإعدام على كوكو: ”أمّا هذا الطائر» فسيّقدّم لي غدًا على هيئة 
طاجين بالحامض“» ثم انصرف حاملا القفص وبداخله كوكو 
المسكين. إنتظرتٌ حيئًا من الزمن أن يهدأ غضب الملك ثم 
ذهبت إلى القصر أتشّع للصفح عن كوكوء فقبل الملك تأجيل 
التنفيذ» ولكنّه أبقى الطائر لديه. بمناسبة العيد المقبل» عدت 
للتوسّل بأن يُطلق سراح كوكوء لكن دون جدوى. ثم كان يوم 
وجدتني فيه برفقة سيدي محمّد عند الملك» فنادى أن يحضر 
كوكو في قفصه. وما إن أزيل الستار عن القفص حتّى صرخ 
كوكو في وجهنا: ”أنتم أوباش أيّها الأمراء!*, ”عاش الملك!“؛ 
فعُدنا ومعنا ببّغاء أخضع لإعادة التأهيل بالحشيش! 


لف 0 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الفكر الجديد 0 
21 


١ 


الفصل الثالت 
الوريث 


في عام »١194/‏ نلت دبلومًا في العلوم السياسيّة على أطروحة 
موضوعها: الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ثم قرّرت مواصلة 
دراستي» في برينستون نفسهاء وإِنما في مجال الهندسة الماليّة, 
وهي من العلوم التطبيقيّة المتصلة بالواقع. لم يكن في المغرب 
ما يجذبني حقّاء لا سيّما أن الملك كان يمرُ مجددًا بطور من 
أطوار المرارة والغضب حدّ أنه قرّر في عام ١5/5‏ حرماني أنا 
وأخي وأختي من لقب ”صاحب السمو الملكيّ"» واستبداله 
بلقب ”صاحب السمو“ الذي يخلو من السمة السياديّة. طوال 
أسابيع راح مذيعو الأخبار في دار الإذاعة والتلفزة الوطنيّتين 
0 ”الملك الحسن الثاني يرافقه صاحب السمو الملكيّ» 

ب لآء غفوّاء ضاحب السمو...". لقد آراق الملك من وراء 
ذلك 0 أخيه المتوفى. كنت 


7و١‏ 8 
الفكر الجديد 


<جكر 


آنذاك في عنفوان شبابي» معترًا بنفسيء فتأنّرت بهذا القرار الذي 
جرح كبريائي في الصميم. من حسن الحظ استدعتني جدّتي 
لأبي» للا عبلة لتقول لي: ”إسمعء كلّ هذه الألقاب أتتنا من 
الغرب وهي مجرّد ألقاب» فلا أنت صاحب سموٌ ولا ملكيّ؛ 
أنت من الأشراف. وإذا انَخذْ الحسن الثاني القرار فلخشيته أن 
تسرق الأضواء من ابنه“ لكا سراي 
فساعدتني على تجرّ ع هذا القرار الذي اعتبرثه مُهِينًا. اليوم ومع 
مرور الوقت؛ أدركت كم كانت على حقّ. أليس أنني لم أدع لقا 
لا حملته: ”صاحب السمو الملكي'» ثم ”صاحب السمو"». 
ثم ”الأمير الأحمر“ وبعدها ”الأمير الأخضر“» وحتّى ”الأمير 
الأصف ر“ عندما عملت في آسيا... كان كل ذلك ولكن الحساب 
المصرفيّ الذي افتتحه الحسن الثاني يوم كنت طفلًا بقي يحمل 
هذا اللقب: ”صاحب السموٌ الملكىّ مولاي هشام". 

أدّت للا عبلة دورًا هامًّا في القصر. لقد استقرّت هناك لأنها 
تحبٌ أن تجد نفسها في قلب السلطة؛ وأن تمارس ما تتيحه 
السلطة من تأثير وهذا على خلاف من سبقنها من أمهات الملوك. 
رغم مستواها التعليميّ المتواضع كانت ذات فطنة وحسٌ سياسيٌ. 
كانت حمًا سيّدة عظيمة» وكنتٌ معجبًا بإرادتها القويّة لأنْها 
رغم تقدّمها في السن؛ ظلت تدرس اللغتين الفرنسيّة والعربّة 
لتتدارك ما فاتها من التعليم أيّام الصبا. كانت صارمة وخصوصًا 
مع نفسهاء وكانت تنادي ابنها الحسن الثاني ”سيدنا“ أمّا هو 


0 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


فكان يعاملها باحترام كبير. يقال» في أوساط العائلة» إنْها هي 
من أقنع الملك الشابٌ بالحفاظ على الحريم» وهذه نصيحة فيها 
مصلحتهاء لأنّ كثرة النساء حول الملك تقوّي موقع أمّه. أعتقد 
أن الحسن الثاني لامها في قرارة نفسه على سلطتها الخفيّة دون 
أن يبيدي لها ذلك. 

وافقت للا عبلة على انتقالي من المدرسة المولويّة» لأنّها رغم 
حرصها على أن يكون ولائي لابنها مطلقّا رغبت أن يتحقّق عن 
اقتناع بعيدًا من أيّة مقايضة ولا إساءة لكرامتي. من ثم فهي لم 
تدّخر جهدًا لتنقية الأحواء بيني وبين الحسن الثاني أو بيني وبين 
وليّ العهد. وكثيرًا ما كانت تردّد على مسامعي هذه النصيحة: 
”لا تظهر ذكاءك؛ بل ارتكبٌ الأخطاء لكي يتمكنوا من تصحيحها 
لك“. بل إنْها كانت تنصحني أن ”أكتب إلى الحسن الثاني رسائل 
فيها أخطاء إملائيّة“ و”آلَّا أتحدّث عن أمور تعلّمنُها في أميركا 
وقد يجهلها هو “. كانت الحكمة عند للا عبلة ترادف البساطة» 
وقد غمرتني بعنايتها إلى أن وافتها المنيّة في عام 2١1551‏ وأملها 
أن أعودء يومًا ماء ”سالمًا“ إلى كنف العائلة الملكيّة» ولكنّ أملها 
هذا لم يتحقق مع الأسف. 

عام ١95‏ مرضت والدتي. أصيبت باضطراب عصبي غريب 
يظهر في حركة الفك. من المربحح أنّه مرض نفسيّ يتطوّر بفعل 
أسباب عصبيّة أو جرثوميّة غير معروفة» أو بسبب تضافر هذه 
الأسباب معًا. أوّل الأمر أصاب هذا المرض بعض الطيّارين 


2 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الأميركيّين خلال الحرب العالميّة الثانية» فافتٌر ض أنَّ سيبه 
الإرهاق. على أي حالء رافقثٌ والدتي إلى مستشفى بنيويورك» 
ومكثت جوارها لرعايتها. هناك حذّرني الدكتور بلومب وهو 
طبيب أعصاب شهير, أن العقاقير التي تعالج بها قد توْدّي إلى 
الإدمان» التو رم يي سر 
الوقت» لا تستطيع الاستغناء عنها. كادت شدّة المرض تفقد 

م ل 
من معاناتهاء ولكن أيضًا لتلبية الحاجة النابعة من الادمان. كان 
الوضع مؤؤلمًا ومحبطاء فتهاونتُ في متابعة دروسي من أجل 
العناية بهاء وكنت أرافقها في نزهات طويلة على الأقدام في الغابة 
أو في مسالك وعرة إرغامًا لها على التركيز في كلل خطوة بهدف 
مساعدتها على استعادة يقظتها الذهنيّة. لكنّ والدتي كثيرًا ما 
انهارت جسديًّا وعقليًا خلال التمارين» ناطقة بعبارات لا معنى 
لها. كل ليلة» قبل أن أتمنّى لها ليلة هاتئة» كنت أقنّشُ جيوبها 
وسوى ذللك من المخابئ للتأكد من أنها لم تدسٌ هناك أو هنالك 
حبوب الدواء. إنتهى بي الأمر أسير شعور بالعجز والحَيْرة فقرّرت 
الاستغاثة بأخواتها. قدمت خالتي علياء» ركن الأسرة الركين» 
وبدأت تنام بجوارها لتمنعها من تناول جرعات زائدة من الدواء 
المخدّرء وبهذه الطريقة الصارمة أفلحنا في فطامها. خريف عام 
07 شُفيت والدتي» كما تمكنت» رغم الظروفء أن أنهي 
دراستي. عند هذا الحد كان على أن أدخل مجال الحياة العملية 


0 ١74 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


ولكن الأمر» متى ما كان المرء أميرّاء ليس بالأمر السهل. فأن 
يملك من هو في رتبة أمير المال شيء وأن يتعاطى الأعمال شيء 
آخر ! إذ بقي إرث والدي عالقَاء وبقيت ممتلكاتنا تحت وصاية 
مدير ماليّ هو في الحقيقة مجرّد واجهة للملك. لكنّ الحسن 
الثاني لم يكن في وارد التراجع عن رغبته في الهيمنة على ميراث 
أخيه ولاء استطرادًّاء في وارد السماح لي بأن أستقل ماليًا. من 
وجهة نظره؛ كان لا بد لي من الانتظار أمَا من وجهة نظري فلم 
يكن للانتظار من معنى. أخيرًا انُفقنا على إنجاز مشروع عقاريّ 
شمال البلاد على شاطئ البحرء أو ”الريفييرا المغربيّة“» قوامه 
بناء ١4./‏ وحدة سكنيّة على مساحة خمسة هكتارات بجانب 
المضيق قرب تطوان بتكلفة تناهز خمسة عشر مليون دولارء 
وقد أطلقتٌ عليه اسم قصر الرمال. 

أيَامذاك» مر الحسن الثاني بمرحلة حرجة؛ انغلق فيها على نفسه. 
وبلغت خلالها أنانيّته درجة مهولة؛ من سمات تلك المرحلة أيضًا 
ما أصابه من كسل حتّى عن القيام بالواجبات التي يفرضها عليه 
موقعه. كان على سبيل المثال» يبقى طوال اليوم على الجوارب 
البيضاء التي تلائم بذلة الغولف وعلى الجلباب الأبيض الذي 
يرتديه لاستقبال سفير جديد يقدّم له أوراق اعتماده» ويُحجم 
عن أدنى مجهود ولو بروتوكوليّ ويلعب الغولف طول الوقت» 
بالإضافة إلى تأخره المتكرّر عن المواعيد بما فيها الرسمية منها. 
لقد بلغ به الأمر أن ترك الملكة إليزابيث تنتظرء حيث اضطرّت 


ل 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


طائرتها إلى الاستمرار في التحليق لمدّة ساعة ريئما يصل الحسن 
الثاني إلى المطار لاستقبالهاء وقد ناقش البرلمان البريطانيّ هذه 
الإهانة خلال جلسة مساءلة حكومية... من وقائع تلك الزيارة 
أيضًا أن الملك وصل متأخرًا لتناول العشاء الرسمي» ولكي يبرّر 
ذلك تكلم عن انقطاع في التيار الكهربائي في القصرء وبنا 
أنه تبرير غير مقنع فقد أمر أن تُطفأ الأضواء فجأة في منتتصف 
العشاء! هل أراد بهذه الصبيانيّات أن يثبت أن النظام الملكىّ 
العلويٌّ أعرق من الملكيّة الإنجليزيّة؟ لقد تصرّف الحسن الثاني 
بالوقاحة نفسها مع الملك حسين عاهل الأردن عندما كان في 
زيارة خاصّة للمغرب. لقد استقبله مرتديًا سروالا يصلح لركوب 
الخيل» وكأنه يقول له: ”عرشك المتواضع لا يستحق منّي أن 
أرتدي غير هذا السروال لاستقبالك“. غضب الملك حسين 
وعاد إلى عمّان مساء اليوم نفسه. 

وبما أنني كنت واعيًا لتصرّفات الملك المزاجيّة» فلقد قرّرت أن 
أنَخذ كل الاحتياطات لتجتب أيّة عرقلة قد تسيء للمشروع أو 
تُطيح به من طرف الحسن الثاني. لهذه الغاية استعنت بأحسن 
الشركات في منطقة الشرق الأوسط. فتكفلت دار الهندسة التي 
يملكها الأردني كمال الشاعر والتي يقع مقرّها الرئيسيٌ في بيروت 
ولها مكاتب في جميع أنحاء العالم بوضع الدراسات وتكفلت 
شركة اتّحاد المقاولين التي يرئس مجلسها التنفيذي الفلسطيني 
سعيد خوري ومقرّها في أثيناء والتي سبق تصنيفها في المرتبة 


11 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


السادسة عشرة ضمن أكبر شركات البناء في العالم بأعمال 
البناء» وأخيرّاء لتمويل المشروع» التجأتٌ إلى الفلسطينيٌ عبد 
المجيد شومان رئيس المصرف العربيّ الذي يتّخذ من عمّان مقرًا 
له. بلااريب» لم تكن أحجام هذه الشركات الضخمة متناسبة مع 
مشروعي المتواضع؛ ولضمان استمراريّته لجأت إلى استراتيجيّة 
القوّةِ الساحقة التي بلورها كولن باول لاحقًا. لقد قبل شركائي 
الثلائة الانخراط في المشروع» كل لدواعيه الخاصّة. فكمال 
الشاعر أقرب المقرّبين لعائلتي وقد لعب بالنسبة لي دور الموجّه 
في فيددان الأعمال إنه رجل رائع من أصل شركسيّ» شديد بياض 
البشرة» وقد علمني كيفك أفكر بشكل استباقيّ» وفتح أمامي 
أبواب موسّسته» فكنت أعوّل عليها كلما احتجت لإنجاز دراسة 
مشروع. أمّا سعيد خوري فشخصيّته مختلفة: إِنّه شريك الأمير 
السعودي طلال زوج خالتي مُنى السابق؛ إِنّه رجحل فلسطينيّ 
عصاميّ؛ بدأ حياته العمليّة يجوب الصحراء وينام تحت الخيام؛ 
يُعبّد طريقًا هنا ويبني جسرًا أو أنبوب نفط هناك» وقد عاملني 
كأحد أبنائه. أمّا الفلسطينيَّ عبد المجيد شومان وكان من كبار 
المصرفيّين في العالم العربي» فقبل المغامرة لإزعاج ذلك الملك 
”المعتدل* الذي ينصاع بسهولة لأميركا وسياستها في الشرق 
الأوسط. علمًا أن شومان كان بطبعه لا يثق بأهل السياسية. 

ولكن لا يُستخفْنٌ بدهاء الحسن الثاني... فعندما رآني الملك 
بخاطا بهذا الفريق الاستثنائيّ القادم من الشرق الأوسطء قرّر 


8 ١4١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


استيعابي» مقترحًاء بادئ الأمرء أن يشاركني في المشروع, 
وهذا الاقتراح سابقة في المملكة حيث يهيمن الملك على 
الجميع» فحاولتٌ التهدب قائلا: "سيديه أنت ملكي» فكيف 
لك أن تكون شريكي؟" لم يُبال وكان جوابه: ”بل سنفعل» لأني 
أرغب في ذلك!". ٍ 

لم يترك لي مزيدًا من الوقت وسلّمني على الفور شيكا بقيمة تعادل 
خمسة ملايين دولار. أخذني على حين غرّة ولكتي أدركت أن 
القبول باستلام هذا الشيك يعني نهاية استقلاليّتي» فاستجمعت 
شجاعتي كلها وأعدت الشيك إلى الملك. حدّق في وجهي 
بذهول وقال: 

”مابك؟ أهذا أوّل شيك بيننا؟!“ 

- صحيح! ولكنّ الأمر مختلف هذه المرّة. لا أريد أن أكون 
شريكا في الأعمال التجاريّة مع عائلتي» إِنْها مسألة مبداً. 

في اليوم التالي» أرسل إليّ الحسن الثاني شاحنة مليئة بحزمات 
من الأوراق النقديّة» قيمتها الإجماليّة تعادل خمسة ملايين 
ذولاز: بينم كان السائق رةه ضاعكاة "هذاا من عن الملاك: 
هذا من عند الملك“؛ فهمت بسرعة أن الحسن الثاني ارتكب 
زلّة» لأنْ التعامل التجاريّ لا يكون بهذه الأكداس من النقود إِلّا 
في بلاد المافياء فقفزت إلى الشاحنة ورافقت السائق إلى القصر 
لنعيد المال لصاحبه. أدرك الملك أنه لم يوفق في مناورته هذه 
المرة فتراجع دون عناد: ”حسئًاء كما تريد» ولكن عليك» أنت 


حل 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


وفريقك الثلائيّ» أن تطلعاني على التصاميم والدراسات وكل 
شيء... أنت أميرء وعلى مشروعك أن يكون متماسكا!“. 
إستدعانا الملك للامتحان أمامه, ولكي يلعب كعادته على 
البروتوكول والعامل النفسي» تركنا نننظر أُوَلَا لمدّة ثلاث 
ساعاتء ثُمّ أجبر أصدقائي على خلع أحذيتهم, رغم أنه استقبلنا 
في مكتبه وهو فضاء عامٌ. أمرني» دونهم, أن أبقى منتعلاً حذائي 
وكأنه أراد عمدًا التمييز بين أفراد العائلة المالكة وثلاثة رجال 
أعمال أتوا لتنفيذ مشروعي: قصر الرمال. كذلك استدعى الملك 
المدير العام للشركة الأفريقيّة للسياحة ساتل لتكتمل عناصر 
المشهد؛ علمًا أن ساتل منافسنا الرسميّ في المشاريع العقارية 
على شاطئ البحر... إحتججت على هذا التعامل غير المتكافى, 
فقال الملك: ”وما الضرر؟ إِنْ الشركة الأفريقيّة للسياحة شركة 
تابعة للدولة» والدولة هي أناء وأنا غير متحيّر. لذلك فكل شيء 
على ما يرام“. إستدعى هذا السلوك مفعولا عكسياء فعندما 
انتهت المقابلة خرج شركائي الثلاثة أكثر حرصًا على الاستجابة 
للتحدّي: ”لقد سعى إلى إحباطناء ولكنّه في الحقيقة حفزنا أكثر 
من حيث لا يدري“. بالفعل» رأى المشروع النور وخرج قصر 
الرمال إلى الوجود! 

في تشرين الثاني (نوفمبر) 2١9448‏ إلى جانب دراسة القانون, 
التحق سيدي محمّد بمكتب رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك, 
جاك ديلور» في بروكسل بصفة متدرّب. من جانبي» التقيت 


م١‏ 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الأمير الأردنيّ الحسن شقيق الملك حسين وولىّ عهده آنذاك, 
وكانت تربطه بوالدي صداقة وطيدة. كان نجم الأمير الحسن 
ساطعًا في الشرق الأوسط في تلك الفترة» وهو رجل حدائيٌ 
وذكيّ» درس في جامعة أكسفورد» وكان يظهر وجهًا جديدًا 
ل”الأمير العربي“. طلبت منه أن يتفضل ويتخذني متدرّيًا في 
مكتبه. بعد الحصول على موافقته أسرعت لمطالعة عمّى بالأمر 
”أنا محظوظ جدًا! الأمير الأردنيّ الحسن ترح لك أن أنضمٌ 
إلى مكتبه لفترة تدريبيّة. لقد بدأ سيدي محمد علمه في الشرق 
وهو يتابعه في الغرب, وأنا بدأت في الغرب والآن أريد أن أواصل 
تعليمي في الشرق“. لم يستطع الحسن الثاني الرفض بعد كل ما 
قاله عن ”مخاطر“ أميركاء فسمح لي بأن التحق بمكتب الأمير 
الحسن ولكن على مضض. 

لسنة ونصف سنة» عملت إلى جانب الأمير الحسن في عمان؛ 
ألفتٌ هذه العاصمة ذات الهندسة المعماريّة المميّرة» بأحجارها 
الجيريّة الناصعة البياض التي تبهر العين تحت نور الشمس. 
أتاحت لي هذه الفترة التدريبية أن أفهم؛ من الداخلء بلدا قليل 
الموارد» هش البنية الاقتصاديّة» منقسمًا ديموغرافيًّا وكيانه مرتبط 
بشكل لا رجعة فيه بالصراع العربيّ الإسرائيلي. كنت أتعامل 
خاصّة مع المنظمات غير الحكوميّة» وأشتغل كذلك مع خليّة 
التفكير التي أسّسها الأمير» وعلى الحوار بين الأديان والعلاقات 
مع دول الخليج. كما ساهمتٌ في جميع المشاريع؛ من استغلال 


1 ١4: 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الفوسفات من قاع البحر إلى التعاون الثنائيّ مع إيطاليا في حقبة 
رئيس الوزراء بيتينو كراكسيء الذي حاول ابتكار صيغ جديدة 
في ميدان التعاون من أجل التنمية. كان كمال الشاعر سخيًا بلا 
حدود, لا يتردّد في إنجاز أيّة دراسة جدوى أو استشارة أطلبها 
منه لما فيه مصلحة وطنه الأصليّ. هناك بدأت أشتغل على قواعد 
البيانات ودراسات الجدوى وأقدّر فضل أستاذيٌّ في برينستون 
هارولد كون وجورج روس اللذين تعلمتٌُ على يديهما مادّة 
بحوث العمليّات (أو ما يسمى المساعدة على اتخاذ القرار). 
كان الأردن هو المدرسة التي تعلّمت فيها انّخَاذ القرارات. 
حظيت بثقة رجل صارم هو الأمير الحسن الذي كان يقوم مقام 
المكتب الخلفيّ لأخيه الملك حسينء وهو المقام الذي حلم 
به والدي! كان الأمير الهاشميّ بمنزلة العم بالنسبة لي» وللتعبير 
له عن احترامي العميق كنت أقبّل كتفه أمام الناس بأحَرٌ مما أقبّل 
يد عمّي الحقيقيّ» الحسن الثاني. في الأردن كثيرًا ما التقيت 
الملك حسين؛ حيث كان يدعوني لتناول العشاء ويأخذني معه 
لزيارة عشائره وهي أساس عرشه. والملك حسين رجل ذو ذكاء 
تكتيكيّ لا شك فيه مجيدٌ لفن المناورة» ولو على قدر أقل من 
الجاذبية قياسًا بالحسن الثاني. 

خلال الأشهر ال8١‏ التي قضيتها في الأردن» كنت كثيرًا ما ألتقي 
سيدي محمّد خلال عطل نهاية الأسبوع» في بروكسل أو في 
هذه العاصمة أو تلك من عواصم الشرق الأوسط أو في المغرب» 


يل 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


فنسَرٌ أيّما سرور باللقاء خارج أسوار قصر الحسن الثاني. بل إن 
الملك نفسه كان يجد راحته في الهدنة العائليّة التي تترتب على 
ابتعادنا نحن الاثنين عن المغرب. 

في تلك الأثناء استعاد الملك زمام المبادرة في قضيّة الصحراء 
الغربيّة بمناسبة الإعداد لاستفتاء تقرير المصير الذي قبله عام 
.0١‏ قُسمت خطّه إلى مرحلتين. أراد أَوّلَا ترسيخ الوجود 
المغربيّ كأمر واقع بعد المسيرة الخضراء؛ عن طريق إغداق 
وسائل الرفاه والامتيازات على مجتمع الصحراء «الغربيّة)) 
فأصبحت السلع الأساسيّة مدعومة إلى حدّ كبير في أقاليمنا 
الصحراوية؛ ورُفعت الرواتب في الوظائف العامة بنسبة © 7/ كما 
تحوّلت مدينة العيون إلى حاضرة حديثة. لقد أمر الملك أجهزة 
الدولة ببذل هذه الجهود من أجل تحويل شرعيّة الأمر الواقع 
التي أدّت إليها المسيرة الخضراء إلى شرعيّة قانونية من خلال 
صناديق الاقتراعء ثم أراد أن يرتفع عدد الناخبين من ٠٠٠٠٠١‏ 
أحصتهم الأمم المتحدة إلى ٠٠٠٠٠١‏ ناخب بما يؤدّي إلى أن 
يصبح الصحراويّون المؤيّدون لاستقلال الصحراء أقليّة أمام كتلة 
الناخبين الراغبين في الاندماج مع المملكة. كان الحسن الثاني 
على استعداد لقبول الاستفتاء شرط أن يكون ”استفتاءً تأكيديًا". 
وكان مقتنعًا أن نتائج الاستفتاء ستأتي لصالح الاندماج ولا تسعى 
لشرائهم؛ واليوم يخامر الكثير منهم الشعور بأنّهم مُستعمرون: 
بينما يعتقد المغاربة أنهم ببساطة عادوا إلى وطنهم. 


ل 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


على أواخر ثمانيتيّات القرن الماضيء وإلى جانب جهوده الخاصة 
بملف الصحراء, قام الحسن الثاني بأنشطة دبلوماسيّة مكتّفة. كان 
العالم العربي منقسمًا بين ”معسكر الرفض"“ و”معسكر الاعتدال"» 
وملك المغرب كما هو معروف يُعَدٌ الزعيم العربيّ الأكثر ميلا إلى 
الغرب. وإذا كانت النزعة القوميّة العربيّة قد تللاشت بعد موت 
جمال عبد الناصرء فإن بعض نفحاتها بقيت تهبٌ هنا وهناك. 
في مواجهة مؤيّدي القوميّة العربية وقف الحسن الثاني مدافعًا 
عن فكرة التحرّر الوطنيّ التي جسّدها رجوع والده من المنفى» 
وتثبيته شرعيّة نضاله ضد الاستعمار بالإضافة إلى حمله لقب أمير 
المؤمنين. وبما أن والده عمل على حماية اليهود المغاربة» فإن 
الإسرائيليين» لا سيّما ذوي الأصول المغربيّة» ينظرون إلى الملك 
بعين الرضا. ثمٌ إن الطريقة التي رسّخ بها محمّد الخامس هذه 
الحماية اعتثبرت في العالم العربيّ عملا نبيلا مستلهمًا من المبادئ 
الكبرى للعصر الذهبيّ الإسلاميّ. كما أن خشية عرب الخليج 
من الظهور كحلفاء للغرب أعطت للحسن الثاني مجالا للمناورة» 
ولم يتغيّر موقفهم هذا إلا بعد انخراط الولايات المتّحدة في 
حريئ الخليج» حيث كان الحسن الثاني قبل عام ١191١‏ يتمبّع 
بشبه حصرية لهذا القبيل من الديبلوماسيّة. إلى ذلكء فلقد كان 
في مأمن من الانتقادات الغربيّة باعتبار أن واشنطن وباريس ولندن 
لم تكن لتجازف بالتنديد بانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في 
المغرب تحت ذريعة الخصوصيّة العربيّة. 


1 ١1 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


كل هذه العوامل علاوة على مهارة مشهود بها وجرأة مدهشة؛ 
جعلت من الحسن الثاني شخصيّة رئيسة على الساحة الدوليّة. 
أمَا الجانب السلبىٌ فهو أنَ الملك بات يشعر بالملل في المغرب. 
لقد انتهى به الأمر إلى اعتبار المغاربة طيّعين ومتملقين وقليلي 
الكرامة علمًا أنه هو من صيرهم كذلك. في الواقع أصبح الرجل 
يظنّ نفسه أكبر بكثير من بلده الصغير. 

هكذا تحوّل المغرب إلى قبلة لمؤتمرات القمّة العربيّة ذات 
الطقوس المكرورة: يجتمع وزراء خارجيّة ار العربيّة في 
مكان ماء ويطلبون من المغرب تنظيم القمّةء فيقبل ا 
وعدا لققةاخضادق على قزارانت حص التقا زط عليها قسنًا: 
يفتتح الحسن الثاني المؤتمر بخطاب يبدو فيه أذكى من الآخرين؛ 
ويحرص على الظهور في هيئة أمير المؤمنين مقارنة بآخرين هم 
خليط من البدو ومن مغتصبي السلطة ومن الضبّاط الانقلابيين» 
فيخاطبهم باستعلاء ولا من يتجرّأ منهم على مضاهاته إلا سعود 
الفيصل» خرّيج جامعة برينستون. خلال المداولات التالية؛ 
يُهمل الحسن الثاني سمّاعته ويستمتع بتدخين سيجارة مارلبورو 
لايت مستعملا مبسمه. هذه هي الصورة التي ينقلها عنه التلفازء 
فيبدو مسترخيًا كما لو أنه في مطعم يتأهَب للإجهاز على قطعة 
من اللحمء فينبهر المغاربة ويشعرون بالفخر بملكهم. بعد القمّة 
يُشكل فريق اتصال ويُطلب من الحسن الثاني أن يتحمّل عناء 
السفر إلى الولايات المتّحدة لشرح الموقف العربيّ. الخلاصة أن 


014 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الحسن الثاني أصبح يجسّد القضية العربية» أو على الأقل القضية 
العربيّة كما يتم تسويقها في الغرب. مبادرات الملك السعودي 
فهدء مثل خطة السلام العربيّة التي أقرّت في أيلول (سبتمبر) 
في مدينة فاس» أضيفت إلى رصيد الحسن الثاني لأنّه من 
رعاها. في الوقت نفسه؛ تغزز حضور ملك المغرب في الشوئون 
الإسرائيليّة الفلسطينيّة عبر رئاسته لجنة القدس» فضلا عن 
تواجده في صلب اتّحاد المغرب العربي. أخيرًاء أدذى الحسن 
الثاني دورًا أساسيًا سنة ١149‏ في التوصّل إلى اتفاق الطائف 
لإنهاء الحرب الأهليّة في لبنان. بعد فترة وجيزة من إقرار اتفاق 
الطائف». جرى تضمين بنوده في الدستور اللبناني» ورغم أنه هدأ 
من روع المدافع» فلقد كرّس هذا الاتفاق كما رأى الكثير من 
اللبنانتين السيطرة السورية على لبنان؛ وهو ما تفظن له الحسن 
الثاني خلال المفاوضات فطلب من السوربّين الالتزام بجدول 
زمنيّ للانسحاب من لبنان. ولكن الملك فهد اكتفى بأن يلتزموا 
بذلك من حيث المبدأء وستبدي التطوّرات أن الحسن الثاني 
كان على صواب. 

في أوج تألّقه الدبلوماسيّ» كان للحسن الثاني محاورون من 
أعمدة حقبة الحرب الباردة» وكلّ هولاء من الشخصيّات التي 
تضع مصالح دولها فوق كل اعتبار. من هؤلاء الأميركيّ هنري 
كيسنجر والفرنسيّ ألكسندر دومارانش مدير الاستخبارات 
الفرنسيّة, اللذان كان يحلو للملك الحديث معهما طوال ساعات 


0 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حول كل القضايا الاستراتيجيّة. ومنهم أيضًا الجنرال الأميركيّ 
فيرنون والترزء وهو رجل استخبارات من الطراز الأوّل. لقد 
أغرى هذا الوسط الحسن الثانى» لاقتناعه العميق أن القرارات 
الحقيقية تنّخذ فى الظل. بعد موافقته وعلى سبيل المثال» على 
تأسيس الاتحاد العربيّ الأفريقي مع معمّر القذافي في عام 4/4 ١‏ 
- وهو القرار الذي أثار هلع الإدارة الأميركيّة ‏ لم يقم الملك 
ولم يرسل دبلوماسيًا مغربًا إلى وزارة الخارجية في واشنطن بل 
أرسل أحد مقربّيه رضا أكديرة» إلى مركز وكالة الاستخبارات 
المركزيّة سي.آي.إيه. في لانغلي بولاية فيرجينيا لأنّه يعتبرها 
المركز المحوري للسلطة الأميركيّة. 

في التاسع من تشرين الثاني (نوفمنبر) عام 28ح يوم سقوط 
جدار برلين» كنت في باريس» أتأهَب للسفر إل ألمانيا مع 
صديق لي» عندما اتصل بي الحسن الثاني وطلب مني العودة إلى 
المغرب. كان تأويلي لسقوط الجدار أن كل شيء أصبح ممكنًا 
وأنْ المرء يمكنه أن يعيش شتّى الأحداث في حياته. لا أصدّق 
نظرية نهاية التاريخ التي بلورها فرانسيس فوكوياما والتي تبشر 
بخلود العالم الغربيَّ في ظل اقتصاد السوق والديمقراطيّة. أما 
كارل ماركس فهو عندي مفكر من سلالة مفكرين أمنوا بحركيّة 
التاريخ أكثر منه فيلسوفًا ”ملكوت الحاجة“» في عُرف هؤلاء 
هو المحرّك الرئيس لكل شيء ولكل المتغيّرات. على المستوى 


لل 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الشخصيء لست ماركسيًا بل ليبراليًا. بين ريمون أرون وجان 
بول سارترء أميل دون تروّد إلى آرون الذي لم يكن من المدافعين 
عن قانون الغاب بل مقتنعًا بدور الدولة في تنظيم الاقتصاد, 
وهنا أجد راحتي في النزعة ”الديمقراطية الاجتماعيّة“ وفقًا 
للمصطلحات الغربيّة. 

في اليوم التالي» سائرًا جنبًا إلى جنب رفقة الحسن الثاني وهو 
يلعب الغولف» قال لي وهو يتحدّث عن الأنظمة المهدّدة 
بالسقوط بعد نهاية الحرب الباردة: ”إنها لعبةٌ قاعدتها هل تملك 
الورقة الأساسيّة؟ مفتاح النجاة أن تكون حذرًا لكيلا يمسّك 
اللهيبء ثم تهدأ العاصفة وتنتهي اللعبة“. لقد أبى أن يحرقه هذا 
اللهيب» أو أن يودي به هذا الانهيار الممنهج المحتوم. كان 
فخورًا بصفته وريث الملكيّة المغربيّة العريقة» ومن ثم كان من 
المستحيل أن يفرط بها. 

في تلك الآونة أيضاء قمنا بزيارة القصر الملكيّ الكبير في مدينة 
مكناس» قلب المملكة سابقاء وقد هجر اليوم» واستولى الخرابٌ 
على كل أجنحته ما عدا السور المحيط به. متريّعين على بسط 
أحضرت اللمياننية تناولنا ظعاع الغداء.. وسيدها خرقة السلطان 
مولاي إسماعيل تم تجهيزها لقيلولة الحسن الثاني. في تلك 
الأثناء» وبينما كنت أنا أتجوّل بين أطلال المكان» فاجأني الملك 
وقد استفاق من قيلولته: ”تعال أريك شيئًا“. اجتزنا ممرًا صاعدًا 


يعبر باحات متعاقبة» حتّى وصلنا إلى قبو كبير هو عبارة عن غرفة 


١5١‏ مكتبة 
الفكر الجدي 


<كجكر 


ضخمة عالية السقف» تتوالى على جدرانها حلقات حديديّة 
كبيرة. كان المكان إسطبلا في سرداب: ”هذا إسطبل عملاق 
سعته الاف الخيول"»: قال الملك؛ ”هذا التجمّع يوازي اليوم 
الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط» وهذه طريقة 
مولاي إسماعيل ”إبراز قوّته أمام القوى الخارجية“. شعرت 
وكأن الملك يتساءل في هذه اللحظة النادرة عن معنى المجد 
الحقيقيّ» هذا المجد الذي كان يعترف بأنه يتجاوز شخصّه. وأنْ 
الشخص وعاؤه الموقت. بهذه المقاييس» كان الحسن الثاني 
يضطر إلى التواضع. ثم قال وكأنه يخفف من الحرج: ”هيّاء 
سأريك شيئًا آخر“. غادرنا القبو وتوجهنا إلى فناء يحيط به سور 
عال من الطين. عندما اقتربنا لفت نظري أن قسمًا من السور قد 
تم تجديده. وضع الحسن الثاني يده على الجدار وقال: ”تحكي 
الأسطورة أن للا ياقوت ابنة مولاي إسماعيل دُفنت هنا لرفضها 
الزواج من رجل اختاره لها السلطان في إطار تحالف سياسيّ» 
ويقال إن صرخاتها تسمع في الليل» ولذلك أمرتٌ بترميم الجدار 
لأنه إذا انهار وانكشفت رفاتها سنقع في حرج كبير. 

- ولكن إن لم نجد شيئًاء لسوف يدرك الجميع أنها مجرّد 
أسطورة. 

نعمء وسيكون ذلك أسوأ!“ 

بيت القصيد أنه سواء كانت الحكاية حقيقيّة أم خياليّة» فهي تبقى 
درسًا في سياسة الناس» نقوم على حماية الأساطير للحفاظ على 


ل 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


استمراريّة السلطة عبر التاريخ كي تنجذّر في المخيّلة الجماعيّة 
وكي تتقبّل هذه المخيّلة أن تنحوّل جريمة قتل إلى قرار سياسيّ 
هدفه الاستقرار. 

في عام 21545 أبلغني الملك حسين أن ساعة عودتي إلى 
المغرب قد دقّت. شخصيًا لم أكن في عجلة من أمري. فور 
عودتي من الأردن» استدعاني الحسن الثاني بحضور زوجته؛ 
وخاطبني بلهجة توسّمت فيها صدقًا لم أعهده منه منذ زمن بعيد: 
”إسمع؛ لقد راكمناء أنا وأنت» الكثير من سوء التفاهم. لعلّك لم 
تفهمني دائمًا لصغر سنّك. أما الآن فصرت راشدًا. إن كنت تريد 
إنجاز مشروعك في الشمال فافعل» ومع الشريك الذي تريد. 
اليوم أنت ابني الثالث لأثني اخترتك» وليس لأنّني ورثتك من 
والدك. مرحبًا بك في بيتي!". تحوّل هذا الحديث إلى نوع من 
الالتزام العلني بسبب حضور زوجة الملكء التي أكنّ لها مودّة 
خاصة والتي تبادلني الود ومن ثم شكل هذا اللقاء منعطفًا في 
علاقني مع عمّي. منذ ذلك اليوم وحتّى عام 2١994‏ بذل الحسن 
الثاني جهودًا كبيرة للتفاهم معي» وصرنا نلتقي كل يوم فأعطاني 
الانطباع؛ لأوّل مرة» بأنني مقرّب منه وحرّ في الوقت نفسه. 
في الحقبة نفسها كتب عليّ» لسوء الحظ» أن أشهد على تدهور 
العلاقات بين الحسن الثاني وابنه الأكبر. كان الملك في صراع 
مع ولي عهده. يؤنبه أمام الملأ في السيّارة» ساعة اصطحابه 
للصلاة» وعند انفضاض مجلس الوزراء. لم يكن الحسن الثاني 


8 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


ظالمًا بل غيورًا من أن سيدي محمّد سيخلفه. في الوقت نفسه. 
كان يشعر بالغيظ والاستياء لأنه فشل في تربية وليّ العهد على 
صورته ومثاله. فلقد كان الخلودء لا أقل من الخلودء طموح 
الحسن الثاني ومبتغاه. ذات يوم» في لحظة غضب جارف» 
صحت يومًا في وجه أحد مستشاريه: ”إن المللق ليس خخالذا. 
هو أيضًا فان!“ أبلغ المستشار الحسن الثاني بذللقع فاحايه بأنه 
سيحكم حتّى من قبره. واليوم؛ أتساءل أحيانًا إن لم تصدق نبوءته 
تللق 

اليوم وقد صارت تلك الأحداث من الماضي أتساءل: ألم يَتَلّعَب 
الملك بنا: سيدي محمد وأنا؟ أي إنّه تصالح معي لأكون شاهدًا 
على الإهانة التي كان يلحقها به؟ كان لا يكف عن مؤؤاخذة سيدي 
محمد على افتقاده الحسٌ السياسي مُسمّعًا بأثني أملك منه لهذا 
الحسٌّ. بذا كان الملك يسمّم علاقتي بابنه» ابن عمي وولىٌ 
العهد. من بعد أن كانت على خير ما يرام. ورغم وقوفي في كثير 
من الأحيان موقف المدافع عن سيّدي محمدء فإن دفاعي هذا 
لم يُجدٍ نفًا. 

في عام ١597‏ أعطى سيدي محمّد حديئًا لمجلة باري ماتش 
جاء فيه: ”يقول لي والديء إن لم تحسشن من أدائك» سأسلّم ولاية 
العهد لأخيك أو ابم عقك", أخذث سعة ين المحلة وقصدت 
الحسن الثاني: ”هل رأيتم الورطة التي وضعتموني فيها؟ أنتم 
تذرون الشقاق بيني وبين ابن عمّي“. فأجاب: ”وهل تعتقد 


0 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


أننا عائلة من البقَالِين نفتح صباحًا ونغلق المحل في الخامسة 
مساء؟ أنا حر في تصرّفاتي! وما عندي لابني هو لخير بلدنا“. 
ثُمٌ نادى على سيدي محمّد: ”ورّطتني بنشرك لخصوصيّاتنا على 
الساحة العامّة!“ ثم تطوّر الحديث إلى مشادّة بيننا. لطالما بذل 
الملك جهده لتأجيج الخصام بيني وبين ولي العهد وها هو قد 
بلغ مبتغاه يومذاك. ربما اعتقد وقتها أنه سينمّي لدى ابنه» بفعل 
الصراع معي؛ تلك الروح القتاليّة التي كان يظنّ أن سيدي محمد 
يفتقدهاء ولكن النتيجة جاءت سلبيّة للغاية وترجمت عن نفسها 
على شكل إحساس دفين بالضغينة المحضة لدى ولي العهد. 
لقد نجح الحسن الثاني في نهاية المطاف في إذكاء هذا الشجار 
الهائل الذي لا نفع فيه للبلاد. 

عندما فات الأوان» ندم الملك وحاول أن يصلح ما أفسده بنفسه 
من قبل» فجمعنا أنا وسيدي محمّد ليقول لنا أنتما أخوان. وإِنْ 
يت يعيداء بيد أَنْ مبادرته جاءت ضعيفة» متأخرة.. 

ساءت علاقتي مع سيدي محمّد في مطالع التسعينيّات حجراء 
السموم التي ما انفك الحسن الثاني ينفثها 

لم أدرك أيَامذاك عواقب هذا الخلاف. بين عامي ١9894‏ 

و454١‏ عشت متلذّدًا بالحريّة المتاحة لي . إعتقدثٌ أن الملك 
يفكر في خلافته ويهيئنا كل واحد من جهته؛ لشغل مناصب 
مختلفة في الدولة» كل حسب كفاءته. في هذا السياق» أصبحت 
لا أتردّد في أخل المبادرات» وأخذ روساء دول» كالرئيسن 


ل 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


السوري حافظ الأسدء يتتصلون بي كي أوصَل رسائلهم إلى 
الملك؛ فأنفذ مهمّة الساعي ذهابًا وإياًا على أكمل وجه؛ فبين 
الرجلين نفور متبادل وأقنية الحديث المباشر بينهما موصدة. عام 
65 أراد عمّي تنظيم مؤتمر قمة لدعم ياسر عرفات الذي 
كان قد أغضب سوريا عندما نقل مقر منظّمة التحرير الفلسطينيّة 
من طرابلس اللبنانيّة إلى تونس بدلا من دمشق. أراد حافظ الأسد 
إجهاض القمّة وبعث إلى الحسن الثاني برسالة تهديد. فأجابه 
عمي باقتضاب أنه لا يخشى شيئًاء وأنه معتاد على منطق القوّة 
والعنف منذ أيّام نضالنا التحرّري» وعليه دعا الملك للقمّة 
الداعمة لعرفات. 

لم يثق الحسن الثاني يومًا بحافظ الأسدء وكان يرى فيه وحشًا 
من وحوش الحرب الباردة. إستاء من رؤية أميركا تغازل رجلا 
احتقره كما احتقر أيٍّ ملازم يصبح فجأة جنرالاء على عجز تام 
عن تركيب جملة مفيدة دون أخطاء نظرًا لثقافته الهزيلة. على 
أنه لا بد للاعتراف للأسد بأنه أجاد اللعب على خيوط الشرق 
الأوسط لدرجة أنه استطاع أن يجعل من بلاده حجر الزاوية في 
المنطقة. في هذا الصدد كان كيسنجر يقول للملك: ”لا يمكنك 
أن تشعل الحرب من دون مصرء ولا يمكنك تحقيق السلام من 
دون سوريا“. من جهته لام حافظ الأسد الحسن الثاني على 
التدخحّل فيما لا يعنيه. وهنا ومن باب الإنصاف لا بد من الإشارة 
إلى أن عمّي منح رفعت الأسد» شقيق الرئيس السوريء الذي قاد 


545 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عضياناا ملكا مد لغ يعوازاث سفر مفريية له ولعائلقة هنا 
أثار حفيظة حافظ الأسد وضغائته. 

يوم الثاني من آب (أغسطس) عام 2١44٠‏ غزا صدّام حسين 
الكويت. كانت أولى النتائج بالنسبة لنا هي أن الحسن الثاني 
اكتشف قناة سي أن أن الأميركيّة. استدعاني لأعرّفه بمن هو 
تيد تيرئر فشرحت له ثُمْ أمر بتركيب الصحون اللاقطة وأجهزة 
التلفزيون في الديوان الملكيّ وفي غرفة نومهء ثم أقرٌ لي أنه 
وجد هذه القناة التلفزيونيّة أكثر ثقة من المعلومات التي ترده 
من القيادة العامّة العسكريّة! لما كان المغرب قد وقع اتفاقيّة 
دفاع مشترك مع المملكة العربيّة السعوديّة» انضمٌ إلى القوّة 
المتعدّدة الجنسيّات رغم أن عواطف الشعب المغربيّ كانت 
تميل للعراق. إثنان أزعجا الحسن الثاني في قراره هذا: أمّا الأول 
فاتّباع سياسة معارضة لتوبحهات الرأي العام» وأمّا الثاني» ولأنّه 
الملك المطلق» في اضطراره للوإصغاء إلى شعبه... ولعله قال في 
قرارة نفسه أيَامذاك: ”ا لهذا الزمن» كيف يضطرّني» وأنا أمير 
المؤمنين» أن أنزل إلى هذا المستوى!“. 

راهن الحسن الثاني على الانتصار الأميركي, بيد أن أمرًا ظل 
يؤرّقه: كيف لرجل بحكمة الملك حسينء عاهل الأردن» أن 
ينضمٌ إلى الائتلاف المعارض إلى جانب صِدَام حسين؟ إقتنع 
الحسن الثاني بوجود مبرّر لهذا الاختيار. فبعد اجتماع لمجلس 
الوزراء» تساءل أمام مجموعة ضيّقة من الخلّص كنت أنا منهم: 


8 ١/ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


”أنا لا أفهم» صدام حسين رجل يعرّض نفسه وبلده لدمار 
واحتلال شبيهين بما أصاب ألمانياء فكيف لرجل ذكيّ مثل 
الملك الحسين أن ينساق وراء هذه المغامرة الرعناء؟ اللهم إلا إن 
كان يعلم أن صدّام يخفي سلاحًا محظورًا...". 

شرح لي الملك حسين لاحمًا أنّ موقفه بُني على عمليّة حسابيّة 
سياسيّة: كان الملك الأردني يعتقد أن صدّام حسينء وهو مموّله 
الرئيسيّ» سيتصرّف بعقلانية وفي منأى من أي تهوّر فينسحب من 
الكويت قبل فوات الأوان» أو يضع يده على حقل بوبيان النفطيّ» 
ولكن دون أن يترك الفرصة لتشكيل تحالف عالميّ ضدّه. لو 
نجح هذا الرهان لأصبح الاثنان» الرئيس العراقيّ والملك حسين 
بطلين في العالم العربيّء ولأصبح الحسين هو الوسيط الذي لا 
غنّى عنه. لم يكن الملك حسين يتصوّر أن صدام, البدوي الذي 
لم يغادر أبدَا محيطه ويعيش محاطا بحاشيته التي لا تعرف إلا 
السمع والطاعة» سوف يعاند إلى آخر رمق كما فعل. 

على أي حال» استدعاني الحسن الثاني ليكلفني بمهمة: ”أريدك 
أن تجلي لي حقيقة هذا الأمر. أريد أن أعرف ما إذا كان صدام 
الذي يصلي أمام الكاميرات ويضرب علم بلاده بشعار الله أكبر 
لأيعنه كدنه "ناجو ينا" شافقاء وأن أعرف هل لديه أيّ مخطط 
ما أو سلاح سري. فأنا لم أصل إلى أيّة نتيجة» والدول الغربية 
لها رغبة شديدة في الهجوم على العراق» وأنا لا أحصل منهم 
على أية معلومات موثوق بها“. عدت إلى القصر في اليوم 


5 ١94 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


التالي» وأوضحت له أني لا يمكن أن أقوم وحدي بعمل جهاز 
استخباري بأكمله. وبالتالي فأقصى ما يمكنني فعله هو تجميع 
القرائن دون الوصول إلى اليقين. وافق الحسن الثاني على هذا 
الرهان وقال: ”حسئاء أنا أعطيك شيكا على بياض» ولكن أريد 
أن أعرف بسرعة.“ على الفور باشرت اتصالاتي بأصدقاء لي في 
عمّان» من أصحاب المراكز الحسّاسة في الجيش وممّن هم على 
اتصال بضبّاط صدام حسين وأسرته. إستقبلتٌُ عددًا كبيّرا من 
الناس ووزعت الهدايا بسخاء, علب السيجار والسترات وخمس 
سيارات مرسيدس .5852,557٠‏ الخلاصة أن القضيّة كبرت» وكلّ 
يومين يستدعيني الحسن الثاني؛ ودون أن يرفع رأسه من فوق 
مكتبه» يسألني وهو يلوّح بفاتورة جديدة: ”لمصلحة من هذه؟". 
فأجيب: “هل تريدون المعلومات أم هدب » وأخيرًاء استدعاني 
الملك ليقول إِنّني لا يمكن أن أستمرٌ في دفع مصاريف المبيت في 
فندق بلازا أثيني في باريسء ثم انفجر غضبًا: ”في آخر المطاف, 
هل عندك الجواب عن سؤالي الأصلي هل يمتلك صدام حسين 
سلاحًا سريًا أم لا؟* اعترفت بأنْني ما زلت لا أدري. ”أنت تقول 
هذا شرفي ماليًا!“. 

هنا قدرت أن أجازف بقوّة» فطلبت من صاحب خزينة الملك 
أن يضع بتصرفي ٠٠‏ وددولار. أردت أن أسافر إلى جنيف 
لألتقي جورج سركيسء أحد تجار الأسلحة الكبار» وهو رجل 
بَدين يزن حوالى ١6١‏ كيلو غرامًاء عاش مدّة في عمّان وباع 


2 ١ 
الفكر الجدبد‎ 


<كجكر 


أسلحة لصدّام. الفكرة هي أن أغريه بصفقات ضخمة مع المغرب 
وما مبلغ 75٠٠٠١‏ دولار إِلّا عربونهاء ولكن عندما علم 
الحسن الثاني ما رتبت مع سكرتيره لأتسلم المبلغ في سويسراء 
استدعاني وعاتبني على الزجٌ به في عمليّات من البلطجة التجاريّة 
المشبوهة» وأمر بإلغاء كل الترتيبات» لا هداياء ولا فندق بلازا 
أثينيّاء ولا مبلعًا ماليًا... ”لن أسمح لك بالسفر لتبذر أموالي! 
نجحتٌ على الرغم من ذلك في التعرّف على نوع السلاح الذي 
باعه سركيس لصدّام» واستنتجنا بناءً على هذه المعلومة أن صدّام 
لم يكن ليشتريّ هذا السلاح لو كان حمًا يخطط لحرب كيميائيّة 
أو نوويّة» ومن ثم اقتنع الحسن الثاني بخدعة صدّام» وتوقع أن 
ينهزم شرٌ هزيمة» وهو ما حدث فعلا. قبيل منتصف ليلة الحرب 
على العراق» ألقى الملك خطايًا قويًًا عبر شاشة التلفاز ناشد 
فيه صدّام أن يخرج من المأزقء ولكنّه بعد الخطاب همس لي 
وللأمير مولاي رشيد: ”أرجو ألا يسمع هذا النذل نصيحتي“!. 
بقي الحسن الثاني وفيا لحسّه السياسيّ أُوَلَاء فلم يردّ الجميل 
بمثله لصدّام حسين» علمًا أن هذا الأخير كان الأكثر سخاء تجاه 
النظام المغربي. كان يغدق الكثير: ولا سيّما الكثير من النفط, كما 
كان يكنّ لعمّي احترامًا عميقًا نظرًا لثقافته التي تجمع بين الشرق 
والغرب؛ ولقدرته كملك علوي على التعامل مع الديمقراطيّات 
الغربيّة. بدوره أشاد الحسن الثاني بصدّام الذي وحّد بلاده. 
علاوة على ذلك» جمعهما رفضهما للمواقف السوريّة» ولكن 


<جكر 


الأمر لا يتجاوز هذا الحدّء لأن الحسن الثاني في مقابل إعجاب 
صدام حسين به احتقر ”رجل بغداد الجاهل" . 

كلفتني أسفاري عبر العالم للبحث عن خلفيّات حرب الخليج 
الأولى؛ أن أخسر معركة عاطفيّة» علمًا أن الحسن الثاني كان 
شاهدًا على هذه الهزيمة. لم أكن متزوّجًا انذاك ولكن كانت لي 
صديقة أميركيّة تعمل ممثلة وعارضة أزياء. بسبب من مشاغلي 
اختّرلت علاقتنا إلى مكالمات هاتفيّة تصلها من أوروبا أو من 
الخليج (حيث لم تكن هناك هواتف نقالة)» فقررث» بعد أن نفد 
صبرهاء أن تأتي إلى المغرب لجلاء الأمور بنفسها. وصلت إلى 
مطار الرباط مرتدية لباسًا أنيقًا وقبّعة» ولكونها لا تعرف شيئًا عن 
البلد ولا تعرف أحدّاء طلبتُ من سائق سيّارة الأجرة أن ينقلها 
رأسًا إلى القصر! وصلت إلى المشور ونجحت في إحداث بعض 
الارتباك وهي تلح لمقابلتي. شاءت الصدفة أن يكون الحسن 
الثاني في تلك الأثناء يتناول طعام الغداء وحيدًا على الشرفة 
ويتفقد جنبات القصر بالمنظار» فأثارت صديقتي انتباهه فنادى 
عليهاء واستمع إلى حديث الغرام؛ متبرّعًا لها بمنديله كي تكفكف 
دموع الشوق والهيام» ثم نصحها بأن تعود إلى أميركا وتنساني 
في أسرع وقت ممكن. عند عودتي إلى المغرب كنا نتناول 
الطعام» وإذا بالملك يصرّح بتفضيله الدجاج البلدي (المحلي) 
على الدجاج الرومي (الأجنبيّ) المنتفخ بسبب الهورمونات التي 
يُحقن بها. لم أفهم مغزى حديثه» وعندما انتهينا من الغداء اتتحى 


لمق 4 
الفكر الجديد 


<جكر 


بي جانبًا وهمسر في اذني:” عليك أن توّتب شؤونك العاطفيّة“) 
ثم أضاف: ”إن تصرّفاتك غير وديّة“. 


راهن الحسن الثاني على انتصار أميركا في حرب الخليج؛ كما 
راهن.في الماضي على انتصار فرنسا في تدخخلاتها العسكريّة 
في إقليم كاتانغا في الزائير إبّان حكم الرئيس موبوتو أواخر 
سبعينيّات القرن الماضيء وإن كان يعتبر أن باريس تتصرّف 
نيابة عن المعسكر الغربيَ ككلٌ؛ وتحظى بضوء أخضر أميركي. 
د الملك بأميركا وبحيويّتها العفويّة» بتشبّعها بروح 
المبادرة وبقوّتها العظيمة. كان يدرك أيضًا أنْ الأميركيّين قادرون 
على التخلّي عن أيٍّ حليف لهم بعد أن يستنفدوا حاجتهم منه» 
لذلك كان حذرًا جدَّاء ويحاول ما أمكن أن تبقى علاقاته جيدة 
مع البلدين ”الكبيرين” . 

بصفته مسلماء حبّذ تعدد الزوجات الشرعيّات» فكانت زوجته 
الحقيقيّة أميركاء أما فرنساء فعشيقته. بطبيعة الحال» كان الحسن 
الثاني أكثر تقاربًا مع فرنسا من الجانب الثقافي» ولكن ”اللعبة 
الكبيرة“ التي أراد أن يشارك فيها لا يمكن أن تُلعب إلا مع 
الأميركيّين. إبتداءً من أوائل ثمانينيّات القرن الماضي شرع الملك 
في التحرّر التدريجيّ من إطار ما بعد الاستعمار الفرنسيّ» أو على 
الأقلّ من الوصاية الفرنسيّة الحصريّة» فقام بعدّة زيارات رسمّية 
إلى الولايات المتّحدة» وبدأ يؤْدّي الدور الجيوسياسيّ المرسومة 


30 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


معالمه الكبرى في أميركاء وقد حصل بالفعل من واشنطن على 
المقابل الاستراتيجي لتحرّكاته. 

في تشرين الثاني (نوفمبر) »١15٠‏ أحدث نشر كتاب صديقنا 
الملك لموّلّفه جيل بيرو شرحََا عميقًا بين باريس والرباط» 
واندلعت بينهما أخطر أزمة ثنائيّة منذ اختطاف بن بركة. للمرّة 
الأولى» لجأ الحسن الثاني لتطبيق مبدأ البدائل الدبلوماسيّة 
فأوضح لفرنسا أن أرض الله واسعة» وأنّها إذا أصرّت على إنهاكه 
فسيغيّر وجهته نحو أميركا أو إسبانيا. 

من نافل القول إِنْ العلاقات بين المغرب وفرنسا معقّدة بسبب ما 
تنوء تحته من أثقال التاريخ. على الرغم من أنْ الاستعمار الفرنسيّ 
كان حقبة قصيرة نسبيًّا لم تدم إلا بين ١9157‏ 4559ل إلا أنّها 
غيرت المغرب بعمق. فهذه الحقبة هي التي أنقذت المخزن 
وأعادت له؛ من وجهة نظر مغربيّة» الحيوية. ولا ضير هنا من 
الاعتراف بالدور البارز الذي أذَّاه المارشال ليوطي الذي أعاد 
ابتكار ”تقاليدنا"“ عندما استبدل السلطنة بالملكيّة. لقد نقل 
الاحتكاك بين الغرب والمغرب من نظام ينسم بالاستبداد 
والطغيان» إلى سلطة بقيت مقيّدة بالتوازنات الواجب الحفاظ 
عليها مع القبائل والزواياء كما بقي نظامًا ملكيّا مطلقًا له جهازه 
البيروقراطيّ» ويستخلص ضرائبه» وتحظى فيه صلاحيّات 
الملك بصفة قانونية. أمّا عن قدسيّة شخص الملكء فإنها في 
الحقيقة مقتبسة من أوروبا على الرغم من استنادها الجزئيّ إلى 


م" 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الإرث الإسلاميّ. كان الاستعمار وراء البحث عن حل وسط بين 
الاستبداد الشرقيّ والحكم المطلق المقدّس الأوروبي» والملكيّة 
المغربيّة الحالية هي ثمرة هذا التلاقح» والدليل على ذلك هو أن 
دستور المملكة لا يحرص على الحد من صلاحيات الملك» بل 
على العكس من ذلك يُعنى بصيانة تلك الصلاحيّات وضمانها! 
من هنا نجد ذلك الاهتمام الشديد الذي أولاه الحسن الثاني 
لميثاق نظامه» فكلما تعلّق الأمر بتعديل الدستورء استعان بالفقهاء 
الدستوربّين الفرنسيّين» وخاصة موريس دوفيرجيه وميشال 
روسيه. لم يكن الملك يخاطبهم قائلا: ”هذه ملامح الديناميّة 
الاجتماعية في بلدي. كيف يمكنني أن أترجمها بالقانون؟”» بل 
كان يقول في المجمل: “هذه ملامح الديناميّة الاجتماعيّة في 
مملكتي» كيف يمكنني أن أجد لها أطرًا دستوريّة أبقى معها سيّد 
الأمور والممسك بزمامها“. وهكذا كان هؤلاء المتخصّصون 
يترجمون رغبته في نصوص قفانونية» ثم يأتي مستشارو الملك 
مثل أحمد رضا أكديرة وعبد الهادي بوطالب وإدريس السلاوي 
فيضفون إلى النص الفرنسيئ صياغة محليّة وصبغة إسلاميّة, 
نم يأتي الدور على ”الوزير الأوّل“ لتكييف جهاز الدولة وفق 
الدستور الجديد. وفي النهاية يقوم الحسن الثاني» من موقع 
قوّة» بالتفاوض مع المعارضة حول ”التعاقد” الجديد» وهو في 
الحقيقة عقد قانونيٌ فقط وليس عقدًا اجتماعيًا. 

لقد أعادت الفترة الاستعماريّة هيكلة النظام المغربيّ» ولو أن هذا 


64 0 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الموضوع لا يزال من التابوهات داخل الأسرة الحاكمة. ذلك أن 
تاريخنا الرسميّ يفضّل الرواية التالية: ”لقد اختار المستعمرون 
محمّد الخامس ظنًا منهم أنهم سيسيّرونه» ولكنّه برهن على أنه 
خير خلف لأبيه. وبالتالي فإن الفترة الاستعمارية لم توؤثّر أبدًا على 
العهد المجيد للملوك العلوئين..."» ثُمٌ يتم القفز بسرعة فوق 
حقبة السلطان مولاي عبد العزيز» ويوصف محمّد الخامس على 
أنه ملك مارس صلاحيّاته كاملة على الرغم من التحكمٌ الفرنسيّ 
بمملكته؛ ولعَمَري ما هذا الزعم إلا أضغاث أحلام ودعاية 
0 

ورث الحسن الثاني سَلطنة أعاد المستعمر رسم ملامحهاء 
فلبس لباس مَلِك» وجمع بين دوره كرئيس لدولة حديثة وكأمير 
للمؤمنين» ذي شرعيّة ربانيّة. كان الحسن الثاني ملكا من نسب 
شريف, على رأس جهاز دولة لم يسبق لأحد من أسلافه على 
العرش أن حظي بمثله. أحسن عمّي استيعاب هذه الازدواجية 
البنيويّة في النظام» فكان مغربيًا حتّى النخاع» يحرص أشدّ 
الحرص على أن نتكلم العربية الدارجة في القصر الملكيّ؛ وأن 
نأكل على الطريقة العربية التقليدية باليد اليمنى وبما أنني أَغسَر 
فقد حاول جاهدًا أن يغيّر طبيعتي» فكانت النتيجة نسبيّة» إذ 
تدذيف على الأكل بالبك اليمنى» مع استمراري 55 اليد 
اليسرى للكتابة ولسواها من الأغراض. في الوقت نفسه» كان 
الحسن الثاني فخورًا بإتقانه للغة الفرنسيّة» وبدرايته بالشأن 


1 ١. 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


الفرنسيّ» فضلا عن حرصه على الإبقاء على شبكة من العلاقات 
لم تخل من علاقات خاقة جذا أحياناء وكان إذا قدم أحد 
هؤلاء إلى المغرب وجد في غرفته في الفندق هدية تلائم ذوقه 
وميوله. كانت أهم وأكثر الزيارات الوزارية الفرنسيّة تُخصّص 
للمغرب, وكان للمغرب حضور لا يستهان به في باريس» ومن 
قبيل ذلك إعطاء الملك مرتين في السنة مقابلة لصحيفة لوموند 
إلى الصفحات الأولى المتفاوض عليها مع مجلة باري ماتش, 
ومن ثم لم يكن غريبًا أن يتساءل المرء عن الطرف ذي النفوذ 
الأقوى على الآخرء المغرب أم فرنسا. ففي هذه العلاقة العائليّة 
الفرنسيّة المغربيّة لم يكن ”الشاويش”“ هو من يتبادر إلى الذهن 
للوهلة الأولى»؛ حيث اختلطت الخيوط بين الدمية ومحركها. 
ساعدت فرنسا المملكة ماليّا بطرق شتّى» من بينها على سبيل 
المثال التسريع بشراء رخصة الهاتف النقال» وفي المقابل كان 
أفراد الطبقة الحاكمة الفرنسيّة يجدون في المغرب أحسن ملاذ 
يأوون إليه للراحة والمتعة ذات اللمسة الشرقية» فيحلو لهم المقام 
ولس سي دار ود 

هل يسري هذا الكلام حتّى اليوم؟ في كتابهما المشترك باريس 
مراكش الصادر في كانون الثاني (يناير) ٠١157‏ يزعم كل من 
جان بيير توكوا الفرنسيّ وعلي عمّار المغربيّ» أن الجواب نعم 
ويقدمان أمثلة شتى لدعم هذا الطرح. ومع ذلكء فإذا وضعنا 
هذا التحليل في سياقه التاريخيّ يتبيّن أن مراكش أصبحت واحة 


0 0 
الفكر الجدبد 


<جكر 


للنخبة العالمية» وأن اقتصاد المملكة أصبح ”"مستعية |" ققاسمة 
بفرنسا. الخلاصة أن الهيمنة الفرنسيّة ما زالت حاضرة» ولكنّ 
حدذتها تراجعت ضمن إطار أوسع بكثير من العلاقة الثنائيّة الضيّقة 
القديمة بين البلدين. 

إضطرب الحسن الثاني بعد صدور كتاب جيل بيرو» الذي كان 
بمثابة حملة شعواء عليه. ثمّ واجه الملك تحديًا آخر تمثّل في 
الإضراب العام في كانون الأول (ديسمبر) عام ١55٠‏ وما رافقه 
الملك هذا الإضراب إهانة لمشروعيّته. وهو ما حر في نفسه 
أكثر من عدد الضحايا الذين سقطوا جرّاء القمع (أحصت هيئة 
الإنصاف والمصالحة التي أنشأها محمّد السادس في تقريرها 
الذي نشرته عام ٠١5 07١٠٠١5‏ قتلى في مدينة فاس. على هذا 
واصل الحسن الثاني دعمه للأميركيّين ولم يغيّر خطه السياسيٌ 
بل أصرّ على توشيح وزير الخارجيّة الأميركي كولن باول بالوسام 
العلوي الأسمىء ثم توقّف عند هذا ولم يتجاوزه. لا زلت أتذكر 
أن ناقشت معه عندما جاءت الأحداث مصدّقة لتحليله وحدسه 
إمكانية القيام بمزيد من المبادرات بعد نهاية حرب الخليج 
الأولى؛ لكن الحسن الثاني رفض الفكرة» معتبرًا أن الحكمة 
تقتضي الإحجام عن أي نوع من الاستفزاز. 

عندما وضعت الحرب أوزارها وهدأت الاحتجاجات في 


4 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


من كتاب صديقنا الملك الذي زعزع أركان قصره. مضطدًا 
قرّر عمّي أن يعيد النظر في المشهد السياسي على ضوء ما 
بعد الحرب الباردة» مع الأخذ في الاعتبار الرأي العام الدولي 
واهتمامه بحقوق الإنسان» ولو بازدواجيّة في المعايير. في 
أيلول (سبتمبر) ١19١‏ قرّر أن يغلق سجن تازمامارت وأطلق 
سراح أبراهام السرفاتي ولم يلبث أن طردّه من المملكة بذريعة 
أنه ”برازيلت“ . شكل السرفاتي كابوسًا بالنسبة للحسن الثاني 
الذي رفض أن يرى فيه مواطنًا مغربيًا... هل ذلك لأنّه يهودي 
وماركسي ثم ينشط في إطار الحركة الوطنية؟ أم لأن زوجته 
الفرنسيّة كريستين دور السرفاتي كانت المصدر الذي استقى منه 
لا أدري. إلتقيت أبراهام السرفاتي للمرّة الأولى عام 25٠١١‏ 
في مؤتمر عقد في مدينة قرطبة الإسبانية. كنت أعرف واحدة 
الفروسية في الدار البيضاءء وحكت لي الكثير عن عمّهاء لكنّه 
لم يحدث أن تطرّقت يومًا إلى موضوعه مع عمّي. في قرطبة 
اكتشفت رجلا لطيهًا ذا قناعات» ولكن, على الرغم من احترامي 
لاستقامته» لم نتبحر في النقاش» فلو فعلتٌ لخنتٌ ذكرى الحسن 
الثاني . 

في عام 2.١591‏ بعد فوز المعارضة المغربيّة في الانتخابات 


0 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


التشريقية» بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكيّ للقوات الشعبيّة 
وحزب الاستقلال» رفضتٌُ هذه الأحزاب المشاركة في 
الحكومة فغضب الحسن الثاني» وردٌ عليها بخطاب من أجمل 
الخطب السياسيّة يكاد أن يكون نموذجًا في فنّ التواصل. لم 
يل منضّة ولا مثيرا ولم ترك حاجرًابينه وبين ن الجمهور. كان 
مدهشًا: لقد قفز على كل الهيئات الوسيطة ليخاطب ”شعبه“ 
مباشرة كأنه رب عائلة يتحدذث مع بناته وأبنائه» فأسهب في 
بيان الصلاحيّات التي وافق أن يمنحها للمعارضة» وعدّد واحدًا 
تلو الآخر أسماء الوزارات الأربعين ومرّ سريعًا على ما يسمّى 
الوزارات السياديّة ديّة التي احتفظ بحقه في تعيين من يتولاها. “”لقد 
أعطيتهم كل شيء فماذا يريدون؟' ' يبدو أنهم يريدون شيئًا آخر 
ولكن ماذا؟ إنه الشيء الذي لا يمكنه التنازل عنه. ثم لجأ إلى 
خدعة من خدعه البلاغية ليعيد النقاش. إلى فترة الستينيّات من 
القرن الماضيء متّهمًا المعارضة ضمنيًا بالرغبة في التجتي على 
موقعه كملك وبالتالي بتهديد النظام الملكىٌ. أثار هذا الخطاب 
الشكوك لدى العديد من المغارية؛ الذين تطلعوتن إلى تعايش 
على النمط الفرنسيّ وإلى غد أفضلء فينتظرون من المعارضة 
الصراحة والنزاهة» ويطلبون من الملك أن يكون قائدًا محافظا 
على الاستقرار. 

في الحقيقة كان الملك متشبًّا بالحفاظ على وزير داخليته إدريس 
البصري, ”الوزير الأوّل“» ولو تطلبٌ الأمر إجهاض مشروعه 


4 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الانفتاحي برمّته. ندم الحسن الثاني في وقت لاحق على قراره 
هذا بعد أن سعى جاهدًا وبشْتّى الطرق لإعادة الحيويّة لنظامه 
حيث هدف إلى إرساء تداول على السلطة يبقى هو بموجبه الآمر 
الناهي. في نهاية حياته» خلال نقاش طويل بيني وبينه» أشار 
إلى أنه في عام 2١/80١‏ أقدم الإمبراطور الألماني بسمارك على 
إصلاحات ديمقراطيّة من فوقء» وأنه في عام ١405‏ بدأ العمل 
بنظام الاقتراع العام في الدول الاسكندينافيّة جنبًا إلى جنب مع 
التصويت النسبي. بعبارة أخرى؛ كان يرى هذه الأمثلة نماذج 
على حالات ساعد فيها الانفتاح الديمقراطيّ على إطالة عمر 
النُظم القديمة. كان الملك في استلهامه أحداث التاريخ» يوُمن 
بفكرة ”التناوب“ إيمان المتصوّفة» ولكنه أخطأ التقدير فيما يتعلق 
بالمعارضة؛ وعندما وصلت هذه الأخيرة في نهاية المطاف إلى 
الحكم؛ ذُهل الحسن الثاني من هزالها ومن ضعف مناعتها أمام 
إغراءات السلطة ومظاهرهاء من سيّارات المرسيدسء والهواتف 
النقالة» والبرّات المذيّلة بالماركات الراقية» وحفلات الاستقبال 
ومادب الزفاف الباذخة. 

كان للدعم المقدّم من الملك الحسين» عاهل الأردن لصدام 
حسين خلال حرب الخليج الأولى» تأثير مديد على العلاقات 
بين المملكة العربية السعوديّة والمملكة الأردنيّة» لقد انّفق أن 
كانت علاقتي متميزة مع الجانبين. في عام ١197‏ استقبلني 


2 50١ 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


الملك الحسين وعرض علي مشاكله مع السعودتين. لم تبعث 
حالته على الارتياح» حيث كان الغالبون يتشفون منه؛ بما في 
ذلك الأدنى مرتبة من أمراء المملكة العربيّة السعوديّة فينشرون 
في الصحافة العربية رسائل مفتوحة تسيئ إليه» وغير ذلك من 
أدبيّات التحقير. أبلغته بأنني سوف أحظى بلقاء الملك فهد في 
الأسبوع التالي على لقائي به» وطلبت منه أن يسمح لي بنقل هذه 
التفاصيل إلى مضيفيء لعلّنا نجد هامسا لإصلاح ذات البين. 
وافق الملك الحسين منبّهًا إياي في الوقت نفسه إلى صعوبة 
المهمّة. بالفعل» وكما كان متوقعًاء فلقد طال حديثي مع الملك 
فهد إلى وقت متأخّر من الليل» محاولا إقناعه بأن الملك حسين» 
رغم القرار الخاطئ الذي اتخذه في ظل إكراهات حقيقيّة تعرفها 
بلاده» رجل صادقٌ في رغبته بالتهدئة. في النهاية سألني الملك 
فهد لماذا يصد الحسين على اتخاذ لتب ”الشريف“؟ أليس 
للتذكير بنسبه وتاريخ عائلته ومطامعه في حكم مكة المكرّمة؟ 
هل يريد أن يصبح أميرًا على الأماكن المقدسة الإسلامية؟ فأجبته 
أنني بدوري شريف من ذريّة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وأنني 
معترٌ بهذا الانتماء دون أن أحمّله غمرًا ولا مطامعَ مُضمّرة. عدت 
إلى الملك حسينء فوعد ألا يثير بعد اليوم غضب الملك فهد 
بهذا الموضوعء؛ فأخطرتٌ الملك فهد بهذا القرار. بعد ذلك 
بوقت قصيرء وبرغم عدم استئناف العلاقات الدبلوماسية» فتحت 
المملكة العربيّة السعوديّة حدودها أمام البضائع الأردنيّة» فكانت 


1 0١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


بشارة خير على بداية التقارب الذي قَذّر لي أن أساهم فيه. 

على أن الوساطة هذه لم تعد علي إلا بنقمة الملك. فبمجرّد 
عودتي إلى المغرب استدعاني الحسن الثاني وصب علىيّ جام 
غضبه. لقد وصله النبأ فعاتبني لأني قمت دون أن أعلمه بمبادرة 
دبلوماسيّة تلزمه ويتحمّل مسؤوليتها المعنويّة. أدركتٌ أني قد 
ارتكبت خطأ لآن كل إبحراء من ججهتى يُنظر إليه أنه ضادر عن 
الملك. للمرّة الأولى في حياتي قدّمتٌ اعتذاري إلى الحسن 
الثاني» ولكنّ صدق نيّتي لم يفلح في التخفيف من امتعاضه بعد 
مبادرتي. لقد تلاشى بسرعة كل رصيد الثقة الذي بنيناه على 
مدى ثلاث سنوات» حيث توبس الملك أني حاولت تجاوزه 
بانتهاك صلاحيّاته. وفوق ذلك أزعجه كثيرًا أن يرى مدى تعلّقي 
بالشرق وشجون الشرق! من جهتي كنت أشك في إرادة الملك 
أن يهِيّى .لخلافته. كنت إلى ذلك الحين أعتقد أنه يسهر على 
إعدادنا نحن الثلاثة» ولداه وأنا» كلل بحسب موقعه. في أفق 
من الأهداف الواضحة, مع توزيع للأدوار. كما كنت أظنّ أن 
الملك صارم إزاءنا عن عمدء وخاصّة مع ولي العهد. بلحاظ 
مسؤوليّاتنا المستقبليّة. لقد أردت أن أصدّق حقا هذه الفرضية. 
ومع ذلكء لم نكن أبدًا حاضرين أثناء المداولات الهامّة التي 
تؤخذ بنتيجتها القرارات الكبرى» وفي كل مناسبة يُحتمل 
فيها أن يعارضٌ الملك شخصٌ ما فيقول له كلمة لا» لم نكن؛ 
لا سيدي محمد ولا مولاي رشيد ولا أناء من المدعوّين. كنا 


1" 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


نحضر اللقاء مع رئيس الغابون أو رئيس بولونيا» ولكن لم يكن 
لنا من محل خلال المفاوضات مع زعماء المعارضة الثلاثة» عبد 
الرحمن اليوسفيّ ومحمّد بوستة وبنسعيد أيت إيدرء ولا خلال 
المحادثات مع جيمس بيكر حول الصحراء الغربيّة. من جهة 
أخرى حُحظْرٌ علينا حضور اللقاءات الثنائية مع أمراء دول الخليج» 
وهي اللقاءات التي تتناول الحصول على الهباتء أو ما سميّناه أنا 
وابن عمي مازحين عملية السطو الملكية على البترودولار تمثّلًا 
بمغامرات بطل الويسترن جيس جايمس. لم يكن من المقبول أن 
نشهد انحطاط أمير المؤمنين إلى منزلة أمير الشحّحاذين بحسب 
تعبير جريدة الكنار أنشينيه الفرنسيّة الساخرة. أقول هذا لأعترف 
بأثني ُدعت عندما صدّقتٌ نوايا الحسن الثاني: لم يكن هناك 
من خطة ولا من يحزنون» وبل إعادة ل”المسرحية” إياها التي 
أرخت بظلالها على طفولتي. 

كانت استفاقتي من هذا الوهم مؤلمة. تفطنت لهذا الأمر 
وأن الحسن الثاني قرّر العزوف عن تكليفي أي مهقّة خلال 
واقعة مؤسفة جرت سنة 547 ١‏ عندما رافقته في زيارة قام بها 
إلى المملكة العربيّة السعوديّة. يومها منعني أن ألج إلى قاعة 
الاستقبال بذريعة أنّني لست عضوًا في الوفد الرسمي المرافق 
له. في ذلك اليوم» عدت إلى المغرب دون أن أخبره مستقلا 
طائرة أحد أصدقائي. علمت أن سيدي محمد مُنع بدوره من 
حضور ذلك الاستقبال. في هذا السياق» لا بأس من التصريح 


نح 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بنكتة ماكرة يتداولها الناس في القصر تريد النكتة هذه أن: 
الحسن الثاني» خلال زيارة إل الجزائر» قدم سيدا ي محمد 
ومولاي رشيد إلى الرئيس الشاذلي بن جديد قائلا: ”أقدّم 
لكم خليفتيئ» وفي الفرنسيّة تستعمل للتعبير عن خليفة بالمعنى 
السياسي لفظة “دلفين " “كانم رطصنتهك 65« عاتعو6 ام كلاو د علي 
فما كان من الرئيس الجزائريّ إِلّا أن التفت إلى الجنرالات 
لفظة فرش 1115نان122/ وكأنه يقول إِنَ سمك القرش يترئص 
في " شباط (فبراير) )»١9915‏ حكمت محكمة الجنايات في 
مدينة نيس الفرنسيّة على عمر رداد, البستانيّ المغربيّ المتهم 
بقتل ربّة عمله غيلين مارشال في شهر تموز (يونيو) 2١55١‏ 
بالسجن لمدة ثمانية عشر عامًا. أثار هذا الحكم استياءً واسعًا 
في المغرب وتعاطمًا مع المحكوم؛ والحق أن قضية رداد تختزل 
جملة من المواضيع الحساسة المرتبطة بالهجرة والاندماج في 
قوسا ولاميكيا ماوعا ينا الا جاتب العرمية بو المسامي: . 
إشتهرت القضية تحت عنوان ”قتلني عمر". واقتناعًا مني يبراءة 
رداد قرّرتٌ أن أسانده. كان والده عبد السلام وزوجته لطيفة قد 
طلبا المساعدة من المحامي المعروف الأستاذ جاك فيرجيس» 
وهو محام بارع اشتهر بمرافعاته السياسيّة وبتبتّيه في الدفاع عن 


51 00 
الفكر الجديد 


<كجكر 


موكليه ما يسمّى استراتيجيّة القطيعة» وهي استراتيجية لم تبدُ 
لي الأوفق في حالة رداد. عند صدور الحكمء صرّح الأستاذ 
فيرجيس: ”لقد أدين البستانيّ لأنه عربي. نحن في بداية المعركة 
فقطء إنها معركة ضد العنصريّة. “ 

من جحهتي» كنك أعرف وأقذر الأستاذ بول لومبار فانّصلت 
به في 4 شباط (فبراير)» بعد يومين من صدور حكم محكمة 
البداية لنشرع في استئناف الحكم. ثم انصلت بعبد السلام رداد 
الأب يوم ١١‏ شباط (فبراير)» فأتى للقائي في الرباط واتفقنا أن 
يزور ابنه في السجن لإقناعه بسحب وكالته من الأستاذ فيرجيس 
وبتكليف الأستاذ لومبار» وهذا ما حصل يوم 7 آذار (مارس). 
لعائلة رداد بأن تطلب مجدّدًا تكليف الأستاذ فيرجحيس (وقد تولى 
ذلك الملك بنفسه)» فتنحخى الأستاذ لومبار تلقائيًا عن القضية 
يوم ١5‏ آذار (مارس)» قبل أن يتم سحب الوكالة منه ولكنه بقي 
محاميًا للأب» وبهذه الصفة أمكنه أن يتدخَل خلال المحاكمة 
في طورها الاستئنافيّ. 

لاحقًا فهمتٌ الأسباب التي أدّت بالملك إلى التدخَل على 
هذا النحو. لقد تبيّن أن قوات الدرك اعترضت سبيل عدد من 
الحافلات القادمة من الريف إلى الرباط التي تقل أقرباء لرداد أرادوا 
شكري على مساعدتي لقريبهم» وهذا ما لا يتقبّله نظامنا حيث 
الملك وحده هو من يدافع عن “رعاياه” القاطنين في الخارج» 


ن ا 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ومن ثم كان عليه الإسراع بتقويض تد حلي في الملفٌ. النتيجة 
أَنْ عمر رداد وجد نفسه بين أمير وملك يتنافسان على مساعدته؛ 
وقد لعب دون خجل على الحبلين» خلافًا لأبيه الذي بقي وفيا 
لالتزامه» على عادة أهل الريف المعروفين بالجدٌ والاستقامة. 
أخيرّاء وبعد انعطافات كثيرة سلكتها القضية» انتزع الحسن 
الثاني من جاك شيراك في أيّار (مايو) ١5‏ عفوًا جزئيًا عن عمر 
رداد» حيث خفض الحكم عليه من ١‏ سنة إلى ه سنوات»ء أما 
أنا فكان الملك أقل رحمة بي من ردّاد. كانت حفلة عيد العرش 
يوم ”” آذار (مارس) 4 ١494‏ آخر مرّة أظهر فيها رسميّا على شاشة 
التلفزة المغربيّة إلى جانب الحسن الثاني. بعد ذلك اختفيتٌ من 
الوجود. كنت ألتقي الملك في إطار العلاقات الخاصّة:؛ أما في 
المناسبات العامّة وفي كل ما يتعلق بالبروتوكول الرسميّ للدولة 
فلم يعد لي أيّ حضور. 

عند هذه النقطة» لم يعد ليُضير الحسن الثاني» أو يزعجه؛ أن 
أمتسيخل اقتصاديًا أو أن أصبح أميرًا مُفلسًا. صحيح أنه سمح 
لي ببناء قصر الرمال شمال المغربء لكنهء في المقابل» وأد في 
المهد جميع محاولاتي للقيام بمشاريع اقتصاديّة في مملكته. 
ولو كان الشركاء الأجانب من قبيل شركة رون بولينك المعروفة. 
بالشراكة مع عمر العقّاد» وهو رجل أعمال من منطقة الشرق 
الأوسطء طوّرت مشروعًا لتصنيع منتجات بي. في. سي» 
وكانت ختطتنا أن نشتري الموادٌ الخام» مشتقات البترول» من 


05" 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


شركة سابك السعوديّة. إستقبلني الحسن الثاني مع شركائي» 
تحت ذريعة العطف الأبوي» ولكنه قصد, في الحقيقة» نسف 
المشروع برمّته وقد أفلح» حيث أصيب الشركاء بعد اللقاء 
بالإحباط والاشمئزاز. أتى إلى الاجتماع الأول حاملا عصيّ 
الغولفء ثُمٌ تتالت اللقاءات وطال التسويفء وفي نهاية المطاف 
تخلينا عن المشروع أصلًا. 

ردًا على استراتيجيّة التضييق والخنق» اخترثٌ استراتيجيّة تغيير 
المواقع بسرعة» فانتقلت للاشتغال في منطقة الشرق الأوسط التي 
لاايملك الحسن الثاني أن يزيحني منها. ومرّة جديدة وجدت إلى 
جانبي كمال الشاعر وسعيد خوريء لكن الرجل المفتاح كان 
الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان» ”أخي“ الاختياري. تابع الشيخ 
محمد معي ومع سيدي محمّد الدراسة في المولويّة حتّى سِنّ 
العاشرة. يوم تعرّفت عليه لم يكن سوى واجد من الأولاد الاثنين 
والعشرين لمؤسّس ورئيس دولة الامارات العربية المتّحدة 
أعني بذلك أنه لم يكن مقدمًا في ترتيب الخلافة» علمًا أن الأمر 
لم يعنني. كنا نمارس الفروسيّة معّاء ونقضي العطل معًا ونسافر 
إلى أنحاء العالم معًا ولم أشعر يومًا أن متعة معيّتنا قد انخفضت. 
عندما عُيّن على رأس مجموعة أوفستس غروب في أبو ظبي عام 
١ 7‏ عمد إلى إشراكي في بعض مبادراته. أمضيت بعض الوقت 
لأستوعب معنى أوفستس أو التعويض. كانت الفكرة هي إرغام 
الشركات الكبيرة» وخاصّة في ميدان الأسلحة: أن تعيد استثمار 


7 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


جزء من أرباحها في التنويع الاقتصادي لدولة الإمارات العربيّة 
المتّحدة الغنيّة بالنفط. الفكرة جيدة» أقله على الورق. ولكن في 
الواقع تعطي شركات السلاح الوعود السخيّة قبل التوقيع» ثم 
تتملص منها فيما بعد. 

شخصيًّاء اكتويثٌ بنار هذا التمّص في ملف شركة طومسون 
سي أس أف التي فازت بصفقة ضخمة لتزويد الإمارات العربيّة 
المتحدة بمعدّات التغطية بالرادار والدفاع المضادٌ للطيران. 
لقد أدَيتٌ دورًا حاسمًا في تمكين الشركة من إبرام الصفقة بعد 
أن أفلحتٌ في تحريك المفاوضات المتعثرة. كنت» في ذلك 
الوقتء أنا ومصطفى العلوي. وهو صديقي وعمل معي لفترة 
طويلة» نقوم بعمل استشاريٌ تعاقديّ لمصلحة طومسونء وكان 
دوري هو تسقّط عقود التعويض وقُرص لنقل التكنولوجيا. 
كانت لي ثقة كاملة في مصطفى العلويء الذي عرفته منذ سنوات 
الدراسة الجامعيّة في الولايات المتحدة» وهو الذي وقع باسم 
شركتي عقدًا مع مصرف باتيف التابع لطومسون. 

عندما علم الحسن الثاني بمشاركتي في هذه الصفقة, أقام الدنيا 
وأقعدها لكي أخرج منها وبالفعل» فقد انتصرت الاستراتيجيّة 
الملكيّة. كان الحسن الثاني يدرك جيدًا أن مردود الصفقة مرتفع 
للغاية وبالتالي فإِنْ هذه الأرباح قد تكون مفتاحًا لاستقلاليتي 
الماليّة. فأرسل على الفور بعبد الحقّ القادري» مدير الاستخبارات 
العسكريّة إلى باريس للقاء آلان غوميز الرئيس المدير العامٌ لشركة 


18 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


طومفسوة» وأرسل ميسونا آخر إلى" الأنارات العرقة المسحدة 
للقاء رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان» والد صديقي. 
فطمأن الشيخ زايد مبعوث الملك شارحًا له أن مولاي هشام لا 
علاقة له ببيع الأسلحة» بل يساهم في مشاريع يأتي تمويلها مما 
يعادل ضريبة التنمية» وبناء عليه فشمعته ستبقى جيّدة وشرفه امن» 
ولكن الحسن الثاني لا 7 لبع ا رد لتر لقد 
غضب غضبًا شديدًا ولم يجد سوى المسكين مصطفى العلوي 
ليبطش به سعيًا لاجهاض جهودنا. جلما ردي روخامدني 
أنّه لا يرد على الهاتف وأنه» رسميّاء في ” مهمة” انتابني الرعب» 
ورغم ذلك لم أكن أتصوّر أن الملك سيستعمل معه كل أدوات 
الإرهاب؛ من التهديد بالمسدّس على طريقة العجلة الروسيّة 
إلى الجولة على متن طوّافة والتهديد بإلقائه منهاء وذلك قبل 
أن تتدخل زوجة الحسن الثاني شخصيًا لإطلاق سراحه. عانى 
مصطفى العلويّ» الذي يعيش الآن بين دبي ومونتريال» أصنافًا 
من الأهوال حتّى إِنَّ فكه تزحزح من مكانه» وقد تطلّب علاجه 
سنّة أشهر في الولايات المتحدة. 
الحسن الثاني لا يمزح في مثل هذه الظروفء أما شركة طومسون 
فقد فرحت واعتقدت أنّها تخلّصت مني ووفرّت المبلغ المالي 
المستحقٌّ لي في ذمّتها. ما العمل؟ إنتقلتٌ إلى باريس وأقمت 
مع خالتي علياء الصلح, التي تقطن في الدار الرقم ؟١١»‏ جادة 


الإليزيه. ترقبئا لمدّة أسبوع مرور الرئيس فرانسوا ميتران» الذي 


8 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


يمشي بانتظام على قدميه تحت نافذة بيتها. كانت خالتي تعرف 
الرئيس الفرنسيّ فخاطبته قائلة: ”أناشدكم باسم كرامة وشرف 
فرنساء هذا ابن أختي وأرجوكم أن تستمعوا إليه من فضلكم“". 
توقف فرانسوا ميتران وأشار إلىّ أن أوافيه» ثم زعم بتودّد أنه 
يتذكرني إذ قدّمت له في مناسبة بروتوكوليّة في المغرب. وقفتٌ 
إزاءه على الرصيف وأوجزتٌ له في بضع كلمات قصّتي مع 
طومسونء فطلب مني أن أسلم لخالتي نسخة من العقد. بعد 
أسبوع نادت على خالتي: ”لقد قال لي ميتران إِنّْنا هنا في فرنسا 
ولسنا في جمهورية الموز“»؛ وكأني به يردّدها مدويّة إذ اقترحت 
عليَ شركة طومسون عقدًا جديدًا ودفعت لي الأتعاب مسبقًا. 
أبلغت الحسن الثاني: ”سيّديء إِنَّ الإخلاص يوجب علىٌ أن 
أقول لكم إن العقد مع طومسون قد تم تجديده“. في ذلك اليوم 
أدرك الملك أن لدي ما يكفي من الوسائل والإرادة للصمود 
أمامه. 


في عام 9914١؛‏ أَسّستٌ معهدًا للبحوث في جامعة برينستون 
وفًا لتقنية توازي في الهندسة المالية ما نسمّيه الوقف في التراث 
الإسلامي؛ حيث يمنح الشخص المتبرّع مبلعًا ماليّا كرأس مال 
ثابت وتستعمل عائداته لتمويل النشاط الخيري المنشود. وهكذا 
وهبثٌُ مبلغ ” ملايين دولار لجامعة بريدنستون يُخصّص للمعهد. 
أي إن الإيرادات ستغطي تكاليف مدير وأستاذ زائر واثنين 


3 :4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


من الزملاء» وهم من الباحثين في إطار الإقامة الموقتة. لماذا 
برينستون؟ أوّلاء ما أقام الحسن الثاني على قيد الحياة لم يكن 
باستقلاليّة وحريّة. ثم إن برينستون, تلك الحاضنة الجامعيّة التي 
أويثٌ إليها شايّاء تظلّ معقلًا للتميّز» وأنا ممتي لها بالتربية الني 
تطلّعت إلى المساهمة في نشر إشعاع العالم العربيّ الإسلاميّ. 
كان من ضيوف المعهد, على سبيل المثال» بنازير بوثو أوّلُ 
امرأة انتُخبت رئيسة للحكومة في بلد مسلم هو الباكستان» وقد 
زارت المعهد لتشرح سياستها. في الولايات المتحدة كثيرًا ما 
يمتزج فيها التكوين المستمر بالاستفادة من شبكة النفوذ وبالتبرع 
للعمل الخيري. مدركا لهذا السياق أنشأتٌ هذا المعهد بناءً على 
نصائح كل من جون واتربري والراحل إدوارد سعيد وبناءً على 
كل الأفكار التي استلهمتُها منذ فترة طويلة من صديقي ومواطني 
عبد الله حموديء عالم الأنثروبولوجيا في جامعة برينستون. 

أرسلت إلى الحسن الثاني ورقتين تعريفيّتين عن المعهد لإخباره 
بأني بصدد تأسيسه. لم أتلقٌ منه أية ردّة فعل فواصلت العمل دون 
موافقة صريحة منه. لم يبرز اعتراض الملك الشرس إلا عندما 


1" 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


اسمه هو. في ١7‏ أيّار (مايو) ١9945‏ صدر عن القصر بيان, لا 
يأتي على ذكري بالاسمء: يعلن عن اعتراض 00 
التسمية. في أعقاب ذلك استدعاني الحسن الثاني وقال: ”! 

سواء كنا نتبادل الود أم لا» علينا أن نتعايش حفظا للمظاهر. هناك 
قانون للسير علينا احترامه. ليس بإمكانك أن تقرّر هكذا إطلاق 
اسم محمّد الخامس على معهد لمجرّد أنه جدّك, إِنْه قبل صلات 
الرحم ملك من ملوك المغرب. 

ل ل ل د 

- التفاصيل لا تهمّني» لقد شرحت لك المبداً. “ 

لم يمر هذا الحوارء وكان حوار طرشانء مرّ الكرام» بل كانت 
له تبعات. في يوم 55 أيّار (مايو) »١4315‏ قام الملك بتعيين 
وزير أوّل جديد هو عبد اللطيف الفيلالى» كإشارة منه برغبته 
في الانفتاح على أفق ”التناوب" الذي كان يتمتاه. بعد ذلك 
بعث الأمين العام للحكومة المغربيّة الجديدة برسالة إلى رئيس 
جامعة برينستون» هارولد شابيرو» يوضّح فيها أن المعهد يتتهك 
”تقاليد وأعراف النظام الملكيّ المغرب“» ثم زار الجامعة» مرة 
أخرى» فريقٌ من المحامين ليطالبوا بإصرار أن يتم التخلي عن 
اسم محمّد الخامس؛ لكن هارولد شابيرو أجابهم أن القرار 
ار ل ا ل 
بالملاحقة القضائيّة. تجتبًا لمزيد من التصعيد. ورغم ترجيحي 
أن يخسر الملك القضية» قرّرتُ أن أتخلى عن الاسم الذي وقع 


ضف :4 
الفكر الجديد 


<جكر 


عليه اختياري. لم يكن من مصلحة أحد أن يُهدر ماء وجه الحسن 
الثاني» ولا أن يتنازع العلويّون على اسم محمد الخامس أمام 
المحاكم. ثم إنه» من وجهة نظر سلاليّة ملكيّة» لم يستحقٌ الأمر 
كل هذا الصخب والضجيج. 

هكذا وجدثُني أعيد جدي العزيز إلى مرقده الآمن» وخرج المعهد 
إلى الوجود تحت اسم أكاديميّ طويل: معهد الدراسات الإقليميّة 
حول الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا واسيا الوسطى. 
بذل سفير المغرب في واشنطن؛ محمد بن عيسى؛ كل ما في 
وسعه لتقويض المشروع. وراح يضايق رئيس جامعة برينستون 
حتّى إِنّه لاحقه يوم الأحد إلى الملعب حيث كان يتابع مباراة كرة 
قدم ليتمكن من التحدّث معه حول القضية! ردًا على ذلك» كتبتٌ 
رسالة إلى بن عيسى حثثته فيها على أن يتصرف كسفير للمملكة 
المتريفة وليمى #سبقير المطلكة "لمكي "و كما حد نوسن الل 
خلال زيارتي المقبلة إلى المغرب؛ سأطلب مقابلة من الملك 
لطرح هذا الموضوع. في أعقاب ذلك استدعانا الحسن الثاني 
نحن الاثنين إلى قصر الصخيرات في صيف 14 »١59‏ فاستقبلنا 
في ملعب الغولف وهو على متن عربة قطار تعود لفترة الحماية. 
على عادته في العناية بالتفاصيل كمخرج مسر حيّ» خاطبنا مُطلا 
من عربته كأنّه الإله زوس (جوبيتير) فوق جبل الأولمبء ليبرز 
هيبته أمام ضالتنا: ”مولاي هشام» كيف تسمح لنفسك بالحديث 
عن ميكي ماوس مع سفيري الذي يمثل المملكة المغربيّة؟! من 


يفف 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تكون ومن تظنٌ نفسك؟! 

سيديء كان هذا هو السبيل الوحيد لإثارة انتباهكم حول هذه 
المسألة. وقد حصل... الآن» هل يمكنكم أن تطلبوا من ممثّل 
الدولة أن يكفٌ عن إزعاجي في هذا الملفٌ؟“. 

عند هذا الحدّ طوي الملف. ولكن بعد فترة وجيزة استدعاني 
الملك مجددًاء وكان هذه المرّة مرهقًا قد أنهك المرض جسمه. 
طلب مني أن ألحق به إلى الصخيرات» هذه المرّة وجدته جالسًا 
على دكة صغيرة. عادة؛ عندما يريد إلقاء اللوم على أحد يختار 
موضعًا مرتفعًا لمخاطبته» أو يقف في نهاية ممرّ طويل لا يراوح 
مكانه ويكتفي بالتحديق في ملامح الزائر المسكين القادم نحوه 
متسائلا ماذا ينتظره. ذلك اليوم» عندما دعاني للجلوس بقربه 
على مقعد شبيه بمقعده عبّر عن مكنونه حتّى قبل أن ينطق. 
سألني بتودة: ”متى تستقة علاقاتنا؟” ثم دار بيننا حديث عقلانيٌ 
هادئ» ساعد على ترميم الشرخ القائم بيننا ردحًا من الزمن. 
لا أنكر أني واجهنُه بقوّة في كثير من الأحيان سعيًا إلى فرض 
نفسي أمامه» وتجاوزتٌ الحدود في بعض المرّات. في أي حال 
لا بدّ من الاعتراف بأنّ كل المحاولات التجميلية لم تفلح في 
التغطية على اختلافاتنا الجوهريّة. لقد بدأ غيابي عن شاشة التلفاز 
وعن المناسبات الرسميّة يغذّي الشائعات. وأينما ولَّيثٌ وجهي 
صرت أُسأَل عن الموضوع فلا أعلّق» لكنني بالمقابل لم أتردّد 
في التعبير بحريّة عن مواقفي من القضايا التي تستأثر باهتمامي» 


4 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


مما لم يخلُ من إزعاج الحسن الثاني. كنت كلما قدمثٌ إلى 
المغرب ذهبتٌ لأسلم على الملك واكتفيتٌ بذلك. ذات ليلة» 
بعدما اتتهت مراسم إحياء ذكرى وفاة محمّد الخامس التي 
تَغيِِتٌ عنهاء ذهبت للقاء الحسن الثاني في ملعب الغولف. كان 
يلعب تحت الأضواء الكاشفة؛ فعاتبني عن غيابي: 

” لم تأت لتحيي ذكرى جدّك! 

- ولكنء يا سيدي» هذه مناسبة سياسيّة. 

لاء بل هي مناسبة دينيّة. م إنْها قضيّة أسرة“. 

في تلك الليلة فهمتٌ أن الملكيّة المغربيّة تمارس على الدوام 
الخلط بين الدين والقرابة والسياسة» فتعتبر هذه المكوّنات 
متّصلة ومنفصلة في الوقت نفسهء وتوهم الناس أنها ”الحقيقة 
المطلقة“. لقد أيقنتٌ أن لعبتناء لعبة القط والفأر لن تودّي إِلّا 
إلى الصدام. بإحجامي عن حضور تلك الأمسية قطعت ما تبقى 
من شعرة معاوية التي كانت لا تزال موصولة بيني وبين بالملك» 
وهي رابطة القرابة العائليّة. 

هكذا بدأت رحلتي إلى المنفى والعزلة. فليس بالأمر الهيّن» في 
المغربء أن يجد المرء نفسه على حين غرة» عرضة لسيْل من 
الشائعات» كل واحدة منها أخبث من الأخرى» فيتجتب السلامَ 
عليك الوزيرٌ والسفير» وتتحاشاك برجوازيّة الدار البيضاء ونخبة 
الرباط» وتعيش نوعًا من المنفى الداخلي؛ ولا يبقى حولك إلا 
الأصدقاء الأوفياء فقطء ولحسن الحظ أُنّهِم لا يخلون رغم قلة 


يق 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


عددهم. 

في الوقت نفسه الذي بدأ فيه حصار شخصي المتواضع؛ ساءت 
العلاقات بين ولىّ العهد ووالده الملك؛ علمًا أن أمارات المرض 
كانت تتزايد على الحسن الثاني ولا من يعرف بالضبط طبيعة 
مرضه. ابتداءً من عام ١195‏ أصبح الحسن الثاني وسيدي 
محمد كزوجين مطلقين يحاولان الحفاظ على المظاهر أمام 
الأطفال والعالم الخارجي: شكليّات لا عمق لها» ومجاملات 
للاستهلاك ليس إلا وهكذا... ولكن هيهات. لم تكن علاقتي 
بسيدي محمد أحسن حالًا من علاقتي بالملك حيث كنّا ضحايا 
معادلة ذات ثلاثة متغيّرات» وقد بذل الملك قصارى جهده 
للإيقاع بيننا فأفلح. لم أعد أدعى إلى عيد ميلاد وليّ العهد ولا 
إلى تناول العشاء معه. لقد انهارت علاقتنا أيضًا. 
من حسن الحظء عرفت حياتي الخاصة في هذه الفترة لحظات 
من السعادة والبهجة. في عام ١136‏ تزوّحجتٌ مليكة بنعبد 
العالي. كنا قد تعارفنا صغارًا لم نتجاوز التاسعة. كان جدها 
لأمّهاء وهو من عائلة الغزاوي» من كبار موظفي الدولة. أما 
والدها عبد الرحمن بنعبد العالي فهو من موسّسي حزب الاتحاد 
الوط العرات نهنا ومن أصدقاء المهدي بن بركة. بعد وفاة 
محمّد الخامسء هُمّسُ الرجل وتوفي في سن مبكرة» حيث 
لم تكن مليكة قد تجاوزت الأشهر الثماني من العمر» لاحقًا 
تزوّجت والدة مليكة سفيرًا للمغرب هو أحمد الطيبي بنهيمة؛ 


شف 0 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


ومن هنا فإ أسرة زوجتي تجمع بين المخزن والحركة الوطنية. 
درست مليكة الاقتصاد ثمْ أنشأت مع شقيقها شركة للهواتف في 
المغرب اسمها بيل كندا. طوال سنوات خططناء مليكة وأناء 
مشروع زواجنا ولكنّ أمي كانت تعترض بحجّة أن والدة مليكة 
قريبة من القصرء وقد زاد تخوّفها عندما رأت الحسن الثاني 
يوافق بيُسر على زواجي بمليكة؛ ظنًا منه أن حماستي قد تتدنى 
مع المسؤوليّات الزوجيّة. لم أودّ الاصطدام المباشر مع إرادة 
أمي؛ إلى أن اطمأنّت وغيّرت رأيهاء بل اعترفت لاحقا بأنّها 
أساءت التقدير إزاء مليكة. 

وافق الحسن الثاني على حضور حفل الزفاف شريطة أن يكون 
راعي الاحتفال. أراد أن يشرف على كل الترتيبات بما في ذلك 
جولة على متن سيّارة مكشوفة. ببساطة» كان يريد اغتنام الفرصة 
لإعادتي إلى بيت الطاعة» ولكنني رفضت فانتقم بشكل غريب. 
يوم الزفاف» في ١‏ تمّوز (يونيو) 4١41525‏ وصل الحسن الثاني 
إلى الحفلة مرتديًا لباسًا لا يليق بالمناسبة وعليه علامات الغضب. 
بداية» لم أفهم من الأمر شيئًا ثم أدركت أنها طريقة للتعبير عن 
امتعاضه. طلب الملك من متحف غريفان في باريس أن يصنع 
تمثالا من الشمع لوالدي واستقدمه على متن الطائرة» ثم أراد 
وضعه في شاحنة صغيرة» وكان ينوي إحضاره إلى حفل الزفاف 
لولا... لم أشك عندما نمي إل الأمر بأن وراء ذلك نيّة سيئة 
ماء ولو أنني لم أقف عليها على الفور. قبل الحفل أفضى الملك 


يفف 15 
الفكر الجدي 


<كجكر 


لمهرّجه المفضّلء عبد الكريم لحلوء ولولي العهد. عن خطته. 
أصيب هذا الأخير بالصدمة وصرّح لوالده أن تمثال الشمع يثير 
لديه الرغبة في البكاء وأنْ هذا ”الشيء“ ليس هديّة مناسبة. أما 
لحلوء فأضاف أن الحسن الثاني بوسعه أن يفعل ما يريد لأنه هو 
الملك؛ لكنه سوف يتسيّب في جرح عميق لن ينفع معه دواء: 
”سيدي, هل يمكنكم أن تستسيغوا العيش بعد هذا الفعل؟ إذا 
كان الجواب بنعم؛ فليكن ما تشاؤون. وإن كان لا» فمن الأفضل 
أن تحجموا عنه“. على الرغم من هذه التحذيرات» استمرٌ 
الحسن الثاني في عناده» ولكن عندما رفع التمثال لإدخاله إلى 
الشاحنة اعترضه ولي العهد بقدمه عمدًا وأسقطه على الأرض 
نتكسر: ”لن أسمح لك أن تقدم على هذا الأمر الفج احترامًا 
لروح عمٌّي!“» وساد توثّر كبير بين الأب وابنه! عندما وصل وليّ 
العهد إلى المنزل» همس في أذني بسرعة: ”لا تحاول أن تفهم 
فالأمر معقّد جدًا. سأوضح لك في وقت لاحق“. 

في عام نفسه 2١956‏ أهداني أبراهام السرفاتي واحدًا من كتبه» 
بين الأسود والرمادي» أرسله إلىّ عن طريق محمّد مجيد. الذي 
كان حينئذ رئيس الاتحاد الملكىّ المغربيّ لكرة المضرب» 
وقد كتب عليه هذه العبارة: ”إلى الأمير المواطن» على أمل 
العيش في ظل نظام ملكىّ مستنير بعد إصلاحه“. في الحقيقة؛ 
فوجئت بهذه الإشارة إلى الملكيّة من طرف السرفاتي ولو كانت 
دستوريّة» هو الماركسيّ والجمهوريٌ الصريح... بعيدًا عن أيّة 


11 1 
الفكر الجدي 


<جكر 


رغبة في الاستفزاز أطلعتٌ الحسن الثاني على الكتاب فأخذه 
ورفض إعادته» فوجدتني مضطرًا إلى سؤال السرفاتي موافاتي 
بنسخة أخرى موقّعة وشرحتٌ له ما حدث. لا شك أنه سُرٌ عندما 
علم أنه استطاع مرّة أخرى أن يثير حساسيّة الملك! 

في تموز (يوليو) 215155 نشرتُ في الصحيفة الشهريّة لوموند 
ديبلوماتيك مقالًا بعنوان ”أن تكون مواطنًا في العالم العربي“. 
كنت أعرف رئيس تحرير الصحيفة إغناسيو رامونيه» الذي كان 
أستادًا في المدرسة المولويّة. في هذا النصّ الأكاديميّ نوعًا ماء 
الذي لا يخلو من حدّة في المضمون ولو أن صياغته غير عنيفة: 
شرحت أن مفهوم المواطنة ما يزال يننظر أن يتحقّق على أرض 
الواقع في العالم العربي ‏ كان ذلك قبل الربيع العربي بخمسة 
عشر عامًا. لقد كتبت يومها: ”إن لفظ مواطنء الذي تتباهى به 
معظم دساتير الدول العربيّة» ما هو إِلَّا تعد على المصطلح. فكلمة 
المواطن هنا تحمل دلالة مختلفة تمامّاء لكونها تشير إلى الكائن 
السياسيّ الذي تعتبر تبعيّته للدولة أمرًا حاصلا ولكنّ ولاءه يبقى 
موضع شبهة» أمَا حريته فهي في الوقت نفسه ممنوحة وموقنة“. 
أصاب المقال الحسن الثاني بالذهولء فتأبّط عددًا من نسخ 
الصحيفة وراح يزرع الخطى في أرجاء قصره الصيفي في 
الصخيرات إلى أن برز أمامه أحد مستشاريه؛ فبادره قائلا: ”انظر 
بالله عليك ما فعل بي مولاي هشام! إن كنت لا تعرف» فاعرف 
الآن: أنت لست مواطنًا!“ وقذف نسخة من الصحيفة في وجهه. 


293 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


نْمّ مضى في سبيله وكلّما لقي أحدًا أعادً الكرّة مشتكيًا كالأب 
الذي خذله ولده - أضف إلى ما في ذلك التصرّف من سخرية 
كانت الموند ديبلوماتيك آخر همّه. فهو, في نظر نفسه. فوق 
الجميع ولا سيّما فوق الوسط اليساري. إنتهى به الأمر أن 
استدعاني إلى قصر الصخيرات. كان سيدي محمد برفقتي عندما 
جاءني الاستدعاء» فقال لي: ”إذا نجوتٌ هذه المرّة» سألقبك 
بإنديانا جونر” 

رافقني سيدي محمد إلى الصخيرات وتوارى وراء إحدى 
الأشجار ليسترق السمع إلى الحديث بيني وبين والده؛ وكان 
كلّما أشاح الحسن الثاني بنظره؛ أطلّ سيدي محمد من مخبئه 
وحرّك ذراعه بحركة غير لاثقة أكاد لا أتمالك نفسي معها من 
الضحك. كانت تلك المغامرة آخر ذكرى طيّبة أحفظها عن 
سيدي محمد. 

خاطبني الملك قائلا: ”أنظر ربما أعرف أنا كيف أتعامل معكء 
ولكن هل تغفل عن العالم العربي من حولنا؟ لستٌ متأكدًا أنهم 
يسكتون عنك بسببي. كأني بهم يريدون أن يضربوا بك المثل 
ويجعلوا منك عبرة للآخرين» لأنهم يخشون من انتشار العدوى؛ 
ولذلك من الصعب أن تستمرٌ على هذا النهج“. لزمت الصمت 
لتجتّب المواجهة, ثم إن قصر الصخيرات ليس المكان المناسب 
للدفاع عن حقوقي كمواطن» وقد قلت ما عندي على الملأ 


فرق 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ولكنّ الملك يظنّ أني إنما أسعى لأجلب له المتاعب والشجار 
على الساحة السياسيّة» وأني تعدّيت حدوده. بدا لي أن الصمت 
في مثل هذا الموقف أبلغ وصمتت. كان جو اللقاء ثقيلا والحقيقة 
أنه» من إذ ذاك» لم ينفرج. 

في أيلول (سبتمبر) »١5595‏ غادرتٌ المملكة لمتابعة الدراسات 
العليا في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنياء بعيدا عن المغرب» 
وهذا أمر جيّد في حدّ ذاته. لو ذهبت إلى باريس لما وجدت 
راحتي لأنّ باريس تضبط ساعتها على توقيت الرباط» بالمعنى 
”ما بعد الاستعماري“» أمّا أميركا فهي عالم آخر لا يحمل ندوب 
هذا الماضيء, ولا يخضع للإكراهات نفسها. أميركا بالنسبة إليّ 
هي» ببساطة» الحريّة. 


ا" 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


الفكر الجديد 0 
21 


الفصل الرّابع 
القطيعة 


إنتقلت إلى ستانفورد قرب مدينة سان فرانسيسكوء لمتابعة 
دراستي في العلوم السياسيّة. كاليفورنيا كما هي لي أسطورة حيّة. 
وهي منطقة أعرفها لأني كنت أزور بانتظام ابني خالتي الأميرين 
الوليد وخالد» الذين درسا في كليّة ميئلو بارك في أثرتون. وهي 
كليّة للتجارة في وادي السيليكون. في جامعة ستانفورد بدأت 
أدرس آليات جَرّبها التاريخ السياسي للانتقال من السلطويّة إلى 
أنظمة أرحم, ولا سيّما في أميركا اللاتينيّة. لقد حاولت أن أفهم 
تحت أيّة شروط يحصل التحوّل من الأنظمة العسكريّة أو غيرها 
من أشكال الدكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة» فكان هذا موضوع 
رسالتي البحثيّة. 

ما إن استقررتٌُ في ولاية كاليفورنيا في تشرين الأوَّل (أكتوبر) 
كاد العالم الذي غادرته أن ينهار: خلال زيارة إلى 


ضرف 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لهويورك لإلقاء كلمة في الأمم المتحدة؛ أصابت الحسن الثاني 
وعكة صحيّة. نشرت وكالة الأنباء المغربيّة بيانًا مقتضبًا تشير فيه 
إلى أن "أععاءبدلالة الملا طلبو ا معه أن راعل قنطامن الراحة) 
قررّت بلا تردّد أن أوافيه حيث هو. وصلت عند الساعة السابعة 
والنصف صباحًا إلى المستشفى في نيويورك» وجلست في غرفة 
الانتظار. أخبرني الحاضرون من مسؤولي النظام الكبار» بوجوه 
مكفهّرة» أن الملك في وحدة العناية المركزة. إنتظرت وانتظرت 
ولكن لم يحدث شيء, ولا أستطيع أن أفعل شيئّاء فقررّت العودة 
إلى الفندق, لكنّ الجنرال القادريّ» مدير الاستخبارات العسكريّة 
في المغرب» لحق بي إلى الشارع وأخبرني أن الملك يريد أن 
يراني. عندما دخلت إلى غرفته وجدت معه سيدي محمد وللا 
مريم» ابنته الكبرى. قبّلت يده وتبادلنا بضع كلمات»ء ثم طلب 
ما المكوث معه بينما كان يسأل أطباءه» بدون تزويق أو زخرفة. 
كانت حالته خطيرة. إضطربتٌ كثيرًا واهترٌ كياني عندما طلب 
منا البقاء بجانبه» التفت إلىّ وقال: ”أمًا أنت فإني فقدت أثرك» 
ما هي قصة كاليفورنيا هذه؟ ماذا تفعل هناك؟” شرحت له كما 
لو أنه لاايدريء أني أواصل دراستي. فسأل ممرّضة كانت هناك» 
باللغة الإنجليزيّة: ”هل ستانفورد كليّة جيدة؟” فأجابت: ”أوه, 
نعميا صاحب الجلالة» كليّة مرموقة!” كان جوابهاء وهو عادي» 
بمثابة مفتاح العفو. ثم ضحكنا بحرارة وانتهى الخصام بيننا. 

عدت إلى الفندق مع سيدي محمّدء وتبادلنا نظرات لا لبس 


تشرق 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فيها حول صححة الملك. لم نتحدّث عن بقية الأمور» يعني عن 
خلافاتنا وعن تجتّبنا بعضنا لبعض لعدّة أشهر. ولىٌ العهد يدخن 
باستمرار وأنا ألتهم الأكل بشراهة وعصبيّة. في اليوم التالي» غادر 
الحسن الثاني المستشفى إلى فندق بلازاء حيث انضمٌ إليه طبيبه 
الخاصٌ وبعد ذلك فريق من أحسن الأطبّاء الأميركيّين» ومن 
بينهم اختصاصيّ الجهاز الهضمىّ في جامعة شيكاغوء الأستاذ 
كي رشنر الذي تقاعد عن العمل ولكنّ الملك طلب منه على وجه 
التحديد أن يأتيّ لعلاجه: ”لقد تتبَعتَ الحالة الصحيّة لأخي في 
الأوقات الصعبة» وأنا أريد منك أن تتتبع حالتي أيضًا“. 
رمحسس يي و 0 
لملك أن يصير بين عشيّة وضحاها عرضة للموتء لكنّه رفض 
الخضوع لعمليّة جراحيّة معقّدة كانت ستطيل حياته لربما بضع 
سنوات. لقد شرح لناما مضمونه أنه متشبّثٌ بالحياة ولكن ليس 
بهذه الطريقة» لأنه لا يودٌ أن يقوم بواجباته في حالة ضعف» 
وكأنه يعني : سأحمل الشعلة بكرامة حتى النهاية» دون أيّة 
محاولة لتطويل المدة. 

تصرّف الحسن الثاني وفقًا لعادته القديمة» فوظف السرّ الطبيّ 
كوسيلة للحكم. لقد اجتهد لزرع البلبلة حول حالته الصحيّة 
وتضليل محيطه القريب لخلط الأوراق حول نهاية فترة حكمه. 
قام الحسن' الثاني بتسريب خبر في المغرب مفاده أنّه مصاب 
بمرض نادر يصيب الأمعاء» وهو مولم لكنّه غير قاتل» يدعى مرض 


ييف 4 
الفكر الجديد 


<جكر 


كرون. حبّى عام 2١317‏ وربّما حتّى عام »١349/‏ اعتقد صادقًا 
أنه سيغلب المرضء وكنا نشاطره الشعور نفسه أو لنقّل الأمل 
نفسه. واجه الملك موته بعرّة وبرباطة جأشء فلم يغلبه المرض 
بل على العكس من ذلكء استلهم من تجربته قوّة وحكمة. ذات 
مساء وهو يتأمّل غروب الشمس من الشرفة» قال لي: ”يا لروعة 
المشهد وضالة البشر!“»؛ تحت تأثير المرضء استعاد الحسن 
الثاني هدوءه وإنسانيّته. من الناحية السياسيّة» استخلص من 
دروس خواتم نهاية الحرب الباردة المشاكل الناجمة عن حكمه 
الاستبدادي ليباشر بداية تحوّل عميق في النظام. وجد الشجاعة 
لإعادة صياغة منجزاته السابقة» فقدّم بعض ”التنازلات“ بل 
ذهب أبعد من ذلك عندما رجع عن أخطاء أساءت لمستقبل 
الملكيّة والبلاد. 

عدت إلى ستانفورد بقلب مثقل بالشجون رغم التحسّن الظاهر 
في حالة الملك الصحيّة. إستردٌ شيئًا من وزنه وعاد لممارسة 
الصيد. ظلّت علاقتنا خافتة لأنّه ونظوًا لحرصه على الترتيب 
لخلافته» كان لا يودٌ أن تساهم عودة الدفء لعلاقتي معه في 
التشويش على موقف سيدي محمّدء وهذا أمر أتفهّمه جيّدًا. 
من جحانبي سعدتٌ في ستانفورد» وكأنّ الفرق الكبير في التوقيت 
يُريح النفس ويُلطف المزاج! أصبح المغرب بعيدّاء ولا أحد 
يرهقني بالهاتف, أستمتع بالراحة وزوجتي تنتظر مولودًا. في 


5 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


شهر نيسان (أبريل) 2١335‏ وبينما بلغت الشهر السادسء ألم 
للطبيب أن حالتها تستدعي الحذر وأن احتمال الولادة المبكرة 
وارد. المشكل هو أنني كنت حريصًا أشدّ الحرص على أن يولد 
طفلنا فوق التراب المغربيّ. بدا الأمر أكثر من ضروري بل غير 
قابل للتفاوضء لكنّ رئيس الأطباء حسم الأمر عندما أعلن لي 
ببساطة أن ذلك مستحيل لأن السفر في هذه الظروف يهدّد حياة 
الأم والطفل معًا. رغم ذلك أصررت ولم أرتدع, لدرحة أن 
رئيس قسم العلوم السياسيّة في الجامعة عندما وصله الخبر دعاني 
لتناول الغداء لفهم دوافع عنادي هذا. هل هي جرعة زائدة من 
الوطنيّة؟ لا أستطيع أن أشرح ما أشعر به» إحساس رهيبٌ ينبع من 
أعماق الوجدان؛ هو أبسط من الكلام ولكن يعجز عنه الكلام. 
إزداد موقف رئيس الأطباء تصلَبًا وفطن إلى أني أخطط لإخراج 
مليكة من المستشفى سرّاء فهدّد باستدعاء الشرطة. 

وسط هذه المأزمة» هاتفني الحسن الثاني : "إسمع) لا تغامر 
بحياة زوجتك. أنا أعرف شعورك بالتمام» فابنتي كما تعلم 
وُلدّت في روماء وقد تولد ابنتك في أميركاء وأنا أعلم أن هذا 
الأمر ليس متعمّدا من طرفكء ثقافتنا مرنة في هذه الظروف. 
عندما تلد زوجتك سوف أنظم لك حفل عقيقة في ستانفورد 
بالشاي والشواء» سترى سيكون حفلًا مغرييًا مئة في المئة. “ 
تأَنْرت» فلهذا الكلام وقع طيّب علىّ» وبرغم ذلك ظللت معاندًا. 


7 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


إنُصلت بطبيبة شهيرة مختصّة في التوليد» فوصفت لزوجتي دواء 
من شأنه وقف الطلق؛ وأتت بنفسها إلى المستشفى لتعطيها 
الدواء دون علم الطبيب الأوّل. بالفعل» هدأت تلك الطلقات 
العرضيّة الموجعة وتحسّن حال زوجتي فسمح لها الطبيب 
بمغادرة المستشفى وهو يشدّد في الوقت نفسه على منعها من 
السفر تحت أيّة ذريعة» فوعدته بالتقيّد بكل توجيهاته بل إني 
استأجرت شقّة على مرمى حجر من المستشفى كي تظل مليكة 
قريبة إن عادت الأوجاع؛ بحسب زعمي. في الواقع» بمجرد ما 
عدنا إلى المنزل» أخذتُ مليكة إلى الطائرة في اتجاه المغرب» 
وهناك وُلدَّت ابنتي فايزة. أما ابنتنا الثانية هاجر» فقد ولدت في 
المملكة أيضًا في عام ١595‏ دون مغامرات. إِنَ المثير للسخريّة 
على مستوى الأسرة هو أن حسنء أخو مليكة الأكبر» كان في 
الآن نفسه يبذل أقصى الجهود لتغادر زوجتّه الحامل المغربت 
وتلد بأمان على التراب الأميركيّ... 

كالعادة» يرتبط انفراج الضغط السياسيّ على الصعيد الوطنيّ مع 
انفراج الضغط علىّ وعلى عائلتي من الناحية الماديّة وذلك طبقا 
لسلوكيّات المخزن العجيبة. فقد سمح لي الحسن الثاني بتطوير 
مشروع عقاري في مدينة الناظور» عاصمة الريف الشرقيّ وثاني 
مركز مالي في المملكة بعد الدار البيضاء (وهذه خصوصيّة أقل 
تداولًا) وذلك بفضل تدقق أموال المهاجرين وتجارة الحشيش... 
كانت المساحة الإجماليّة تناهز أربعة وخمسين هكتارًا وعلىٌّ 


رف 5 
الفكر الجديد 


<جكر 


أن أقوم بتجهيزها وتجزئتها ثم بيع العقارات إلى مغاربة الخارج 
الراغبين بالاستثمار في وطنهم. لمعالجة هذا الموضوعء, 
استعنت بخبرة صديقي كمال الشاعر وشركته دار الهندسة, 
كما تشاركت ماليًًا مع المصرف الشعبيّ بالمغرب. سارت 
الأمور على ما يرام؛ وبدأ تسويق الأراضي إلى أن جاء شهر أيلول 
(سبتمبر) 2١535‏ نُشر لي مقال في صحيفة لوموند ديبلوماتيك 
بعنوان ”من أجل ضمان الانتقال الديمقراطئئّ واستمراريّة 
العرش: النظام الملكيّ المغربىّ يحاول الإصلاح“. نرلت وجهة 
نظري على الرباط كالصاعقة ولو أن رد فعل الملك كان أقل حدّة 
من المقال السابق. أيَامذاك» بدأ الانفتاح السياسيّ في المغرب» 
واقترح الملك على المعارضة التاريخيّة المشاركة في الحكومة» 
وتم تعديل الدستور في عام ١43457‏ بإنشاء مجلس المستشارين 
بالإضافة إلى مجلس النوّاب» وبذلك اختفت الانتخابات غير 
المباشرة لثلث أعضاء البرلمان الذين لم يخترهم الشعب مباشرة. 
في الوقت نفسه رفع الحسن الثاني عدد المنتخبين غير المباشرين 
وأنشأ لهم غرفة عليا: ”مجلس المستشارين". بعبارة أخرى لقد 
عرّز الملك قبضته على السلطة التشريعيّة ومنح المعارضة تمثيل 
الشعب الذي طالبت به من قبل ولكن فقط في مجلس النواب. 
لم يفقد الملك المبادرة إذن» لذا رغبت في التعبير عن موقفي 
في هذا السياق الجديد» فجاء مقالي مدافعًا عن فكرة مفادها أن 
مصدر الشرعيّة هو الشعب. إِنّْه موقف صريحء ولكنه على عكس 


كرف 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


المقال السابق» لا يناقش جوهر الحكم الملكىّ في المغرب» بل 
يطرح أفكارًا حول توزيع الصلاحيّات والمسؤوليّات» ومتطلبات 
الوضع الاقتصادي ودور الأحزاب. لماذا كتبت هذا المقال بينما 
علاقتي مع عمّي قد تحسّنت وأنا أعلم أنه مريض؟ أعتقد أنني 
بدأت في تطوير فكري السياسيّ» ولا شك أني شعرت أيضًا 
بتلك الرغبة الدفينة في العودة إلى مبارزة الحسن الثاني. 

على هذا الصعيد» جاء رد الفعل ملكا بامتياز. لقد أعطى الملك 
أوامره إلى المصرف الشعبيّ لكي يجمّد, بين عشيّة وضحاها 
ودون ضجيجء مساهمته الماليّة في تطوير مشروعي العقاري. 
وللإجهاز علي قامت الإدارة بتحويل مطار عسكري إلى منطقة 
سكنيّة ليرتفع العرض وينخفض سعر القطع الأرضيّة المجهّزة 
للبناء. عندما اقترح إدريس البصري هذه الفكرة على الملك؛ 
اعترض أحد كبار العسكريّين لأنّ إلغاء المطار العسكري يعني 
استحالة نقل الجنود بسرعة في حالة تمرّد في المنطقة» ولكنّ 
الحسن الثاني لم يكترث له. أراد أن أذوق وبال الأمرّين وأصبح 
مفلسًا وقد كاد أن يفلح! لقد توقف بيع العقارات ووجدت 
نفسي صاحب تجارة كاسدة لا أدري ما العمل بنصف الأربعة 
والخمسين هكتارًا! هنا أراد القصر أن يمعن في الإجهاز علىٌ؛ 
فعمد إلى رجل أعمال من الريف وهوفي الحقيقة تاجر مخدرات» 
زعم أنه يريد شراء الأراضي» ولولا الألطاف الإلهيّة لورجدت 
نفسي تولاط فى تند تبييض أموال المخدّرات» وعندئذ فقّل يا زلة 


5 :4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


القدم! شاءت الصدفة أن ألتقيّ في المدرسة الأميركيّة بالرباط 
على هامش مباراة في لعبة البيسبول» رئيس وكالة الاستخبارات 
المركزيّة الأميركيّة في المغربء فاقترب منّي وحذّرني من الفحٌ» 
فأحبطتٌ الخبيئة ووجدت مشتريًا لانتشالي من هذه الدوّامة: 
ميلود الشعبي. هذا الرجل نموذج العصاميّ الذي انطلق في 
الأعمال من وسط متواضع ثمْ أصبح من كبار الأثرياء» وقد عاش 
كثيرًا من الصراعات الاقتصادية مع النظام منذ سبعينيّات القرن 
الماضي. في تشرين الأوّل (أكتوبر) ١997‏ جاء يهتّئني على 
”المقال الشجاع“ المنشور في لوموند ديبلوماتيك» فاغتدنمت 
الفرصة لأقترح عليه دون خجل أن يشتري مني المشروع الأعرج 
في الناظور ويخلّصني من متاعبه» فوافق الرجل بسرعة لحسن 
حظي! بيد أن المفاجأة حدثت عندما قصدته في مراكش لأستلم 
الشيك على هامش دعوة للغداءء فإذا به قد تراجع عن الصفقة 
وأفصح لي عن السبب: ”إلتقيتٌ هذا الصباح إدريس البصري 
في الغولف»؛ ولم تكن مجرد صدفة» وقد حذّرني قائلًا: ”إن 
الملك يريد معاقبة ابن أخيه» فلا تعترض طريقه وإلا فلا تلومنّ إلا 
نفسك”» وفي هذه الظروف لا أستطيع إبرام الصفقة معك وأنت 
لاشك تتفهّم الوضع.“ 

إنتفضتٌ بعد سماع هذه الرواية وصرختٌ: ”كيف ذلك؟!“ 
وأسرعت إلى الهاتف لأكلّم إدريس البصريٌّ وقد شغّلتُ مكتر 
الصوت ليسمع الشعبي حوارنا. خاطبت البصريٌّ بعنف ثم 


4 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


سألته: ”هل الملك هو من طلب منك تخويف صديقي ؟* بالطبع؛ 
كل من بر أحشاء النظام يعلم يقيئًا أن الجواب سيكون بالنفي» 
لأن وزير الداخلية لن يتجرّأ أبدًا على توريط الملك مباشرة: ”لا 
أيها الأمير» لقد أخذتٌ المبادرة من نفسي استباقًا للأحداث.“ 
بدأ الشك يراود ميلود الشعبي ولكنه لم يطمئنّ» فقفزت من 
مكاني: ”هيا بنا إلى القصر لنسأل الملك ونقطع الشك باليقين!“ 
ثم أخذته في سيّارتي وانطلقناء وبما أن أمن القصر يعرفني فقد 
عبرت كل الحواجز بسهولة إلى آخر مرحلة وهي القائد مرجان» 
ذلك العبد الواقف على باب الحسن الثاني» فأومأت إليه دون أن 
يتفطن ميلود الشعبي» واعدًا بإكراميّة كبيرة وأنا أفرك أصابعي 
الثلاثة ففهم القصدء فقلت له وأنا أغمزه: ”هل يمكن أن نرى 
الملك؟” 

بطبيعة الحال أيّها الأمير» سيدنا سيستقبلكما. إضطرب ميلود 
الشعبي لمجرّد فكرة المثول أمام الحسن الثاني» وتذكر أنه 
منذ سنوات خلت تسرّع فعبّر علانية عن انشراحه بعد محاولة 
الانقلاب الأولى» معتبرًا أنها الخلاص الذي ينتظره البلد» ولما 
فشل الانقلاب غادر المغرب على عجل ونمّى ثروته في ليبيا 
في ظل القذافي وكذلك في مصر. طلب متي الشعبي أن نعود 
أدراجنا: ”مولاي هشام, أنا أثق بك؛ لا مشكلة الآن» سأشتري 
منك الأرض كما اتّفقنا“» بدا موقفه أريّحيًا وجرت الصفقة 
بالفعل» ثم أصبح ميلود الشعبي صديقًا مخلصًا لا يردّ لي طلبًا. 


بح 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


قال لي يومها: ”شكرًا لك لقد منحتني الفرصة أن أضع الحسن 
الثاني في موقف الخاسر مرة واحدة على الأقل". ثم إنه انتظر 
زهاء عقد من الزمن قبل أن ترتفع أسعار العقار في الناظور 
ليستطيع بيع الأراضي دون خسارة تذكر. 


في المقال الذي نشرته في شهرية لوموند ديبلوماتيك» عقب 
سلسلة من الأسئلة حول مستقبل البلاد» كتبتُ جملةٌ على وجه 
الخصوص أبحجت غضب الملك: ” ونحن على عتبة القرن 
الحادي والعشرين» سيكون لزامًا على الحزب الحاكم أيّا كان 
وعلى الملك المقبل محمّد بن الحسن, أن يأخذ هذه القضايا على 
محمل الجذ» مدعو مين من جميع المواطنين. على المغرب اغتنام 
هذه اللحظة التاريخيّة إن أراد أن يتجتب النكوص إلى الوراء“. 
شعر الحسن الثاني وكأني طرحته جانبًا على رؤوس الأشهاد 
وهذا قول وجيه؛ فقد تعمّدتُ ”قتل الأب“ للمرّة الألف...فأخذ 
انتقامه مني وجومًا *: شتّى» لأنه لم يكتف بإجحهاض مشروعي 
العقاري في الناظورء بل أوعز لإدارة الضرائب أن تباغتني بمساءلة 

يبّة لا تُبقي ولا تذرّء ما اضطرّني إلى تسوية وضعي المالي؛ 
وبذلك يكون قد أسدى إليّ خدمة نفيسة من دون أن يدري. 
هذا أمر جيّدء وقد اقتنعتٌ بجدواها إلى درجة أنني أسديتٌ 
النصيحة نفسها إلى سيدي محمد مباشرة بعد اعتلاثه العرش. 
لقد أتيحت له فرصة استثنائيّة لتسوية الحسابات الماليّة للملكيّة 


1 5 
الفكر الجدي 


<جكر 


وتنقيتهاء وإضفاء الشرعيّة على ممتلكاته بإدماجها في الميزانيّة 
العامّة للدولة كموارد ضروريّة للقيام بمهمّة التمثيل الوطنيّ من 
طرف العائلة المالكة. للأسف» لم يستمع محمّد السادس إلى 
نصيحتي» ومازالت حتّى الآن ممتلكاته فاقدة للشرعيّة» ما يجعل 
الملكيّة المغربيّة في وضعيّة هشّة للغاية بالمنظور الديمقراطىٌ. 
إن المشكلة الجوهريّة في نظامنا الملكيّ هي علاقته العضويّة 
بالاقتصاد. لقد ترسّخ لدي اليقين أكثر من أيّ وقت مضى أنّ 
ارتباط القصر بمجال الاقتصاد لا مسألة احترام حقوق الإنسان 
أو قبول الديمقراطيّة هو ”المشكل"“ الأعظم وهو أصل الداءء 
الذي يحول دون التحوّل المؤسّساتيٌ لنظامنا. 

لنطرح السؤال بمنتهى الصراحة» ومن وجهة نظر الأسرة 
الملكيّة: إلى أيّ مدى تستطيع الملكيّة المغربيّة» التي تقوم ثروتها 
على ممتلكات عقاريّة وترائيّة هائلة» الاستمرار في التهرّب من 
التحديث الاقتصاديٌ دون تهديد مستقبلها؟ إِنْ المؤسّسات 
الماليّة الدوليّة تنتقد المملكة بسبب إرادتها المتذبذبة في 
مباشرة الإصلاح الاقتصاديٌ. لتفرض أن الملك قبل بقواعد 
اللعبة الليبراليّة بجديّة» ودفع المغرب إلى الانخراط القوي في 
العولمة» ألا يعني ذلك أنه سيهيّئ الظروف المواتية لنهاية سلطته؟ 
الجواب ليس محسومًا لأنّ من الضروريٌ التمييز بين الملكية 
والمطون, ]ذا نكا من لك الارقاط بن خانين الرتكيضن 
للنظام» قد يضمحل المخزن أو يموت ولكنّ النظام الملكيّ قد 


34> 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ينجو ؛ بل ربّما يستعيد حيويّته ويتزوّد بأسباب البقاءء لأنّ دوام 
الوضع الراهن يبدو مستحيلا. إن بقاء الموسّسة الملكيّة رهينٌ 
بتخلصها من المخزن الذي يشكل عائقًا هائًه أمام التحديث 
الاقتصادي للمغربء وبالتالي أمام تحديف الباذذ كلها إن 
المخزن يعمد إلى توزيع العطايا الريعيّة» ويمنح الامتيازات» 
ويكافئ أو يعاقب من خلال السيطرة ”النيوباتريمونياليّة“ على 
مصادر الدخل (النيوباتريمونيالية هي النظرية الجديدة لاحتكار 
السلطة عبر التحكم في الثروة). إِنْ تجديد الملكيّة وتحريرها 
يستلزمان تفكيك هذه المنظومة الفريدة» بل إِنْ هذا التفكيك 
بالإضافة لكونه واجبًا أخلاقيًا فهو قبل كل شيء ضرورة سياسيّة. 
وبالفعل» ففي نظام يُراد له أن يكون خاضعًا للمراقبة والمحاسبة» 
من يراقب ويحاسب الملك والمقرّبين منه» علمًا أن الملك هو 
ولي نعمة هؤلاء المقرّبين جميعًا؟ من سيجبر القصر وبلاطه على 
أن يصلحوا نظامًا يستفيدون من وضعه الحالي؟ 

من باب النزاهة لا بد من الاعتراف بأن لا أحد يستطيع أن يدَّعي 
أن نهاية المخزن ستكون دون مخاطر ولن تنجم عنها “رضوض 
وكسور“». فلا توجد أيّة ضمانات عند الانتقال من النظريّة إلى 
الممارسة وخاضة أن نطاق الممارسة وأبعادها بحجم البلد 
بأكمله. هذا ما علّمتني إيّاه التجربة ولو في حقل مختلف تمامّاء 
وبالتحديد في مصنع في مدينة شيفيلد بإنجلتراء حيث حاولناإنتاج 
وقود الديزل البيولوجيّ» فأنتجنا الوقود في المختبر ولكن عندما 


1" 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أردنا توسيع التجربة إلى الحجم الصناعيّ أنتجنا... الصابون! 
نعمء الصابون؛ لأنه على نطاق صناعيّ اختفى مكوّن عضوي 
في تسلسل التفاعلات الكيمائية» فأسقط في أيدينا. ماعساني أن 
أقول لأبناء وطني لو انطلقت التغييرات اللازمة لإصلاح النظام 
الملكيّ لدينا؟ ليس هناك نجاح دون مخاطر» ومن يزعم العكس 
فخطابه ديماغوجي. قد يقول قائل إن الرغبة في إصلاح النظام قد 
توّدّي به إلى الهلاك؛ ولكنّ احتمال هلاكه أكبر في حالة الترتص 
والانتظار» ولو أن الاتنظار يسمح بربح بعض الوقتء أما على 
المدى الطويل فإِنّ وقوع الكارئة حتميٌ» ومن ثم تتأسّس قناعتي 
أنه لن 7 تقوم للمغرب قائمة ولن ينعم جل أبنائه بتقدّم جدير بهذا 
الاسم ما دمنا نعيش في ظل دولة المخزن. 

ما أسهل أن يمطر المرء الطبقة السياسيّة المغربيّة بوابل من 
الازدراء والتقريع؛ ولكن في حدود الإطار المفروض عليها تبقى 
خياراتها مختزلة في معضلة تتعامل معها ويداها مغلولتان: هل 
تقبل المخاطرة الفوريّة بالنظام برمّته أم تتوبحه في أفق زمنيٌّ نحو 
انهيار لاا 0 إن السياستين مغلوب:غلى 
أمرهم؛ خصاة ينعتهم المحلّلون بأفدح النعوت فماذا سيفعلون 
لو كانوا في مكانهم؟ لن يكونوا أفضل منهم لأنْ مجال الخيارات 
ضيّق؛ اللهم إلا إذا حسم المرء أمره وقرّر التصدّي للمخزن 
جهارًا. أمَا من اختار أن يستظلٌ بظل النظام؛ فإِنّ النظام يفرّغه 
من لبّه ويتركه عرضة لسخريّة الساخرين! إن الطريقة الوحيدة 


اح 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لمن أراد انتزاع كرامته وحريّته هي تكسير القالب والتخلّي عن 
الامتيازات» وبعدها يكون جديرًا بأن يطالب الملكيّة بأن تنخلى 
بدورها عن امتيازاتها. 

في تشرين الأول (أكتوبر) 99١غ‏ بعد أسابيع قليلة من نشر 
مقالتي في صحيفة لوموند ديبلوماتيك» اتصل بي عبد الرحمن 
اليوسفي» وتناقشنا مطوّلًا حول المستقبل. إكتشفت رجلا 
صادقًا ونزيهًا تحذوه الرغبة في خدمة بلاده» كما أنه رجل 
سياسيّ متمرّس وداهية» هو في نظري رجل الحزب. قبل منفاه 
في مدينة كان الفرنسيّة» بين عامي ١957‏ و©146١»‏ كان قد 
اتصل بي وطلب متي أن أحمل إلى الحسن الثاني الرسالة التالية: 
”محيطكم يغرق في الدسائس والحسابات الضيّقة» أخص 
بالذكر (إدريس) البصري و(رضا) أكديرة“» (اللذان تبوًا تباعًا 
منصب وزير الداخلية وأحد المستشارين الأكثر تأثيرًا على 
الملك)؛ أوصلتٌ الرسالة كما هي إلى الحسن الثاني» فلم يعجبه 
أن يكون مقرّبوه موضع مساءلة من طرف عجوز مترّهل وشابٌ 
نذل كما وصفناء يعني اليوسفي وأناء الرسول المتواطئع حسب 
زعمه. ا او ا 
واعيًا أن الأمراء وحدهم لهم مصلحة أن تستمرٌ الملكيّة» وهذا لا 
ينطبق بالضرورة على حالة البصري أو أكديرة. كان معظم أفراد 
حاشية الملك من المتملقين الطامعين» وكان الحسن الثاني واعيًا 
لذلك يحتقرهمء ويعتقد أن كل واحد له ثمن كالسلع, إلا أنّه كان 


7 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


يستخلص من هذه الحقيقة استنتاجًا مدهشًا: كان يُبعد عنه أولئك 
القلائل الذين لا يمكن شراؤهم» كان هذا السلوك أهوّن عليه من 
محاسبة نفسه» ولديه وسائل متنوّعة للضغط على المقربّين منه: 
القرّة» مظاهر الجاه؛ المال» والغواية ... فإذا فشلت كلّ هذه 
الأسلحة يسجّل هذه الخلاصة: ” أهتّهك؛ أنت الاستثناء لهذه 
القاعدة. لذا فسوف نراك مرّة واحدة في السنة بمناسبة حفلة عيد 
العرش» شكر الله سعيك ومع السلامة!“ 

في بداية محادثتي مع اليوسفي عام 21997 حدذّرته أنّه رغم 
اعتقادي أن ”التناوب“ يمكنه تحقيق الاستقرار للملكيّة فإنه يظل 
خصمًا محتملًا لعمّي» وهذا يضعني في موقف معنويٌ حرج؛ فلم 
أوافق على التحدّث معه إلا بشرط أن يُخبر الملك» فوعدني أن 
يفعل. على هذا الأساس, تنبَأتُ أنه في حال حصول الاتفاق مع 
الحسن الثاني» سيقتصر دوره على التدبير ولن يكون له نصيب 
من السلطة: ”هل سيكون لديكم هامش كاف للتحرّك, لتغير 
الأمور في إطار هذا الاتفاق الذي سيكتنفه حتمًا بعض الغموض 
وسوف يتحكم فيه الملك على كلّ المستويات؟ 

- ”إذا كان لدي الدعم من الخارجء والأغلبيّة في الانتخابات؛ 
ولو مرقعة شيئًا ما» وديناميّة مجتمعيّة والحقّ في تدبير الملفات 
الرئيسيّة في البلاد» فسأفلح» وهذا سوف يسمح لي بأن أكون 
راسحًا في مكاني عندما تقع الواقعة. “ كان الفرنسيّون قد أطلعوه 
على مرض الملك وتصوّر أن تحكمه في الثلاثي المتمثّل في 


58" 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الحكومة والبرلمان والهيكل التكنوقراطيّ في الإدارة سيقوّي 
موقفه بعد وفاة الحسن الثاني. 

لقد أكد لي ماريو سواريزء الرئيس البرتغالي السابق» والذي 
كنت على صلة وطيدة معه. أن اليوسفي يستعدٌ لتبوّؤُ منصب 
مهم لأنه عرف أن الملك قد أنهكه المرض وأيّامه معدودة. 
كانت في ذهنه سيناريوهات أخرى خياليّة وواقعيّة تدور حول 
مولاي رشيد وإدريس البصري وكبار ضبّاط الجيش. بعد مرور 
الزمن أستطيع القول إِنْ اليوسفي هو صاحب الموؤّهّلات اللازمة 
لتنفيذ استراتيجيّته» لكنه في نهاية المطاف وجد نفسه على رأس 
حزب بعيد عن الواقع. ظهر هّزال الاتحاد الاشتراكيّ طوال فترة 
معارضته للنظام» وهو حزب يفتقر إلى العصب وإلى المناضلين 
الأشداء. حتّى اليوسفي لم يكن صقرًا في نزاله المرتقب مع 
المخزن. أما عن ضعف مقرّبيه وضحالتهم؛ فحدّث ولا حرج؛ 
ألا يكفي أن يكون أحد أقرب المقرّبين له رجلا وفيا ”للأجهزة“» 
يبلّغ القصر عن حركاته وسكناته... والمفارقة هي أن الحسن 
الثاني لم يكن في حاجة إلى ذلك ليتّقي ضربات خصمه السياسيٌ 
بقدر حاجته لمنع إدريس البصري من نسف ”التناوب"“... كان 
الملك يمسك بالأدوات للسيطرة على الاتحاد الاشتراكيّ من 
داخله, للأسفء لم يكن الأمر أصعب عليه من إدخال يده في 


- 


قفاز. 


31 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حصلتٌ على الشهادة من جامعة ستانفورد في حزيران (يونيو) 
27 وبدلا من العودة إلى المغرب» حيث بدأت أجواء 
نهاية حكم الملك الحسن الثاني ترخي بظلالها على البلاد» 
اتتقلت إلى أبو ظبي في دولة الإمارات العربيّة المنّتحدة. كنت 
أشعر أنه لا مكان لي في بلديء الذي قد أحجد نفسي فيه سجيئًا 
لترتيبات التداول المرتقب على العرش. إلتحقتٌ إذن بصديق 
طفولتي الشيخ محمّد بن زايد» دون المرور بالمغرب. ترقبتٌ 
ردّة فعل عمّي فإذا بها إيجابيّة. لا شك أنه شعر بالارتياح لأن 
معه؛ من جهتي كنت مرتاحًا في أبو ظبي وانهمكتٌ هناك في 
مشروع لتربية أسماك 55 البحر والروبيان بطريقة صناعيّة. 
بسرعة أدرجتٌ شركة ”أسماك“ التي أنشأها لهذا الغرض في 
البورصة وارتفعت قيمة أسهمها. من جهة أخرىء أطلقتٌ عددًا 
من المشاريع في إطار نظام “التعويض” المفروض على شركات 
الأسلحة»؛ مثل مجموعة داسوء وعندما أدرجحث تلك المشاريع 
في البورصة جنيتٌ أزباحًا لا بأس بها. كانت علاقتي مع محمّد 
بن زايد قويّة» وكنت أزوّده بالاستشارات بشأن قضايا حسّاسة 
للغاية. أحيانًا كنا نقرّر رحلاتنا فجأة» يوقظني في منتصف الليل 
ويطلب متّي أن أوافيه إلى المطار بعد ساعة فقط, فأسأله ممازحًا 
هل اخذ معي “السيغ سووير” وهو سلاح نمساويء مما يعني 
أثنا سنذهب للصيد في باكستان أو أفغانستان أو أفريقياء أو 


٠ده؟”‏ 50 
الفكر الجديد 


<كجكر 


”السيد رالف“» أي رالف لورين» وفي هذه الحالة فوجهتنا هي 
أوروبا. كنت عنصرًا نشيطا في مؤسّسته الفكريّة» ولديٌّ امتياز 
الاتصال المباشر مع فريق مشاريع التعويض غروبء فأتتبّع كل 
أنشطته. تابعت مشاريع كثيرة على رأسها ”أسماك“ الذي واكبثه 
من الهمزة إلى الياء جوار مشاريع أخرىء أنظم ملفاتها مستفيدًا 
من معرفتي في هذا المجال. ليس هناك أي خرق للقانون إذ إن 
الأسواق الناشية غير مقوتنة إلى حدٌ كبير, كغيري اسعفنات' هن 
الفغرات ومن القُطب المخفيّة... 

في نهاية فصل الصيف» شكلت خطوبة شقيقتي مناسبة للقائي 
العلني مجدّدًا بالحسن الثاني. كان الجو وديّاء ولو أن فريق 
التصوير التابع للتلفاز المغربئّ أخبرني أن الملك أمرهم بعدم 
أظهر على شاشة التلفاز الوطنيّ إلا بعد عامين» بمناسبة جنازة 
الملك. بعد اللقاء في الخطوبة» صرتٌ أزور الحسن الثاني مرّة 
كل شهرين أو ثلاثة أشهر حين أكون في المغرب» وفي أكثر 
الأحيان مع ابنتي الكبرى. لقد أضحثٌ علاقاتنا عائليّة وهادئة. 
كان الملك يكدّر أنه هو الجد ”العلوي” لأولادي» وكأنه يعني أنه 
قد صفح عنّي وأن الماضي بتوّراته عبرة مفيدة عرِّزت علاقتنا. 
لقد أصبح الحسن الثاني نحيف الجسم بعد أن نخّره المرض. كنا 
نتتحدث بحرية عن المغرب» وعن السياسة» وعن تداول المراكز 


ل 2 
الفكر الجدي 


<كجكر 


في السلطة؛ وقد عبّر عن خيبة أمله من هذه التجربة التي» من 
وجهة نظره» أظهرت واقع اليسار» المختلف عن الصورة التي 
شاءها عن نفسه كقوة بديلة. لقد أقرٌ الحسن الثاني مرّة: ”كان 
على أن أدعوهم إلى الحكومة منذ خمسة عشر عامًا“؛ وأضاف 
وهو يستفرّني أن ”أصدقائي“ الاشتراكيّين أناس مبتذّلون» فأجبته 
أنهم لم يعودوا أصدقائي فهم خذلوني لصالح ابنه! 

في نهاية حياته» وعى الحسن الثاني أنه ليس من جيل الإنترنت» 
وأنه غريب عن عالم الشباب الذين يشكلون غالبية الشعب. كان 
يلخص القضيّة هكذا: ”أنا أستطيع أن أفهم فن البيتلز ولكن أنا 


لا أفهم فنّ الراب“. لقد وصل الملك إلى الاقتناع أن ”الحريّة . 


هي الشيء الذي يسحر الناس“»؛ وأنّ مستقبل الملكيّة سيرتبط 
بالحصول على كثير من الحريّات المدنيّة» وقرّر ألا يعرقل السير 
نحو المستقبل» ولو أنه يرغب في إبقاء الأمور هادئة حتّى رحيله. 
لقد استئطن فكرة أنه أصبح اليوم عبئًا على البلاد بدل أن يكون 
عنصر قوّة بالنسبة للمغرب. 

كما اكتشف الحسن الثاني» في الوقت نفسه», محاسن الليبراليّة 
الاقتصاديّة. لقد فاجأنّه عمليّة بيع رخصة الهاتف النقّال التي 
سمحت للدولة أن تجني ١,5‏ مليار دولار» هنا تجدر الإشارة إلى 
أنها من المناقصات القلائل التي مرّت بشفافيّة دون تدخل» ودون 
عمولات» ودون وجود رسالة سياسيّة (على عكس الترخيص 
الممنوح للكنديّين لكي تفهم باريسء في أوج الأزمة الفرنسيّة 


حك 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


المغربيّة 3غ أن المملكة ليست حديقتهم الخاصة). في الوقت 
نفسه الذي أصبح فيه الملك مغرومًا بالليبراليّة الاقتصاديّة بدأ 
يونت خطابه بكلمات مثل ”سينرجي“» أو مصطلحات إنجليزيّة 
مثل ”ليفريج»؛ كما أنشأ مجموعة للتفكير تضم أربعة عشر عضرًا 
(ج »)١5‏ لقد استمتع وهو يكتشف نفسه. ولو متأخرّاء في دور 
الرئيس المدير العامٌ أو الرئيس التنفيذيٌّ للمغرب. 
بدت الانتخابات البرلمانيّة» في تشرين الثاني (نوفمبر) ١91417‏ 
فريدة من نوعها. لم تتميّر بالفولكلور المعتاد» من حشو صناديق 
الاقتراع إلى تصويت الأموات» ولكن هذا لا يعني أنّها لم 
تكن خاضعة للتحكم والسيطرة. فقد عرفت توزيعًا للأموال 
واستخدمت الإدارة نفوذهاء لأنْ النظام له ما يكفي من الخبرة 
والمرونة لكي يمنع ولو من وراء حجابء أن تتشكل أغلبيّة 
واضحة؛ وهكذا يحافظ الملك على وظيفة الحكم. لقد قرأت 
الطبقة السياسيّة في مجملها أن تنائج التصويت عبارة عن ضمانة 
للتداول الذي منحه الملك. ثم ” اا لابين 
غير مريحة ولكنها كافية ليستطيع أن يد: ينشئ ائتلافا حكوميًا. 
في يوم الرابع من شباط (فبراير) /43 ١‏ عُيّن عبد الرحمن اليوسفي 
وزيرًا أوّل لحكومة التداول. بعد بضعة أسابيع» أخذت الزيارة 
الرسميّة التي قام بها للمغرب ليونيل جوسبان؛ رئيس الحكومة 
الفرنسيّة متعطفًا دراميًا. لقد خاطب جوسبان اليوسفيٌ علءًا: 
”إن جميع هيئات الجمهوريّة الفرنسيّة تساندكم"» وكأنّ الرسالة 


مه ؟ 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


معناها: ”إنتهى عهد الملك“". لكن الحسن الثاني أدرك بسرعة 
أن تكنوقراط المعارضة يتلاشون بسرعة بمجرد احتكاكهم 
بالسلطة» فخاب أمله بهم ولم يجد فيهم أي سند يُعوّل عليه. 
لقد طمح أن يساهم الانفتاح على الاتحاد الاشتراكيّ في 
استقرار العرش» ومنح بعض الأوكسجين لنظامه؛ فلا يجد نفسه 
في مواجهة مباشرة مع الشارع. هنا أشعرٌ كأنه» وبعد سنوات 
عديدة» والكثير من الوقت الضائع؛ يعود إلى بدره الطرق 
القديم نفسه عندما تخلّى عن خيار الملكيّة التي تحقّق الإجماع 
وفضّل الملكيّة الشعبويّة. هذا هو ”الفلاش باك“» عندما يلقي 
المرء نظرة إلى الخلف من وراء ثقل السنين» وهذه هي النهاية 
الحقيقيّة لقضيّة بن بركة.. 

بدوريء لم تكن علاقاتي مع الاتحاد الاشتراكيّ جيّدة. كانت 
مصلحة الاشتراكيّين وهم في الحكومة أن يتقرّبوا من ولي العهد, 
وهو فعلًا ما هرولوا إلى تحقيقه؛ وها هو النموذج: لقد دُعيت من 
طرف مؤسّسة بو عبيد بالرباط لإلقاء محاضرة حول التحوّلات 
الديمقراطيّة في العالم العربيّ» وإذا بهم يخبرونني في آخر لحظة 
عن تغيير في البرنامج. لقد عمدوا إلى إلغاء محاضرتي وعوّضوني 
بوليّ العهد سيدي محمّد. هكذاء لقد أراد أن يُظهر أنه الآن 
منخرط في الشأن العامٌ فقبضة والده اخذة في التراخي؛ في ذلك 
اليوم» خرج من الظل على حسابي ‏ واقتحم عالم السياسة. أمّا 
أنا فقد واراني الضباب وأخذتٌ مسافة من المغرب فانطلقت في 


غ ه ١‏ 8 
الفكر الجديد 


<جكر 


بعنات المراقبة الانتخابيّة لصالح مؤْسّسة كارترء أُوَلُا في فلسطين 
ثْمّ في نيجيريا للانتخابات النيابيّة لنيسان (أبريل) .١599/‏ 

ساهم ملفٌ الصحراء الغربية أيضًا في تعقيد نهاية عهد الحسن 
الثاني. طوال مدّة غير يسيرة» اكتفى الملك بتدبير الوقت لكي 
يحضّر على مهل التصويتٌ الحاسم بالنسبة للمغرب وهو 
الاستفتاء حول تقرير المصير في المستعمرة الإسبانيّة السابقة. 
ولهذه الغاية» تمّ تأجيل الانتخابات التشريعية في المملكة لمدّة 
عامين؛ بناء على اقتراح من المُعارض عبد الرحيم بوعبيد» أي 
في دور غير دوره» لدرجة أن الملك أسرٌ لبعض مقرّبيه وهو بالغ 
الابتهاج: ”هذه أجمل هدية أهداني إياها بو عبيد على الإطلاق“. 
إلى حدود عام ١9917‏ اعتقد الحسن الثاني أن المغرب قد 
يربح الاستفتاء» ولم يكن تريّته إلا ليحصل على فوز باهر. كان 
الحساب على النحو التالي: إذا قمنا بالنفخ في عدد الناخبين من 
٠0.0٠6‏ إلى 6٠.٠٠٠١‏ ناخب فإن نتائج الاتتخابات ستكون 
أكثر موافقة لمصلحة المغربء وبالتالي فقد اتخذت العديد 
من الإجراءات لزيادة عدد الناخبين» وتم تكليف المستشارين 
إدريس السلاوي وأحمد السنوسي بمهمّة إقناع الأمم المتحدة. 
أمَا على أرض الواقع» فإن إدريس البصريٌ له الخبرة الكافية في 
التلاعب بالانتخابات في المملكة, بالتنسيق المباشر مع عمّال 
الأقاليم الذين يشتغلون معه. أخيرّاء فإن الجنرال القادري مدير 
جهاز الاستخبارات (الإدارة العامّة للدراسات والتوثيق) يتكلف 


هه" 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بعمل الظل» مثل تجميع المعلومات من مخيمات اللاجئين في 
الجزائر» التي تسيطر عليها جبهة البوليساريوء والتي أضعفها 
التحاق عدد من أعضائها بالمغرب» ولو أنّ هذه العودة لم تكن 
دائمًا نتيجة تغيّر صادق في القناعات بل ساهمت فيها خشونة 
”الأجهزة“. على صعيد آخر» فإن الكشف عن انتهاكات حقوق 
الإنسان في تندوفء العاصمة الصحراويّة فوق التراب الجزائري؛ 
كانت تصب في مصلحة المغرب» فضلًا عن حالة ”الأمر الواقء“ 
التي أنشأها وجود المغاربة الفعليّ في الصحراء الغربيّة. لم يدّخر 
الحسن الثاني أي جهد لتحسين ظروف الحياة في ”الأقاليم 
الجنوبية“؛ فأصبحت أجور القطاع العام هناك تزيد بنسبة 75./ 
عن باقي البلاد» وتم دعم أثمان السلع الأساسيّة» بالاضافة إلى 
إطلاق أشغال كبرى لتزويد المنطقة بتجهيزات البنية التحتيّة. 

في عام ١1517‏ وعلى خلفيّة هذا المشهد» تم تعيين جيمس 
بيكر» وزير الخارجيّة السابق للرئيس بوش» في منصب الممثّل 
الشخصي للأمين العام للأمم المتّحدة في الصحراء الغربيّة. هذا 
الاختيار أزعج الحسن الثاني كثيرّاء لأنه يعلم أنّ هذا اللاعب 
الكبير على الساحة السياسيّة الأميركيّة قادر على أن يضغط عليه» 
كما تفطن الملك إلى أن الأهميّة الاستراتيجيّة للمغرب» لدى 
الولايات المتحدة» تراجعت بشكل كبير» منذ نهاية الحرب 
الباردة. لكل هذه الأسباب بدأ الملك يستعدٌّ لأول لقاءات له مع 
بيكر بدقّة متناهية؛ وكان يخاطب فيه الدبلوماسيّ الأمي ركيّ أكثر 


ال 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


من الممثل الأممىّ» مشدّدًا على الرهانات الجيوسياسيّة لقضية 
الصحراء. فهم جيمس بيكر لعبة الملك» وقد كانت تناسبه هو 
أيضّاء في البداية على الأقل (وهذا ما أكده لي في وقت لاحق» 
بمناسبة لقاء جمعنا في فيينا). كان واثقًا من أن الملك إذا التزم 
معه فسيبقى وفيا لالتزامه. أما بعد وفاة الحسن الثاني» فقد أصابه 
الإحباط من محاوريه المغاربة الجدد إلى أن يئس وقدّم استقالته 
في عام 5 .٠٠٠‏ منذ ذلك الحين إلى اليوم والملفٌ يراوح مكانه 
وسط كثبان الرمل. 

في ١4‏ تموّز (يوليو) عام 95349١»؛‏ كان الحسن الثاني ضيف 
الشرف خلال الاستعراض العسكري» على جادّة الشانزليزيه 
بباريس بمناسبة العيد الوطني الفرنسيّ» وهي هديّة حرص 
الرئيس جاك شيراك على أن يقدّمها للملك في خريف عمره. منذ 
عدة شهور وعمّي يعرف أنه يحت الحُحطى إلى قدره المحتوم. 
عندما كان الملك حسين يحتضر في شباط (فبراير) الماضي» 
تابعنا جميعًا على شاشة سي. أن. أن. تلك اللحظات الأخيرة. 
كانت واحدة من المناسبات النادرة التي رأيت فيها عمّي يذرف 
الدموعء فقد تأثر متأمَلُا نهاية حقبة بأكملهاء حقبته هو أيضاء 
رأى وهو متعب موئّه في موت الملك حسين ملك الأردن. رغم 
ذلك فلا أحد يجرؤ على أن ينصحه بالتقليل من العمل والخلود 
للراحة. عندما كسرتٌ هذا التابو» قال لي بنظرة ثاقبة: ”أنا الملك 
وهذه وظيفة تستغرق الوقت كله. أنا لا أبحث عن المبدرات 


/اه؟ 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لأنسلخ من مسؤوليّتي يومًا لأني متعب» ويومًا آخر لسبب آخر 
ويومًا ثالنّا لسبب ثالث أو رابع. متى ستفهم أني أعاملك باستثناء 
فريد عندما أطرح موقّنًا جبّة الملك» لأكون عمّك فقط وبكل 
بساطة؟”“ طوال حياته؛ لم يتناول الحسن الثاني حبوباً منوّمةٌ أو 
مسكناك» آراه أن يحافظ على ينظتة الذهنية نيّة في جميع الأوقات 
ولم يستفن لحظات الألم» ولم يتناول الفيتامينات ولا المكمّلات 
الغذائية. شجاعته الجسديّة تركته يواجه الموت برباطة جأاش 
ودون أدنى جزعء بيد أنه تحمّل وحده الثقل الرهيب وهو ينتظر 
أجله. 

في مساء يوم الثاني والعشرين من شهر تمّوز (يوليو»؛ كنت 
بباريس» حين وصلني خبر إدخال عمّي إلى قسم العناية المركزة. 
تمكنت من الاتصال برئيس فريقه الطبئ فأكّد لي النبأء فأجبته: 
ادناه ساكرن علق اول طائرة سحي إلى المترياك تكن 
الحسن الثاني» الذي ما زال في أتم وعيه» أمسك السمّاعة من 
يد الطبيب ليقول لي: ”لا تتسرّ ع» انتظر» غدًا تأتي“: ثم أعاد 
السمّاعة للطبيب فسمعته يردّد: ”قل له لداعي للهلع؛ فليأت غدًا 
بكلّ هدوء. “ حجزتٌُ على رحلة الغد بعد الظهر. في يوم الثالث 
والعشرين؛ وأنا أتناول طعام الغداء مع غسّان سلامة» اتتصل بي 
على الهاتف سيدي محمّد, ولم نكن قد تحدثنا منذ مدة طويلة: 
”عمّك متعب جذَّاء إحضر من فضلك“"» فسألته المزيد من 
التفاصيل فقال: ”نحن نحاول إنقاذه هنا في المستشفى» ولم 


54 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أخبر أحدًا إِلّا أنت والوزير الأوّل لأسباب سياسيّة.“ في الواقع» 
لم يكن سيدي محمّد يعرف أنني في باريس» وفي صباح اليوم 
نفسه طلبت من الشيخ زايد أن يمن سفري من أبو ظبي إلى 
المغرب» وقد حطت بالفعل طوّافة في أرض خلاء بالقرب من 
داري في الإمارات العربيّة المتّتحدة. 

وصلتٌ إلى القصر جوار الساعة السابعة والنصف مساءء. وفهمت 
بمجرّد وصولي أن الحسن الثاني قد توفي. لفت انتباهي حادث 
غريب: رأيثٌ اثنين من عناصر الدرك في فرقة حرّاس الملك 
المقرّبين يمسكون إدريس البصري في أحد المكاتب ويهدّدونه 
على بعد أمتار قليلة من الجنرالين عرّوب وبنسليمان» وسمعتٌ 
البصري يصيح: ”أوقفوا هذا الاستفزاز! على رسلكم! ني وزير 
الداخليّة!“ فاستفسرتُ الجنرال عرّوب» فأجابني إِنّه إجراء 
وقائيّ؛ فأشرت إلى أن هذه الطريقة سيّئة للغاية» وأنْ وسائل 
الإعلام العالميّة في حالة ترقب وإن علمت بالخبر ستعطي صورة 
بائسة عن الملكيّة. مات الملك الذي كان يحمي البصريّ» وها 
هو وزير الداخلية يتلقّى الضربات بعدما أسرف في تسديدهاء 
فسبحان مبدّل الأحوال. 

في وقت لاحق» وعندما تفاقم سوء التفاهم بيني وبين الملك 
الجديد محمّد السادسء الذي لقب ”بأم. >“, راودني هذا 
التساؤل: ألم يسارع وليّ العهد طالبًا قدومي على وجه السرعة 
كي أبايعه أَوّلّا ثم يُنحَيني جانبًا بعدها؟ لقد طرحتٌ هذا السرؤال 


8" 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


لأنّ حضوريء بالنسبة إلى من يتذكرون تاريخ سلالتنا ذو أهميّة 
بالغة: بعد وفاة محمّد الخامس المفاجئة» وفي انتظار الكشف 
عن ملابساتهاء وقّع والدي عقد البيعة ولكنّه رفض حضور 
المراسم التي أعقبتها. مع ذلكء فإِنّ المعلومات التي استقيتها 
تؤكد أن محمّد السادس لم تكن لديه أيّة نيّة مُضمَّرة للانتقام من 
التاريخ. لقد قمثٌ بالتحرّي مع أطباء القلب في مستشفى ابن 
العهد عبر الهاتف كان مطابقًا للواقع بالتمام والكمال. 

عند الساعة العاشرة ليلا وقعتٌ مع الآخرين عقد البيعة» في قاعة 
العرش؛ تعمّدتٌ ألا أرتديّ الجلباب» وهي طريقتي للتعبير عن 
ني عابرٌ ليس إِلاء فكنثٌ الوحيدٌ الذي يرتدي البذلة. صحيح أن 
الأمر شكليّ لكنّه ينم عن حدس وعن قناعة عميقة بأنني سأبعّد 
عن هذا العالم. هناك أيضًا تفصيل آخر يعبّر عن مزاج المخزن: 
لا أحد يحمل معه قلمًا للتوقيع. حتّى البروتوكول أغفل الأمر! 
مرّت برهة قصيرة» وفي خضمٌ الشعور العام بالحرج, اقترحتثٌ 
قلمي؛ وهكذا سُطر بمدادي التوقيعٌ على نص البيعة الذي يجدّد 
سأتوقف هُنيهة عند البيعة ورمزيّتها في الثقافة الإسلاميّة إِنّهِ اتفاق 
تعاقديّ بين أمير المؤمنين وأهل الحلّ والعقد, فهو إذن تطبيق 
محليّ لإجراء مألوف في جميع أنحاء العالم: إِنَّ المتعاقدين هم 
صفوة المجتمع؛ أولئك الملأ الذين يضعون في الميزان ثقلهم 


36 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الاجتماعيّ. فالتقليد قبل الماريشال ليوطيء أن يكون لكل مدينة 
كبيرة من يمثّلها ولكلّ مركز حقيقيّ في السلطة من يمثّله» وبالتالي 
فعقد البيعة موعد جليل للأخذ والعطاءء ثم أفرغت المناسبة 
من مضمونهاء ولم تعد مسبوقة بالمفاوضات, فلم يبق منها إلا 
استدعاءٌ يتبعه على الفور توقيعٌ عقد للقبول دون أدنى نقاش. 
أرى أن نعود إلى بيعة تعاقديّة لا تُوقّع إلا بعد التفاوض حول 
شروطها. في المغرب المثاليّ» سيكون لهذا الطقس قوّة رمزيّة 
تمنحها المؤسّسات المنتخبة بددًا بالبرلمان. إِنْ العودة إلى 
التقاليد ستشكل في الحقيقة نوعًا من التقدّم نحو مجتمع أكثر 
ديمقراطيّة» ومتجذّر في تقاليده. في هذه الحالة أقترح أن تشمل 
البيعة النساء؛ لأنهن اليوم غائبات عنها باستثناء الوزيرات. 

هل يُعتبر تعديل البيعة مسا بالمقدس؟ لا أعتقد ذلك. في التقاليد 
الإسلاميّة» هو من الطقوس الروحيّة التي تشمل البعد الالهيّ. 
بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام» برزت عدّة تأويلات 
حول الشكل الذي ينبغي أن يأخذه الحكم الرشيد المستوحى 
من نموذجه. هناك من قال بوجوب اختيار خليفة واحدء وهناك 
من قال بإمكان تعايش عدّة خلفاءء وهناك أيضًا من رأى أن لا 
حاجة أصلا إلى قيادة سياسيّة. أخيرًاء تم ترجيح شكل من أشكال 
الخلافة من أجل ضمان بقاء الأمّة بفضل سلطة موحدة. وهكذا 
فما الغرابة اليوم إذا أعدنا رسم ملامح الشكل المثاليَ للحكم 
السياسيّ في إطار الاإسلام؟ 


3 2 
الفكر الجدي 


<كجكر 


خلال الساعات التي تلت وفاة الحسن الثاني كنا زهاء خمسين 
رجلا يفترضٌ أنّنا نجسّد قوى الأمّة الحيّة: الأمراءء مولاي رشيدء 
أخي وأنا؛ الوزراء وكبار موظفي الدولة» كبار الضبّاط والعلماء. 
في وقت لاحقء هناك من لامني لأني قبّلتُ ابن عمّي الملك 
الجديد بدلًا من تقبيل يده. لقد فعلتٌ ذلك عفويًا ودون ترتيب 
مسبق» والصحيح أيضًا هو أنْني منذ مدّة وأنا أعتبر تقبيل يد الملك 
من الجانبين حركة مهينة ينبغي حذفها. لقد سبق للحسن الثاني 
أن غضب على مدة سنّة أشهر لأثني لم أقبّل يده وجهًا وبطتّاء ثم 
شرح لي سيدي محمّد سبب الغضب. بالنسبة إليّ ما من فرق بين 
تقبيل يد الملك من جانب واحد أو من الجانبين. ومع ذلكء اعتبر 
الحسن الثاني الأمر طقسًا أساسيًا. عندما يستاء من أحد فإِن أقصى 
درجات العقاب ألا يسمح له بتقبيل يده فيسحبها منه على الفور 
قبل أن يستطيع المغضوب عليه إمساكها. أما أناء فقد جاء عقابي 
أخف, إذ قدّم إل الملك يده مقبوضة غير مبسوطة؛ فاضطررت 
إلى جذب أصابعه واحدًا واحدًا لتنبسط اليد! الخلاصة أنه في لغة 
السلطة يُعتبر تقبيل اليد من أعقد التعابير البلاغيّة. إذا ترك الملك 
يده لأحد خذامه يقتلها على مهل فتلك علامة الرضاء أمّا إن 
سحبها بسرعة فهذا نذير سوء. عندما بدأ ”التناوب“ كان الملك 
يعلم أنّ الوزير الأول الاشتراكيّ عبد الرحمن اليوسفيّ لن يقبّل 
يدهع فتقدّم صوبه فاتحًا ذراعيه... هناك أيضًا ”متمد“ مفترض 
آخرء إنه الصدّيق بليماني» نائب رئيس شركة بوينغ» والذي 


1 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يحمل الجنسيّتين الأميركيّة والمغربيّة» حيث تعامل معه الملك 
بشكل استباقيّ فأوعز إلى البروتوكول: ”قولوا له إن سيدنا فخور 
جدًا بنبجاحك لدرجة أنه يأمرك ألا تقبّل يده. “ هذه الوقائع تبرز 
كلّها إلى أي درجة بَرَعٌ الحسن الثاني في استغلال هذا التقليد 
الذي يجسّد الخضوع.ء والذي تبثاه ابنه وخليفته بمجرّد ما وضع 
قدميه في نعال السلطة. 

عند الخروج من مراسم التوقيع على البيعة» نشبت مشادّة كلاميّة 
بيني وبين زهاء عشرة معارضينء منهم الاستقلاليٌ محمد بوستة 
وهو سياسيّ متمرّس وواقعيّ يتحلى بروح الدعابة. بادرني بوستّة 
قائلًا: ”ما هذه الممارسات التي تجاوزها الزمن؟ كان الأحرى 
أن يجري هذا التوقيع أمام البرلمان! سوف ترى العواقب.“ من 
جهتي دافعتٌ عن النظام الملكيّ: ”لن يبدأ الإصلاح بالتشكيك 
في سلطة الملكء لا بدّ له من أن يرسّخ حكمه. “ كنتٌ الوحيد من 
العائلة المالكة الذي يوابجّه بهذه الطريقة العنيفة من طرف أولئك 
السياسيّين» وكأنهم يريدون اينسفان اها ادنوه عن لوانا: 

على الرغم من هذه الحركة الدووبة» أحسستٌ بفراغ كبير في 
نفسيء كما لو أن بوصلتي فقدّت الاتجاه فجأة. عند الساعة 
الواحدة ليلاء قرّرت العودة إلى القصر, إذ وضع جثمان الحسن 
الثاني في القباط» في قلب القصرء حيث يصل إليه الأقرباء بحريّة» 
وتسمّى هذه القاعة قبّة سيّد أحمد البخاري» وهو محمّد بن 
إسماعيل البخاري صاحب كتاب الأحاديث النبوية المشهور» 


ركس 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


صحيح البخاري. هذا المكان هو مركز السلطة» قاعة من ثلاثين 
مترًا مربّعّاء زخارفها بسيطة وكأنها تعبّر عن سلالة لا تنال منها 
تقلبات الأيّام. هّنا يبدأ الاحتفال بعيد العرشء فلا يدخلها الملك 
إلا مرتديًا زيّه الرسمي؛ ويعود مساءً لقراءة القرآن؛ وهنا تُلتتقط 
الصورة الرسميّة كلما تزوج أحد أفراد العائلة الملكيّة. في تلك 
الليلة» اقتربت متي امرأتان لا أعرفهما وسألتني إحداهما بصوت 
خافت: ”مولاي هشامء قل لنا الحقيقة» هل مات حمًا؟" بالنسبة 
إليهما وكذلك بالنسبة إلى كثير من المغاربة» وبعد حكم دام ثمانية 
وثلاثين عامّاء يُعتبر رحيل الحسن الثاني من المستحيلات. 
وأنا أغادر المكانء التقيتٌ محمّد السادس وهو يهم بالعودة 
إلى بيته للنوم» فقلت له: ”لا يمكنك الذهاب إلى سلا! أنت 
الآن ملك؛ وعليك أن تقضيّ الليلة هنا.“ حدّق بي ولم ينبس 
ببنت شفة» وبقي في القصر. عدت إلى بيتي مرهقاء وأخبرت 
زوجتي الحامل بابتتنا الثانية: ”لست متفائلاء إن الاصطدام 
بيني وبين سيدي محمّد أمر لا مفرّ منه. في الحقيقة أريدهم أن 
يطردوني. أشعر بانطلاقة خاطئة؛ وأن الأمور تمضي حسب منطق 
الاستمراريّة بدل منطق القطيعة» ولا أعتقد أني سأصبر عدّة أشهر 
أو سنوات في ظل هذا الانفصام المرّضيّ» فلو بُتر رأس المخزن 
سينمو له آخر وبسرعة. إنه يحيط بنا من كل مكانء ويريد أن 
يعيش وسوف يلتهمناء ما العمل؟” 

شعرت بالعذاب» وأعلم أنه من واجبي أمام التاريخ والمغاربة 


53 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


أن أطلع ابن عمّي على ما يدور في خلديء فعزمتٌ على الوفاء 
بهذا الالتزام» على الرغم من أن فرص تحسين علاقتي مع محمّد 
السادس بعد وفاة والده تكاد تكون منعدمة. الملك الجديد 
سيفرض نفسه» وقد كان ساكنًا لمدّة طويلة بينما كنت أتحدث 
بصوت عال في الأماكن العامّة للوقوف في وجه الحسن الثاني» 
والآن قد حان وقته. بغضٌ النظر عن مشاعر أحدنا إزاء الآخر» 
فإِنَ منطق المواقع يحتّم علينا الخلاف. لقد حرف منطقٌ مصلحة 
الدولة مساراتناء واستمرّت في التباين مع مرور الأيّام. 

لقد فاجأنا الحسن الثاني حنّى بعد موته» حيث اعتقدنا جميعًا 
أنه سيدفن في المسجد الكبير في الدار البيضاء الذي يحمل 
اسمه. لكنّ رغبته الأخيرة هي أن يرقد في الضريح الذي دفن فيه 
والده وشقيقه في الرباط. قبل بضع سنوات» يوم كان الملك في 
أوج سلطته وجبروته» مليئًا بنفسه؛ كانت رغبة من هذا القبيل 
أمرًا لا يُتصوّرء لكن الحسن الثاني عندما اقترب أجله تواضع 
وفضّل أن يوارى الثرى جوار محمّد الخامس. يوم ١5‏ تمّوز 
(يوليو) »١594‏ أقيمت للملك جنازة استثنائيّة» مثل صاحبهاء 
فحضرها كل من الأمير تشارلز من إنجلتراء وملوك الخليج 
وأمرائه» والرئيس بيل كلينتون» والرئيس جاك شيراك...أمواج 
بشرية في حالة هستيريّة وتنظيم فوضوي. لقد فقد الشعب أباه 
وملكه وأميره وأيضًا حاكمه المستبد. رحل كل شيء معه؛ ولو 
أن محمّد السادس حظي بالقبول فورًا كملك جديد» ومحاور 


53 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لرؤساء الدول الأجنبيّة» وأمل للشعب المغربيّ. 

لقد تظهّرت وسط تلك القبّة إنسانيّة محمد السادس» حيث 
سْجَِيَ جثمان الحسن الثاني في انتظار دفنه. أخذ الابن يلامس 
رأس والده برفق» في حركة لم يكن ليتجرّأ عليها أبدًا في حياته: 
وقد تأَنْرتُ بهذا المشهد وسالت دموعيء كما أبصرتُ الابن 
وهو يرتدي لباس المُلكء وقد جعل منه التسلسل العائليّ وريثًا 
للحكم؛ يمارس السلطة ويجسّدها حدّ التماهي. 


غداة يوم الجنازة» استجمعتٌ شجاعتي وذهبتٌ للقاء محمّد 
السادس في القصر لأصارحه برأبي في النظام الملكيّ؛ والمخزن» 
وحول الجيش والتناوب. بحضور وجهاء القصر والأسرة» خلال 
حديث عفويء قلت له إِنَّ ثروة العائلة المالكة يجب أن تعود إلى 
الأمّة» وناشدته ألا يعطيّ أيّة ضمانات لجنرالات الجيشء وألا 
يعقد اجتماعاته في مقرٌ القيادة العاثة للقوّات المسلحة: 32-0 
أن تكون شمال أفريقيا كلها محكرعة ين غارف السك رتب ؟ : 
كما طلبتٌ منه تنحية إدريس اللسززى بن ينا جحت عله 
لأجل تعزيز انفتاح النظام على اليسار. لم يجبني محمّد السادس 
وظير كانه لايدري :ها يقول» وتكتي أن أكلمه عل القراد, 
تكفّل الوجهاء الحاضرون بتقويض كل طروحاتي واقتراحاتي 
بقوة» مع احترام | اللياقة. مع ذلك» فإن الخطاب الأول لمحمّد 
السادس» الذي كلف بصياغته عبد الهادي بوطالب» جاء يعكس 


كك 2 
الفكر الجديد 


<جكر 


وجهات نظريء وقد ألقاه يوم ٠٠١‏ تموز (يوليو) بمناسبة عيد 
العرش, لكنّ النبرة تغيرت في خطاب ٠‏ اب (أغسطس». ويا 
لها من مفارقة»؛ بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب. جاء هذا 
الخطاب رجعيًا بلا مواربة لأنّه أعلن استمرارية المخزنء أو بدقة 
أكثر» إعادة ترميمه على أسس جديدة. من جميع السيناريوهات 
التي توقعتهاء كان هذا هو الأسوأ. 

فيما يخصٌ وضعيء بدا لي أن القرار قد حسم من قبل. داخل 
القصر, ما إن طرحتٌ على الملك أفكاري حتّى سقطت من أعين 
الكثيرين» وأصبح الجميع يتجتّبني كقنبلة قابلة للانفجار في كل 
لحظة» فأحسستٌ بعدم الارتياح. لم يَطل الانتظار» فبعد ثمان 
وأربعين ساعة من التعبير عن موقفي, أبلغني مدير البروتوكول 
الملكيّ» عبد الحق المريني» أنه تلقَّى تعليمات ليزورني في البيت 
مع وفد يضم واحدًا من أبناء عمومتناء مولاي عبد الله. عندما 
دخلوا إلى الدار» قال مدير البروتوكول: ”أنا مكلّفٌ بإبلاغكم 
رسالة من صاحب الجلالة؛ وما أنا إلا مُبلْْ وقد التمستٌ إعفائي 
من هذه المسؤوليّة. إِنَ جلالة الملك يطلب منكم الكفٌ عن 
زيارة القصر الملكىّ ما لم يجر استدعاؤكم. لقد تسببتم له بما 
يكفي من المتاعب“. لم تدهشني الرسالة. إنتابني مزيج من 
الارتياح العميق والشعور بالإساءة. تدخحل مولاي عبد الله مقاطعًا 
مدير البروتوكول: ”إخرس, إِنْ حديثك لطيف أكثر من اللزوم. 
مولاي؛ أنت مزعج. فَالْرّعْ بينك!“» فأجبته أن لا حاجة للإصرار. 


5 25 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حرصت على ألا أشبه هؤلاء الذين أتوا لإهانتي في عقر داري» 
واقترحت عليهم الشايء أنا المتمسّك بكرم الضيافة المغربيّة. 

في اليوم التالي» اتصل بي مجدّدًا مدير البروتوكول ليخبرني 
أن وفذًا ثانيًا سيزورني» ويضم رشدي الشرايبي» مدير الديوان 
الملكىّ» وفؤاد عالي الهمّة» زميل الملك محمّد السادس أثناء 
الدراسة وصديقه المقرّب. الذي خاطبني قائلا: “إن جلالة 
الملك يعتقد أنّ أفراد عائلته لم يوقّقوا في إبلاغكم رسالته وفقًا 
لتعليماته» ولذلك سنعيد إبلاغها لكم بشكل مختلف. إن صاحب 
الجلالة يقول لكم إنه سيطلب لقاءكم عند الحاجة» ونحن في 
خدمتكم.“ إختلق محمّد السادس إشاعة وسرّبهاء ومفادها أني 
ذهبت إلى الديوان الملكىّ وطلبتٌ قائمة مستشاري الملك 
الجدد لمعرفة من يصلح من وجهة نظري بالطبع للمنصب من 
بينهم. بعبارة أخرى, لقد مارستٌ نوعًا من التدخل في اختيارات 
الملك الجديد. وتضيف الإشاعة أنْ زيارتي المفترضة إلى 
الديوان الملكيّ قد نقلتها زوجة مولاي عباسء التي تعمل هناك» 
ومولاي عباس ضابط في الحرس الملكيّ؛ وهو علوي وزوجته 
علويّة» فشهادتها مصدر ثقة. لا يهم بعد ذلك إن تدخل مولاي 
رشيد لدى أخيه الملك ليقنعه أن هذه الإشاعة لا أساس لها. فهو 
لم يفلح ولكنّه برهن ذلك بتصرفه الودود معي فضا عن كون 
فكرة السعي إلى مراقبة عمل الملك لم ولن تخامر ذهني أبدًا. 


على كل حال فمحمّد السادس يبحث فقط عن ذريعة لإزاحتي من 


58 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


المشهد وها هي بين يديه. ما العمل إذن في ظل هذه الظروف؟ 
كان ردي على الوفد: ”امتيازي الو يد ري 
وها أنا أعيده إليكم. تفضلوا واحملوه معكم.“ شعر المبعوثان 
بالحرج؛ وابتعدا قليلا ليتكلمًا بسرعة عبر الهاتف في ركن 
الالو ن ثم أعادا إليّ الجواز. 

توفي ا الثاني يوم الجمعة ودُفن يوم الأحد. يوم الاثنين 
صارحتٌ خليفته بكل ما يخامرني» وبعد ثمان وأربعين ساعة؛ يوم 
الأربعاء» أبعدت عن القصر. أسبوعًا بعد وفاة الملكء أدَى محمد 
ايناس صالذة التحمطةء لا( اكهرة بعكم بلك و كيت دووف 
إلى المسجد لأداء هذا الواجب الدينيّ ولكني لم أمكث إلا قليلًا 
لأنه طلب مني ألا تطأ قدماي القصر. مساءً» اتصل بي عبد الرحمن 
اليوسفي وهو في حالة ارتباك» فذهبتٌ لرؤيته. أراد الوزير الأوّل 
أن يعرف لماذا لم أرافق الملك», وعاتبني لأني تجاوزت الحدودء 
ولأنَ محمّد السادس بحاجة لمن يُطمئنه. هنا أعدتٌ عليه القصّة 
التي رويتها لمحمّد السادس ثلاثة أيام بعد وفاة الحسن الثاني» 
وهي حوار دار بين والدي ومحمّد الخامس بعد القطيعة بين 
مولاي العربيّ العلوي والسلطان . سار آنذاك مولاي عبد الله عند 
أبيه وقال له: ”لقد سجنتم جميع المعارضين من الحركة الوطنيّة 
ألا تظنون أنكم قد تماديتم؟“» فأجابه والده الملك: ”مغلوب أناء 
جبّة الحكم لا تُفصّل إلا على قياسات محدّدة؛ بمجرّد ما ترتديها 
تلتصق بلك فانت اللقيه واللقب آنت".: 


58 1 
الفكر الجدبد 


<جكر 


بعد وفاة الحسن الثاني افترضت أنه على عبد الرحمان اليوسفي» 
الوزير الأوّلء» أن يطالب الملك بمزيد من الديمقراطيّة» ولكنّه 
قال لي عدّة مرّات: ”علي أن أنتظر.“ وخلافي معه يختصر 
بكلمات قليلة: ”الانتظار هو الفشل. “ 

مكنتٌ في المغرب أربعين يومًا احترامًا لفترة الحداد على عمّي. 
لقد المني أن يعاملني ابن عمّي بهذا النفي الظالم, بينما أنا مقتنع 
بصواب الخيار السياسيّ الذي أدافع عنه. في اليوم التالي للذكرى 
الأربعينيّة» غادرتٌ المغرب وأنا مصمّم على بدء حياة جديدة في 
مكان آخرء ولكن دون أدنى شعور بالانكسار. سافرت أُوَّلّا في 
رحلة عمل إلى لندن حيث طرح على السوال بالطبع عن حالة 
المغرب وعن دوري في مملكة محمّد السادس. على الرغم من 
الأصداء التي تناقلتها الصحافة» لم يصدّق الناس أني حقا مُبعَد 
بل يتصوّرون أن هناك تقاسمًا خفيًا للأدوار. أمّا أنا فأعلم حقيقة 
الأمر. سافرت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة لأرتاح بضعة 
أيام قبل التوبحه نحو الشرق الأوسط في شهر اب (أغسطس) 
8 لكي أنهي إطلاق مشروع كنت قد بدأت العمل عليه 
منذ عامين في أبو ظبي: إنشاء شركة للطاقة قة الخضراء المتجدّدة. 
قمت بتأسيس شركة تحت اسم ”الطيّار للطاقة“» ولعله اسم 
يكس عاق اعد اللالدر أو يشير إلى مستقبلي كرجل أعمال 
مستقل. 


رأيتٌ محمّد السادس آخر مرّة في أيلول (سبتمبر) ١5358‏ 


0 0 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


بمناسبة حفل عقيقة ابنتي. لقد طرق باب منزلي وقال: ”ماذا ألم 
يحتاج للدعوة» ولذلك فهو في بيته كلما حل ضيقًا علىّ. لم أكن 
أتصوّر إلى أي حدٌ ليس العكس صحيحًا. 


اام" 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الفكر الجديد 0 
21 


الفصل الخامس 
مكائد 


لا سيّد على الملوك إِلَّا الزمن» إن طول مدّة الحكم أو قصرها 
يقوّي الملكيّة أو يضعفها. عند رحيل ملك ومجيئ آخرء يبدأ 
عهد جديدء فتنتهي دورة زمنيّة وتنطلق دورة أخرى بإيجابيّاتها 
وسلبيّاتها. كما أن لحظة انتقال المُّلك تُعدّ فترة استراحة لأفراد 
الحاشية» تمامًا كما يستريح الممثّلون إذ ينتقلون من مسرحيّة 
أنهكها الزمن ليتكيّفوا مع أدوارهم في مسرحيّة مخرج جديد. 
هذه لحظة حسّاسة. إذا هتف أحدهم ”عاش الملك!“ بينما 
السلف لا يزال حيّاء يكون عقابه الاستبعاد. بالمقابل فإن المبالغة 
في إظهار الولاء للملك المقبل والتأهَبٍ لخدمته قد تجلب منافع 
بحشة» وخاصّة لمن ليس له كرامة ولاعرّة نفس. 

في يوم 7 نيسان (أبريل) 2١19/7‏ أي خمسة عشر شهرًا 
بالضبط قبل وفاة الحسن الثاني» أتى لمقابلتي بشير بن يحمد؛ 


رذق 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


موؤْسّس ومدير مجموعة جون أفريك الإعلاميّة» في أحد مقاهي 
باريس. كنت أعرف الرجل من قبل لأني سبق أن ساعدته أكثر 
من مرّة. 228 نسخة من آخر مجموعة من افتتاحيّاته 
المعنوّنة: ”هذا ما أعتقد“ وقد طبعها في كتاب بعنوان: في 
مواجهة الأزمات. كانت النسخة ممهورةٌ بإهداء ودّي مكتوب 
بخط يده: ”هذه النسخة من في مواجهة الأزمات مهداة للتعبير عن 
الصداقة الأخوّية مع رجل عاش وسيعيش المواجهات؛ وكذلك 
لمواكبة مصير سيكون, على ما أعتقد, في مستوى طموحاته“. 
في اليد الأخرى كان بشير بن يحمد يمسك رسالة مؤرّخة في 
اليوم نفسه. تقول: 

“صديقي العزيز» 

أنا بحاجة إلى قرض بمبلغ ” ملايين دولار بفائدة عاديّة (زهاء ه 
/) يُسدّد على مدى خمس سنوات ابتداء من كانون الثاني (يناير) 
0١‏ 50 قسطا شهريّاء مبلغ الواحد 0.0.0.٠‏ دولار» 
بالاضافة إلى الفائدة) وذلك لاقتناء العقار حيث مكاتب مجلتنا 
جون أفريك منذ ما يقارب العشر سنوات» ومساحته ١٠٠١‏ متر 
مريّع وهو في الحي السادس عشر بباريس» وعنوانه /اه مكرر 
شارع أوتوي. 

يقع العقار في أحد الأحياء الراقية في باريس (أوتوي)»؛ وهذا 
ثمن منطقيّ يناسب الأسعار في السوقء وبما أن الأزمة 
العقاريّة اقتربت من نهايتهاء فسوف ترتفع قيمته كثيرًا في 


37" 8 
الفكر الجديد 


<جكر 


السنوات المقبلة (انظر التوصيف المرفق). 

أرجو من سيادتكم التفضّل بإقراضنا هذا المبلغ أو مساعدتنا 
لأجل العثور على هذا القرض بضمانتكم. 

أنا أعلم أتكم قادرون» ولهذا السبب أتوجّه إليكم بهذا الطلب 
وأنا مقتنع بأنكم لن تألوا جهدًا في مساعدتنا. 

سيبرم عقد القرض تحت إشراف المحامين وكتّاب العدل» 
وسيحصل مانح القرض على كل الضمانات بما فيهاء إذا لزم 
الأمرء الرهن العقاري على المبنى. 

وهكذا فإن مانح القرض سيكون لديه اليقين المطلق أنه سيستردٌ 
رأسماله عند نهاية المدّة. كما يمكن أن يُمنح القرض إمّا لفائدتي 
شخصيًا أو لفائدة شركة سيفيجا القابضة صاحبة مجموعة جون 
أفريك» بحسب اختيار مانح القرض الذي سيحصل على ضمانة 
الاثنين“. 

ثم أرفقت الرسالة باسم المكتب القانوني الذي اختاره بشير 
بن يحمد لتوثيق العقد, وأخيرًا هذه الفقرة الأخيرة قبل توقيعه: 
”إذا وافقتم» كما أرجو ذلكء على طلبي هذاء يمكننا مباشرة 
الإجراءات خلال شهر أيّار (مايو)» وفي هذه الحالة سوف أكون 
ممتنًا لكم على الدوام“. 

سألخص بقيّة الأحداث: لم أجتهد للعثور على ” ملايين 
دولار خلال شهر واحد لتتمكن مجموعة جون أفريك من 
امتلاك العقار الذي يوي مقرّهاء وبالمقابل لم يتكرم على 


1 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


البشير بن يحمد بشكره الدائم» فلا شكر ولا صفقة. 

في أيلول (سبتمبر) 2١939‏ شهرين بعد اعتلاء محمد السادس 
العرشء اندلعت تظاهرات في الصحراء الغربيّة» فقام وزير 
الداخلية إدريس البصري بقمعها بشدة» وبعد ذلك قرّر الملك 
الشابٌ تنحيته من منصبه. لكنّ هذا الإبعاد لا يجيب عن السوؤئال 
خول نا سيهة ةلو أذ السشري عي "صصراو": علا أن 
هذا الملث الشاتك ما وال تائهًا ولا حل له« في الأفق. خلال 
لقائي الأخير مع المعارض عبد الرحيم بوعبيد» قُبيل وفاته في 
العام 5غ قال لي: ”إن مشكلة الصحراء لن تجد حلا إلا 
إذا أصبح المغرب كله ديمقراطيًا". أعتقد أنّه كان على صواب» 
وعندما أتحدّث مع من أعرف من الصحراوبّين» هذا ما يعبّرون 
عنه باقتضاب: ”لماذا تريدون دمجنا بالمغرب؟ ألا تكفيكم 
مشاكلكم الاجتماعيّة» وفسادكم وانعدام الديمقراطيّة. نحن 
نملك الموارد الطبيعيّة وتعدادنا السكاني ضثيلء لسنا مديونين 
ويمكننا بناء دولة قابلة للحياة تلتزم القوانين الدوليّة» بما فيها 
الحماية ضدٌ تجاوزات قادتنا.“ ' كل هذا صحيح, والحلّ الوحيد 
المستدام هو قيام ديمقراطيّة حقيقيّة في المغرب. 

قبل الحسن الثاني بعد كيقما نظرنا للمشاكل التي يعيشها 
المغرب وكيفما قلبنا أسئلته الحارقة» من الصحراء الغربيّة إلى 
الصحوة الأمازيغيّة» مرورًا بمعضلة الفساد. نصل أبدَّا ودومًا 
إلى الخلاصة نفسها: لا يمكن العثور على أيٍّ حل دون إعادة 


5" 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


صياغة الميثاق الاجتماعىّ في أفق إرساء ديمقراطيّة حقيقيّة. إِنَ 
الاستقرار السياسيّ والازدهار الاقتصادي لبلدنا» وحتّى وحدته 
الوطنية» كلها مرتبطة بهذه العمليّة. 

كانت المسافة التي أخذتُها من المغرب سنة ١199‏ مناسبة 
للتفكير والتأمّل في مستقبل الملكيّة. لم تتغيّر قناعاتي فواظبت 
على التعبير عنها في الفضاء العام. في الأوّل من كانون الأول 
(ديسمبر) ألقِيتٌ محاضرة عنوانها: ”تحدّيات الديمقراطيّة في 
العالم العربيّ“ بالمعهد الفرنسيّ للعلاقات الدولية إيفري في 
باريس. إنتقلثُ نخبة الرباط إلى العاصمة الفرنسيّة واحتشد 
مئات الأشخاص في قاعة لا تتسع لمثل هذا الجمهور. حاول 
سفير المغرب في فرنسا التدخل لإلغاء الحدثء أما عناصر 
الاستخبارات المغربيّة فقد كانوا يلتقطون صورًا للجمهور 
علائيّة» وقد علّق ريمي لوفو المنخصّص في الشؤون المغاربية 
ساخرًا: ”يرحل الرجال ولكن النظام يظلٌ على حاله“؛ و 
بالمناسبة أحد أساتذتي الذين أَنْهّلُ من أفكارهم. بعض الطلاب 
المغاربة طرحوا علىّ أسئلة حسّاسة عن النظام الملكيّ ما تستب 
لهم بمتاعب فيما بعد. كان محمّد السادس قد قضى في السلطة 
ستة أشهر ويتمتّع بشعبية استثنائية وصورة إيجابية. أطلق عليه 
الإعلام لقب ملك الفقراء» يُغخدق الوعود بسخاء دون أن يحدّد 
كيف سينفذها. ولكنّ الجميع في داخل البلاد وخارجها ينوه 
به وبوعوده دون تريّت.خاطب كلة بلغتةة بكلام أحبّوا سماعه؛ 


يفف 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


لا بأس إن كان الخطاب انتحارًا سياسيّاء يفتقد النضج ويبتعد 
عن الواقعيّة» طالما أنه يختلف عن خطاب الحسن الثاني نبرةٌ 
ولهجة. كم هو سهل أن نوظف الماضي المخيف لنرسّم ملامح 
الأمل في المستقبل. 

كانت هذه القطيعة مع إرث الحسن الثاني وليدة رغبة حقيقيّة 
لدى محمّد السادس في التغيير» ولكن سرعان ما تحوّلت إلى 
أداة تسويقيّة وتعبير عن تدمير صورة الأب» وهكذا فالملك 
يأخذ مبادرات مُبالعًا فيها وغير كافية في الوقت نفسه. بالعٌ 
في القرارات النامّة عن عقدة أوديب ولكنّه أحجمّ عن التحؤّل 
المؤْسّساتي للبلاد. على سبيل المثال» في مغرب محمّد السادس 
تجري تصفية ملفات القمع التي طبعت الماضي ولكن دون 
المسٌ بهياكل النظام التي سمحت بذلك القمع؛ وهذا ما يسجّله 
الواقع» حيث تتكرّر الممارسات نفسها. إِبَان عهد الحسن الثاني 
كان اليسار هو الضحيّة الأولى للقمع؛ ومع محمد السادس أخذ 
الإسلاميّون النصيب الأوفرمنه؛ وبما أن الخارج لايتعاطف معهم 
كثيرًاء خاضة في الدول الغربيّة فالاحتجاج صد الانتهاكات 
يكون ضعيفا أيضًا. 

كنت بحاجة ماسّة إلى تجربة جديدة مختلفة تمامًًا عن تجاربى 
السابقة» فأرى عن قرب واقعًا آخرء ولو كان مطبوعًا بويلات 
الحرب والمعاناة. وددْتٌ الابتعاد عن بيئة المغرب الفاقدة 


م 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لمقوّمات الذوق» وعندما أتأمّل في ما طبع المملكة تلك 
السنوات» أرى جمهرة من الأشخاص أصابهم نوم اليقظة فساروا 
يمشون بدون وعي على حافة هاوية سحيقة. طلبتٌ موعدًا مع 
كوفي عنان, الأمين العام للأمم المتحدة» فاستقبلني. حاول 
سفير المغرب لدى الأمم المتحدة نسف مشروعي ولكن بعد 
ذلك تلقى تعليمات جديدة من محمّد السادس من قبيل: ”دعه 
يمضي حيث يشاء وليتركنا وشأننا*» وهكذا أصبحتٌ مستشارًا 
للشؤون المجتمعيّة غير الألبانيّة لدى برنار كوشنير» ممثل الأمم 
المتحدّة في كوسوفو. إشترط كوفي عنان شرطا واحدًا: أن تكون 
سلامتي مكفولة: لأنه يعتبر أنّي كشخصية مسلمة قد أكون هدفًا 
رئيسيًا للاغتيال من طرف ميلوسيفيتش وجنوده؛ فصرت أتحرّك 
بمواكبة خمسة حراس شخصيّين» ولم يكن الأمر غريبًا علي لأني 
معتاد منذ الطفولة الاجراءات الأمنيّة. 

وصلت إلى مقدونيا في أذار (مارس) ,٠٠٠١‏ وانتقلت عبر 
طوّافة روسيّة من مدينة سكوبجي إلى مدينة بريشتينا. وصلت 
وسط الفريق الأمنّ الأميركيّ المكنّف إلى هذه القاعدة حيث 
وجدت في انتظاري ضبّاطا روسّاء فقلت في نفسي: ” لماذا 
أتيت وما شأني بما يحدث هنا؟!”". 

في الأسبوع الأول كانت علاقتي مع برنار كوشنير متوتّرة جدًا. 
كان ينظر إلىّ شرّرًا ويحاول أن يرسُّم في ذهنه صورة عمّن 
أكون» فيدعوني لتناول الغداء أو العشاء معه ولكن لا نجد ما 


الف 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


نتحدّث عنه لتبديد التوتر» وظلّ الأمر على ما هو عليه.ذات يوم 
تناولنا العشاء مع زميلة من بعثة الأمم المتحدة للإدارة الموقتة 
في كوسوفوء وفي نهاية السهرة» اقترحتٌ أن أرافقها إلى مكان 
إقامتها. ما إن غادرتها حتّى سمعتٌ دوي انفجار قويٌّ ورائيء 
فعدت أدراجي مقتنعًا أن زميلتي راحت ضحية هجوم شنه 
جيش تحرير كوسوفو» حركة الاستقلال الألبانية. في الواقع؛ 
تضرّرت شقتها من جرّاء انفجار القذيفة ولكنّها لم تكن الهدف 
المقصود» فقد علمنا في وقت لاحق أن جيش تحرير كوسوفو 
سعى لاغتيال رجل صربيّ يسكن في العمارة نفسها. بادر على 
الفور حرّاسي الشخصيّين إلى الدرج لعلّهم يُغيئون المرأة ولكنها 
لم نُصَب بسوء. بعد قليل وصل إلى عين المكان رجال الشرطة 
ومعهم برنار كوشنير» كان يرتدي معطفًا وحذاء» ولا لباس تحت 
المعطف. إنه مشهد كوميدي في واقع مأساوي. إلتفت كوشنير 
إلى آثار الانفجار على واجهة العمارة وقال لي: ” هذه هي ترحجمة 
كلمة ليلة سعيدة باللغة الألبائيّة“. 

غلب علينا الضحك لبضع لحظات, بينما صحافيّة البي. بي. سي. 
المشهورة جاكي رولاند تونّق المشهد بالكاميرا. هنا خاطبني 
كوشنير بانفعال: ”منذ أسبوع وأنت تلقاني بوجه عبوس» هل 
نظن أني أتنْبأ بالغيب؟ 

- لاء ولكنّك عنيد» لديك مجموعة من المستشارين ولا تصغي 


0 


3 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


- أنا أعرفء أنا أنانيَ» فما هي المشكلة؟ 

- أبدّاء لا مشكلة بالنسبة إلىّ. فمن تعامل مع الحسن الثاني بلغ 
قمم الأنانيّة“. 

هكذا وبسرعة تكسّر الجليد بينناء واشتغلنا معًافي وئام. استأحرت 
منزل سائق كوشنير» وانهمكت في العمل. كوسوفو بلاد صعبة 
وأهلها صعاب المراس وعنيفون. الطقس باردء حيث تصل درجة 
الحرارة إلى ى ٠‏ درجة. التربة وعرة ووسائل الترفيه نادرة. 
ومع ذلك؛ كنت أستفيد من فرص اللقاء مع دبلوماسيّين بارزين 
تقاطروا على مقرّنا في تلك الفترة» منهم ريتشارد هولبروك؛ ممثّل 
الولايات المتّحدة لدى الأمم المتحدة؛ والأخضر الإبراهيميّ» 
الممثل الخاصٌ للأمم المتّحدة في العراق وأفغانستان» وبادي 
اشداون» وهو برلماني بريطانيَ سابق أصبح ممدّلّا للأمم المتّحدة 
في البوسنة» والجنرال ويسلي كلاركء وإسماعيل شيم» وزير 
الخارجيّة التركيّ الذي استقبلني كثيرًا في أنقرة لمناقشة وضع 
السكان الناطقين بالتركيّة في جنوب كوسوفو... كانت المهمّة 
صعبة» أمّا نهاية الأسبوع فللراحة. كل يوم أحد أتجوّل لزيارة 
الوحدات العسكر يه مع ميلي للوحدة الإيطاليّة (ذات المطبخ 
الجيّد) والوحدة التركيّة. في بعض الأحيان كنت أقضي عطلة 
نهاية الأسبوع في فيينًا أو سكوبجي. 

في إطار مهمّتي كان عليّ أن أعرّز اندماج الطوائف غير الألبانيّة 
وغير الصربيّة في عملية إعادة البناء السياسيّ» وهم البوسنيّون 


11 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


والغجر والغورانيّون» أي المسلمون السلاف من مقدونيا. 
كما أعطيناهم الانطباع أن الأمم المتّحدة مهّمة بوضعهم. 
قمنا بإحصائهم وتعداد انتهاكات حقوق الإنسان التي طالتهم 
أيام حكم ميلوسيفيتش وأنواع التمييز الذي ما زال يستهدفهم. 
لقد ساعد وجودي بجانبهم كمسلم لثبت لهم بالملموس أن 
المجتمع الدولي إلى جانبهم. حاولتٌ المساهمة في ديناميكيّة 
اندماج السكان المسلمين في قلب أوروبا عبر اللقاء مع زعماء 
الأحياء داخل المدينة للاستماع لهم ولا ونقل انشغالاتهم ثانيًا. 
لقد كانت الجلسات الأسبوعيّة المجلس كوسوفو الانتقاليّ- وهو 
نوع من البرلمان يتكوّن من ثلاثين عضوًا وصلاحيّاته استشاريّة 
شيّقة للغاية. 

كان المعارضون الصربيّون يأتون إلى كوسوفو للاجتماع في 
كاتدرائيّة بيزنطيّة جميلة بمنطقة غراشانيكاء وهي ضاحية من 
ضواحي بريشتيناء تشتمل على قطاع صربيّ. كان الكاردينال 
بارتولومي» وهو رجل قصير القامة ولكنّه شخصيّة معنويّة 
كبيرة» يسيّر النقاشات» وهو يمثل الأب الروحيّ للكوسوفو 
الأرئوذكسي. لقد استمتعت بحضور اجتماعاتهم مستعيئًا 
بمترجم» ولكن في نهاية الأمر أصبحتٌ رمرًا للمعارضين لأني 
مسلم. لقد شعروا كيف كنت منبهرًا بحيويّتهم: وكأنّ التاريخ 
يُكتب مباشرة أمام ألحاظي. 

كما تابعنا ملفٌ المسجونين الذين فقدوا أيَام حكم ميلوسيفيتش. 


1 8 
الفكر الجديد 


<جكر 


بعضهم لا يزال في السجن في صربيا بتهمة الإرهاب» وبعضهم 
عذّبوا أو ظهروا مجدّدًا ويريدون إسماع صوتهمء وأخيرًا 
هناك من قتلوا وتريد عائلاتهم استعادة جثامينهم. أنشأنا قاعدة 
بيانات» كما سعيئا لضمان معاملة السجناء وفقًا للمعاهدات 
الجارية المفعول. في هذا الصدد كان عليّ أن أحضر دروسًا 
مسائيّة لأنني لم أدرس القانون أبدًا من قبل. أخيرًا فقد ساعدتٌ 
المحكمة الجنائية الدوليّة ليوغوسلافيا السابقة في مهمّة إحصاء 
الجثث والتعرف على هوية أصحابها من خلال اختبار الحمض 
النووي» ثم تع ظروف وفاتهم؛ وعمل معنا مفتّش أجنبيّ عن 
البلقان يشرف على التحقيق» وهو عمل شاق. أتذكر ذات يوم 
ونحن نمشي وراء أحد الشباب في حقل وهو يردّد: ”هناء في 
هذا المكان حدث ذلك“»؛ فسألناه وما الذي حدث بالضبط؟ 
فكان يجيبنا: ”ألا تفهمون ؟! لقد حدث هنا!“» فحفرنا التراب 
وإذا نحن نكتشف تحت أقدامنا مقبرة جماعيّة تغصٌ بالجثث. 
مع اقتراب موعد الانتخابات البلديّة» والتي كانت تُعتبر بالنسبة 
لنا امتحانًا رئيسيّا طلب مني كوشنير إعداد حملة تحفّز الناس 
على التصويت. هذه المهمّة التي أنجزتُها بكل ما أوتيتٌ من 
حماس» نظرًا لاقتناعي الراسخ بأهميّة التصويت الديمقراطيّ» 
كانت آخر مساهماتي في الكوسوفو وتتويجبًا لمهمّتي» وبعدها 
غادرنا برنار كوشنير وأناء البلد في شهر كانون الأول (ديسمبر) 
عام ٠‏ كانت حصيلة عملنا لا بأس بها رغم أننا» مع 


1 4 
الفكر الجدي 


<جكر 


الأسف, تركنا الأقليّة الصربيّة في وضع دقيق. لقد حاولنا أن 
نرسّخ احترام التنوّع ولكن في النهاية أصبح الكوسوفو موححدًا 
من الناحية العرقية. في هذا الصدد, يُرعبني أن أرى التعضّب 
يُعيد إنتاج نفسه: فضحايا الأمس وما إن يستردّون أنفاسهم» 
حتّى يسارعون إلى بناء هيمنتهم العنيفة فيحلّون محل الجلادين 
السابقين» مستعيرين مرجعيًا دور مَّن كانوا ضحاياهم من قبل» 
ويستنجدون بهم كملاذ أخير. 

أحتفظ بذكرى طيّبة عن نهاية مهمّتي في الكوسوفو. في ١9‏ 
تشرين الثاني (نوفمبر) 23٠٠٠١‏ اقترح على كوشنير أن ألحق به 
في الطابق 70 من مقر الأمم المتحدة في نيويورك» حيث مكاتب 
إدارة عمليّات حفظ السلام. من هناك توبحهنا إلى قاعة اجتماع 
مجلس الأمن؛ لكي يعرض كوشنير تقريره بعد انتهاء مَهمّته 
فجلست على كرسي خلفه. بعد أن ختم عرضه عبّر له أعضاء 
المجلس عن التحية والتنويه؛ وثْمّنوا على الخصوص مساهمة 
حملة التوعية ««و1هم007) (عهء01:1 التي كلفني بها و هنا تحلى 
كوشنير بمروءة فائقة وشكرني أمام الجميع» وقد دوّن لاحقًا 
مغامرته في كوسوفو في كتاب بعنوان: مقاتلون من أجل السلام. 
كانت لحظة من أعظم لحظات حياتي. للمرة الأولى» شعرت 
أني مواطن من مواطني العالم ذو نفع للآخرين. بالطبع» كان 
بودّي لو أنفع بني وطني. 

نعم لقد اشتقت كثيرًا لوطني ولذويه؛ وقد أدركت ذلك عندما 


15> 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


مررت عبر باريس بعد مغادرتي كوسوفوء ونزلت في فندق 
موريس. لقد استفاقت حاسّة الشعٌ لديٌّ فجأة فلم أتمالك إِلَا وأنا 
أجحوب ممرات الفتدق بحنًا غن مصدر تلك الرائخة الجذابة 
حتّى طرقتٌ باب غرفة ينبعث منها أريج له في النفس ذكريات» 
وفتح الباب» وإذا بشقيقي الأصغر مولاي إسماعيل يستخدم بقيّة 
من قوارير الطيب التي تركها الحسن الثاني» فيها مزيج من العنبر 
وعطر الصندل... 

لقد استمتعثُ بالعمل ضمن بعثة كوسوفوء رغم بيروقراطيّة 
الأمم المتحدة. لكتّني, لم أتقدّم لمهمّة جديدة. في كوسوفوء 
فهمت مدى صعوبة إرساء بعثة لحفظ السلام» وصعوبة أن تصل 
إلى بلد غريب وبيدك مخطط نظريٌ رُسم مسبَقاه ثم تحاول 
إسقاطه على الواقع المحلي» علمًا أن كثرة انتقال موظفي الأمم 
المتحدة من وظيفة لأخرى تزيد المهمّة تعقيدًا. ما يكاد أحدهم 
يستوعب المعارف الضروريّة لعمله حتّى تنتهي مذة عقد عمله 
أو يُنادّى عليه لمهمّة أخرى. أخيرًاء فإن محمّد السادسء ربما 
خطر بباله أن الأمم المتحدة قد تصبح منبرًا أعبّر من خلاله عن 
مكنونات صدريء فتفضّل وساعدني على تسريع الوداع؛ وقد 
أخبرني فيما بعد إقبال رضاء مدير ديوان كوفي عنان» الأمين 
العام للأمم المتحدة وقتئذء أن محمد بتونة» الذي يشغل اليوم 
منصب عضو في محكمة العدل الدوليّة» قد زاره بأمر من محمد 
السادس ليعترض باسم المغرب على أن تُسند إلىّ مهمة جديدة؛ 


»> 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بينما كان الحديث جاريًا عن احتمال مشا ركتي في لجنة لتقصّي 
الحقائق في مجزرة جنين الفلسطينيّة في نيسان (أبريل) 7 .٠٠١‏ 
مع الأسفء أو بالأحرى لحسن الحظء فقد بدأت أنزعج من 
جو الأمم المتحدة حيث العلاقات مرتبة بعناية وعلى المرء أن 
ينتبه لكل كلمة يتلفّظ بها لكيلا يثير حفيظة الدول الأعضاء. كما 
أني اشتقت كيرا لأسرتي الت بقيت في المغرب» فكت سغيذا 
بلقائهاء وخاصّة ابنتي التي وُلدت في تلك الفترة فكنت لا أكاد 
أعرفها. 

عدتٌ إلى المملكة» حيث لايزال محمد السادس ”ملك الفقراء» 
في مرآة وسائل الإعلام؛ والوزير الأوّل عبد الرحمن اليوسفيّ 
يتضاءل ويذوب في صمت أسرع مما تذوب حبة الدواء في 
كوب من الماء. خلال إقامتي في كوسوفوء واكبت التطورات 
في بلدي. في عام »١495‏ قام محمد السادس بتغليف التغيير 
المتوقع منه في خدعة تسويقيّة بارعة اخترعها وسمّاها ”المفهوم 
الجديد للسلطة“. في الواقع» مضمون هذا الاختراع أن الملك 
له حقّ النقض على السلطة التنفيذيّة» وبالتالي الحقٌ في النقض 
على صلاحيّات الحكومة. أدركتٌ أثنا لانتوجحه نحو المزيد من 
الديمقراطيّة» بل على العكس من ذلك أن الملك كان يستعدٌ 
لختم مرحلة السماح السياسيّة» ويمكن تلخيص مشروعه على 
النحو التالي: ”كفانا سياسة من أجل السياسة» التي ينهمك فيها 
فقط رجال مسنُونء وبالتالي فهي أمر سلبيّ» فلنركز اهتمامنا 


21> 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


على النموّ الاقتصاديٌ تحت إشراف الملكيّة ولما فيه خير 
الشعب". كان الملك يريد أن يحاكيّ العديد من الناشطين في 
المجتمع المدني» الذين يحبّون ممارسة السياسة هكذا مباشرةٌ 
دون وساطة الأحزاب»؛ مما أدى إلى وضع أصبحت فيه السلطة 
متليّسة بالمنظمات غير الحكوميّة. لقد عُرف محمّد السادس 
بنفوره من السياسة ومن زعمائها ومن لعبة المؤشسات". إنه 
يريد أن يتموضع في فضاء آخر ولعل أحسن توصيف لموقفه من 
الطبقة السياسيّة المغربيّة هو ما كتبه الصحافي المغربيّ أبو يكر 
الجامعي على سبيل النكتة: ”إن تلاميذ هذا القسم كسالىء علينا 
إحراق المدرسة كاملة". 

بعد عودتي) لبِعْتٌ في حجر سياسي . منذ وفاة الحسن الثاني» 
انقطع الاتصال بيني وبين ابن عمي الجالس على العرش. ومع 
ذلكء بما أن الملك يزعم أنه يريد إرساء الديمقراطيّة والسماح 
للمعارضة بالتعبير» فليكن ما يريده الملك! فلتُعبّر ولشناضل! 
هذا هو الوقت المناسبء وبالفعل فقد بدأ المغاربة يعبّرون عن 
مطالبهم. بعد فترة قصيرة اتصل بي أبو بكر الجامعيّ المذكور 
أعلاه» مدير أسبوعيّة لوجورنال» ولم أكن أعرفه بعد فطلب مني أن 
أذهب للتفاوض مع ستّين من الخرّيجين من الجامعات العاطلين 
عن العمل والذين يخوضون إضرابًا عن الطعام في مدينة تمارة 
بالقرب من الرباط. كانوا ملتفين في أثُواب كالأكفان» وقد صبّوا 
عليها البنزين ويهدّدون بإحراق أنفسهم» وذلك عشر سنوات 


1" 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


قبل الربيع العربي» الذي انطلقت شرارته بانتحار اليائسين! 

إنتقلتٌ إلى عين المكان, وتحدّثنا طيلة اليوم. أخيراء اتفقتُ مع 
الجامعيّ وفاضل العراقي» مالك جريدة لوجورنال الأسبوعية؛ 
على إنشاء صندوق اجتماعيّ برأسمال يناهز ١5١‏ ألف أورو 
تديره لجنة متابعة برئاسة فاضل» حيث سيدفع الصندوق 
منحة شهريّة لهولاء العاطلين ريثما تبحث اللجنة عن الحلول 
لإدماجهم في عالم العمل. إنفرجت هذه الأزمة دون مأساة, 
ولكنّ هذا ”الحل"“ لا يمكن تعميمه بطبيعة الحال» كما أنه لا 
يُصْلح الإفلاس الكليّ للنظام التعليميّ المغربيّ» وقد تبيّن لي فيما 
بعد, أن الشباب الذين اختبرتهم في أفق تشغيلهم في شركاتي» 
لا يملكون أدنى فكرة عن سير العالم» وأن معظمهم غير قادر 
على ترتيب ثلاث حجج في تسلسل منطقيّ. هذا ليس مستغربًاء 
ففي المغرب, لا تتجاوز نسبة المتعلمين للقراءة والكتابة 55./ 
مقابل 7/ في الجزائر. في الجزائر يذهب 5/8/ من الفتيان 
و55/ من الفتيات إلى المدرسة الابتدائيّة؛ في تونس تبلغ النسبة 
7 من الفتيان و4/4// من الفتيات؛ أما في المغرب فإن 03 
من الفتيان و85// فقط من الفتيات يتابعون تعليمهم في أقسام 
التعليم الابتدائيَّ. في الوقت نفسه. فإِنّ معدّلات الرسوب مرتفعة 
في مدارس المغرب: //٠١‏ فقط من الأطفال يكملون المرحلة 
الابتدائيّة» والنتيجة أن ربع أطفال المملكة_-5؟ مليون طفل من 
أصل ٠١‏ ملايين في المجموع يُحرمون من التعليم أو يغادرونه 


14 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


مبكرًا. ليس الوضع أحسن حالًا في مراحل التعليم العليا. هناك 
حوالى ٠٠.٠٠٠‏ طالب جامعي في المغرب» ويحصل حوالى 
٠‏ سنويًا على دبلوم للتخرج؛ ومرة أخرى بز المقارنة 
الإقليميّة تأخر المملكة: في الجزائر يلتحق حوالى //٠١‏ من كلّ 
فوج جامعيّ بالمرحلة الثالثة» ويقفز الرقم إلى /7١‏ في تونس» 
ولكنّه في المغرب ينخفض إلى /١١‏ فقط. في مقابل ذلك نجد 
أن الدولة التي تُنفق أكثر على التعليم هي بلادنا بنسبة 1/371 من 
الميزانيّة العامّة» مقابل /٠١‏ في تونس و6١/‏ في الجزائر. 
باختصارء مردوديّتنا هزيلةٌ مقارنة بجيرانناء رغم أنَّ مصاريفنا 
أعلى بكثير. 

من بين ١5‏ دولة من بلدان المغرب العربيٌ والشرق الأوسط 
(341:074)» يحتل نظام التعليم في المغرب المرتبة العاشرة حسب 
مؤْشّرات التسجيل والجودة والنجاعة والمساواة» ولا يتقدّم 
المغرب إلا على العراق واليمن وجيبوتي. إذا استمرٌ الوضع هكذا 
فإنّه بحلول العام ٠٠١7٠‏ سنجد أن حمس البالغين لن يحصلوا 
على الشهادة الثانويّة» وإذا أضفنا ضحايا الهدر المدرسي» فإن 
رُبع سكان المغرب سيكونون تقريبًا ”"بدون صلاحيّة" في هذا 
الأفق الزمنيّ في إطار اقتصاد المعرفة» وسيصطدم اندماج المغرب 
في الاقتصاد العالميّ بهذه المشكلة. أمّا إذا قارنا المملكة» على 
سبيل المثال» بالصين والهند في مجال تربية الأجيال الناشئة فإِنَّ 
الفرق شاسع. فقط بلدان أفريقيا جنوب الصحراءء؛ لها مؤْشّرات 


»> 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


هناك تفسيرات مختلفة لهذا الأداء الضعيف: الرداءة النوعيّة 
“الاستبدادية» والأسلّمة الزاحفة على التربية والتعليم... كما 
التدبير» فيصبح التعليم مستجيبًا أكثر لتطلّعات هؤلاء وليس 
قط لرغبات أصحاب 007 وكل من يعرف عدا 0 
صامتة! 5 ا ذلك يُضطرٌ الناس إلى تسليه أطفالهم إلى 
نظام مدرسيّ عاجز عن تكوينهم؛ وهذا أمر تصعب استساغته» 
خاصّة وأنْ المغرب بصدد الانتهاء من ”تحوّله الديمغرافت“ 
الناجح بعد أن انخفض معدّل الخصوبة إلى 17,؟ طفل لكل 
امرأة في سنّ الإنجاب. نظريّاء يجب أن يستفيد المغرب من هذه 
”الهدية الديمغرافيّة“: بمعنى أن تصبح نسبة السكان العاملين 
مقارنة بنسبة المعتمدين على الغير في صالح البروز الاقتصادي. 
نظريًا فقط لأنْ ما يحدث هو أن عائقيْن هائلِيْن يهدّدان مستقبل 
المملكة؛ هما عائق المنظومة التعليميّة أَوَّلَاء وعائق الاقتصاد 
الوطنيّ العاجز عن خلق فرص العمل ثانيًا. 

يوم ١7١‏ أيّار (مايو) عام ١‏ ألقيتٌ محاضرة جديدة في 
المعهد الفر نسيّ للعلاقات الدوليّة في باريس» وهذه المدّة 


1 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


تحت عنوان: ”الملكيّات والتعاقب الأسري وتحوّلات الأسر 
الحاكمة في العالم العربئ.“ دافعثٌ عن فكرة ابتعاد الملك عن 
التدبير اليوميّ وناديتٌُ لتجديد ”الميئاق الملكئ“ للاهتمام 
أكثر بتطلّعات الطبقات المحرومة؛ فاقترحتٌ ملكيّة تسود ولا 
تحكم» تضمن الاستقرار والتكافل الوطنيّ وتلعب دور التحكيم 
بين التوازنات وأخيرًا تتحمّل مسؤولية الإمارة الأخلاقيّة والدينية 
للمجتمع. ثم أضفت أن هذا ”الميثاق الأسريٌ“ حول العرش 
سيتطوّر مع تطور الممارسة الديمقراطيّة. 

بعد المحاضرة بيومين» خلال حوار مع قناة تي. في. ه (حاول 
بعض المقرّبين من اليوسفي إلغاءها ولم يُفلح)؛ أكدتٌُ على 
ضرورة وضع دستور جديد» فشعر المعارضون المغاربة بالحرج 
لأني ذهبت أبعد منهم؛ ثم عاودتٌ الكرّة يوم 707 حزيران 
(يونيو) عندما نشرتٌ على أعمدة جريدة لوموند قال بعنوان: 
”الانتظار القاتل في المغرب"» فاستحضرتٌ الفرص الضائعة منذ 
وفاة الحسن الثاني والشلل السياسيّ» وخيبة الأمل التي بدأت 
في الانتشارء كما استنكرتٌ المماطلة بدل بلورة استراتيجيّة 
للخروج من الأزمة. كان النصّ صريحًا: ”إن الجميع يعرفء أو 
ينبغي أن يعرف أن أسلوب المحكم القديم قد أصبح في عداد 
الأموات» ولا يمكن الاحتفاظ به أو إعادة الروح إليه“؛ كما 
لم يفني أن أعبّر عن خشيتي من أن يُفضي ضعف السلطة لدى 
النظام إلى عودة الجيش. في الوقت نفسه أقررتٌ بالتقدّم الذي 


55> 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أنجزه محمّد السادس خلال سنتين في مجال حقوق الإنسان 
وإصلاح الإدارة» التي أصبحت أكثر فعاليّة» ولكن رفضتٌ أن 
”يتحوّل طرح الأسئلة المقلقة للنقاش إلى الخوف من الدولة“. 
وأخيرًا اقترحتٌ عقد موتمر وطنيّ لتشريح كل مشاكلنا الأساسيّة 
قبل انتخابات عام ؟٠٠٠.‏ على الرغم من أن وجهة نظري كانت 
مدعّمة بالحجج, فإن ردود الفعل كانت في غالبيتها سطحيّة 
وعدوانيّة من قبيل: ”إنكم تبالغونء اتركوا الوقت للملك لأنه يُدبّر 
إرناتْقيلاء والحكومة هي التي لا تفعل شيئًا"» فشرحتٌ من جديد 
فكرتي يوم 7٠٠١‏ حزيران (يونيو) في حوار مع صحيفة لوجورنال 
الأسبوعيّة: ”لا ينبغي إعادة إنتاج نمط الاستبداد المستنير كما 
تدافع عنه بعض النخب. بدلا من ذلك» من الضروريٌ أن ينخرط 
الملك حقًا في مسار ديمقراطيّ للبلاد وأن تلعب الملكيّة هنا 
دورًا طلائعيًا". 

في هذا السياق» نشرت صحيفة لوموند يوم ١7‏ تموّز (يوليو) 
مقالا وقّعه ستيفن سميث وجان بيير توكوا بعنوان ”بانتظار محمّد 
السادس“» فأثار حفيظة الأوساط المقرّبة من الملك. صحيح أن 
تحليلهما للسنوات الأولى من العهد الجديد كانت قاسية» كما 
أنهما لم يتورّعا في استحضار ألقاب تستخف بمحمّد السادس 
مثل ”ملك الملذّات» و”الملك الكسول“ و”محبٌ التزلّج على 
الماء“ الذي يفضّل ممارسة رياضته المحبوبة فوق الدرّاجة 
المائيّة بدل الجلوس وراء مكتبه والعمل لمصلحة البلد... أما 


11 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


المغاربة المعتادون ضبط ساعاتهم بحسب ”الشمس»“ كحقل 
من عَبَاد الشمس فقد عاتبهم الصحفيّان بأنهم قد جدّدوا ضمئيًا 
ما يقوم مقام العقد الاجتماعيّ في المغرب: ”لا تشغل نفسك 
بالشأن العامّ» فالملك يسهر عليه» والمخزن لا ينام“. 
وجد القصر نفسه تحت وابل من القصف الثقيل» فحشد 
كلّ قوّاته الاحتياطيّة. في الأسبوع التالي لنشر المقال؛ انتقل 
”وفد من المجتمع المدنيّ" - سيلقّب فيما بعد ب ”وفد عبّاد 
الشمس"- إلى باريس للقاء رؤساء تحرير الجرائد الفرنسيّة, 
ثم قام ثلاثة من الوفد» منهم سميرة سيطايل؛ مديرة التحرير في 
قناة دوزيم المغربيّة» بدشر رسالة استنكار مفتوحة في الصحافة 
المغربيّة بعنوان: ”في انتظار لوموند”» ولم يتوانوا عن مهاجمتي 
أيضًا. أمَا أحمد لحليمي وزير الشؤون العامة» والرجل الثاني 
لوك فقد ست لمجلة جون أفريك بتاريخ ١54‏ أب 
(أغسطس): ”كنت أودٌ لو طرح أفكاره ضمن حدود العائلة 
المالكة بدل نشرها في الصحف. إنْه يترك الانطباع بأنَ 
تصريحاته:مخطط لها يغتاية وتهسن أن هدالة مؤامرة شارحية 
أدانُها الأمير“. لقد كتبثٌ ردًا نشرثّه بالعربيّة صحيفة الأحداث 
المغربيّة أواخر آب (أغسطس».» وبالفرنسيّة أسبوعيّة لوجورنال 
أوائل أيلول (سبتمبر)» وأكدتٌ أن مواقفي ليست بدافع الرغبة 
في السطو على العرشء» ولكنّها ”امتداد لنضال جميع المغارية 
منذ الاستقلال من أجل الإصلاحات التي ينتظرها بلدنا“» كما 


كل 1 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


أشرتٌُ إلى تراكم المشاكل على مدى عقود. التي دفعتني للاقتناع 
بضرورة إصلاح النظام الملكيّ» وعرّجت على فكرة عقد مؤتمر 
وطني لتفكيك كل هذه المشاكل. أخيرًا وصفتٌ أحمد لحليمي 
بالرجل ”الذي أمضى حياته في إلقاء الخطب الطتّانة وفي خداع 
نفسه بالاعتقاد أنّه أنجز مشاريعٌ حقيقيّة بينما هو اكتفى بالكلام 
عنها. “ أعيد اليوم سرد هذه الوقائع هنا من أجل الاعتراف بكل 
تواضع بأنّني أحيانًا انسقتٌ وراء الجدل والجدال» وما كان ينبغي 
أن أفعل. لم أستوعبٌ أبعاد السجال إلا مع مرور الوقت» فعزمتٌ 
ألا أتأئر بهذه الأمور, وأنّ من واجبي الاهتمام بصلب الموضوع 
وتجاهل الهجمات الشخصيّة المتحكم فيها عن بُعد. 

أفتحُ هنا قوسين للحديث استطرادًا عن شخص أدّى دورًا هامًا 
في قضيّة عبّاد الشمسء وفي قضايا أخرىء إنه أندريه أزولاي. 
سيكون من المجحف أن يُصئّف ضمن من يُنعتون غالبًا في 
المغرب ب”يهود البلاط.“ أوَلَاء لا أريد أن أتبتّى هذا التعبير» 
ولو أنه وُضع في سياقه التاريخيّ الذي يعود لقرون بعيدة. ثمٌ إِنَ 
أندريه أزولاي على أي حال لا ينتمي إلى هذه الفئة المشكك 
فيهاء وسواء كان المرء مُعجبًا به أو ناقمًا عليه فلا يمكن إنكار 
مقدراته المهنيّة. لقد ساعد الحسن الثاني على ترميم واجهة 
نظامه. قبل أزولاي» لم يكن للقصر سياسة إعلاميّة تذكرء فهو 
الذي افتئح هذا التجديد الذي سرعان ما تنبّه الحسن الثاني إلى 
فوائده. أقنعه أزولاي بالتخلّي عن أسلوبه القديم بإلقاء خطبه 


3 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فبدل المكاتب الضخمة والمنضّات العالية» اقترح عليه الجلوس 
على عرشه وكوبٌ من الشاي في متناول يده, فبدا أكثر إنسانيّة 
أقرب إلى مخاطبيه. نُمّ علمه تنسيق ألوان وأشكال قمصانه كي 
تلائم الكاميراء وأخيرًا ساعد الحسن الثاني على النظر بعين 
الرضا للسياسة الاقتصاديّة الليبراليّة بل فتح شهيّته عليها وبما 
أنه لم يهدّد مصالح رجال الحاشية الآخرين فقد تركوه وشأنه. 
كما أنه هو الذي نظم عمل مجموعة الأربعة عشر 4 6١‏ وهي 
مجموعة تفكر وتخطط تضم شخصيات مغرييّةٌ منتقاة لكفاءتها 
الاقتصادية تعمل تحت قيادة الملك. أخيرّاء وهذا عمل يُحسب 
له أيضًاء فقد حاول إصلاح ذات البين بين الأب وابنه» بينما غيره 
من الحاشية لا يكترثون للأمر أو يْجحجون الخصام بينهما. 
لكنّ أندريه أزولاي يظلٌ رجلا ذا جانب صلفء وذا وجهين؛ 
احدهما بلح لي قر ه. في البداية» مثّل الواجهة الليبراليّة للمخزن» 
ثم تجلى بعد ذلك الوجه الثاني: وسيط الشركات الفرنسيّة 
الكبرى. هذا الدور الخفيّ نال من صورته كليبراليَ مقتنع. 
بعبارة أخرىء على المدى الطويل طفى الليبراليّ الاقتصاديٌ 
على الليبراليٌ السياسيٌ. 

في الوقت الذي اندلعت فيه قضيّة عبّاد الشمسء بعد الإهانة 
المفترضة التي لحقت بالمغاربة من طرف صحيفة لوموند, 
أصبحت سيدةٌ يهودية مغربيّة المولد» وهي ليليان شالوم؛ تودّي 
لدى أندريه أزولاي دور حلقة الاتصال في نيويورك حيث تقيم؛ 


1 7 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وقد أصبحت فيما بعد نائب رئيس الاتحاد العالميّ لليهود 
الشرقيّين. كانت تلقبه ب”العيون الزرقاء“» مثل فرانك سيناتراء 
وتلك طريقتها للتعبير عن جانبه ”المافياوي الأنيق“» وهو لقب 
موقّق. في شباط (فبراير) 27٠١7‏ عندما نشرت جريدة لوموند 
بورتريه عن شخصي المتواضعء بتوقيع الثنائيّ السابق الذكر 
سميث وتوكواء ضغط أزولاي على الصحيفة الفرنسيّة لتدشر 
بورتريه ملكا آخرء لعمّتي للا فاطمة الزهراء» كنوع من التوازن 
لتخفيف مفعول البورتريه الأوّل. لقد شرحت لي المرحومة 
عمّتي فيما بعد والتي كنت أتودّد إليها منذ صغريء أن مبعوثًا 
من طرف أزولاي ألحّ عليها لتقبل لعبة السؤال والجواب في 
أفق إنجاز البورتريه بينما لم تكن راغبة» ثُمْ تكقفلت صحافيّة 
من لوموند هي أنيك كوجان بصياغة الورقة» فأطنبت في تعداد 
المناقب وأسهبت في المدح والثناء. شكرًا جزيلًا لفرنساء الابنة 
البارّة للمملكة الشريفة! 

في قضيّة عبّاد الشمسء, كان أندريه أزولاي يُدير عمليّات 
الهجوم المضادٌ عن بُعد ومن وراء حجاب, فهو الذي أوعز 
بفكرة إرسال وفد ”المجتمع المدنئ* ليستنكر أن تكون النخبة 
في المغرب خاضعة للملك تسبّح بحمده وتدور في فلكه؛ كما 
تدخّل أزولاي بنفسه لدى وكالة الأنباء الفرنسيّة ولدى أسبوعية 
جون أفريك؛ ولكن بعد ذلك سحب المحيط الملكي الضيّق - 
الراغب بمعالجة ملفي علنًا - الملفٌ من يده نهائيًا. حسئًا فعلوا! 


255 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


لو بقي أزولاي لاستطاع أن يوجُه إليّ ضربات موجعة» فهو على 
الأقلّ ذو كفاءة مهنيّة ودراية بالتواصلء ولو أنّه لا يوظفها دومًا 
في الاتجاه السليم. 

وقعت هجمات ١١‏ أيلول (سبتمبر) .7٠٠١‏ قبل وقوعها بعام 
كنت أرصد غن كتنب صعود ما يسمّى شبكات الجهاديين. 
كنت من بين المتتبّعين الذين خالجهم الإحساس أنه بعد الجهاد 
الداخليّ في أفغانستان» أي المقاومة ضد السوفيات» ستمتدٌ 
هذه الشبكات إلى الخارج. في يوم ١١‏ أيلول (سبتمبر) كنت 
في منزلي بالرباط» وكان أوّل رد فعل لي وليد عقدة النقص 
الجماعيّة: ”من المستحيل أن ينجح العرب في التخطيط لمثل 
هذه العمليّة المعقّدة!“؛ لقد أصبحت الهزيمة واحتقار الذات 
جزءًا من كياننا في العالم العربي فلا ننتظر إلا الفشل. في البداية 
جحت أن يكون الهجوم صادرًا عن ميليشيات متطرّفة أميركيّة» 
أو عن حركة مناهضة للعولمة» قبل أن أتقبّل الواقع. 

في هذه الظروف» بانت شجاعة وبصيرة محمّد السادس في ردّ 
فعله. أدان الهجوم على الفور بشكل لا أبس فيه» وهذا في حدّ 
ذاته استثناء» لأنّ زعماء وشعوب العالم العربيّ لا يجرون في 
ا سن ور 
أرسلتٌ رسالة إلى سفير الولايات المتحدة» وجحهمّها السفارة 
إلى وكالة أسوشييتد بريس قصد نشرهاء ثم أجريتٌ حوارًا مع 
راديو فرنسا الدولي 877 أقول فيه إنني أعترف للولايات المتحدة 


/ 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بالحقٌّ في الدفاع عن نفسهاء شريطة أن تخبر ”الأمّة الاسلاميّة 
بمسؤوليتنا نحن المسلمين: * لكيلا نترك القوى التي تدعو إلى 
العنف وتدمير الحياة البشريّة تسطو على دين الإسلام» وهودين 
السلام” . 

إلا أنَ الغموض ظلْ مخيّمًا على أفكاري. فبرغم تعاطفي الكبير 
مع الولايات المتّحدة وإدانتي للهجمات؛ وشعوري بأنني أميركىٌ 
من باب التضامنء اتتابني إحساس بالنشوة لأنْ مواطنين من العالم 
العربيّ استطاعوا أن يكبّدوا أوّل قوة عالميّة ضربة من هذا الحجم. 
لعل هذا الاحساس مرتبط بالكبرياء المجروحة لدينا جميعًا منذ 
غزو نابليون لمصر عام .١17/9/.‏ شعرتٌ بالتضايق من هذه الأفكار 
نم قلت في نفسي: ”الآن والآن فقطء سوف يفهم الأميركيّون 
ما معنى المعاناة ويتذوّقون الشعور بالظلم» وسوف يستيقظون 
ويستوعبون حجم الماسي التي تجرّعها العالم على يدهم". 

في البداية لم يكن لديّ مشكلة مع رد فعل الأميركيّين» وهو حق 
مشروع للدفاع عن أنفسهم وملاحقة المعتدين عليهم» بمافي 
ذلك على الأراضي الأفغانيّة» لكنّ الأمر اختلف تمامًا عندما 
مم الكشف عن معتقل غوانتانامو باي» وممارساته, وتبدّن أن 
الولايات المتحدة لا تحترم اتفاقيّات جنيف. في رأبي» هذا جزء 
من خطة المحافظين الجدد لتغيير قواعد اللعبة الدوليّة لفرض 


للحن 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


هيمنة القَوّة العظمى الأمي ركيّة. 

في عام ١ ٠.57‏ قلت في مقابلة مع المجلة الفرنسيّة السياسة الدوليّة 
إن الإسلام السياسيّ قد ولد من ثورة ضدٌ الأنظمة الظالمة بعد 
فشل الأيديولوجيّة القوميّة والديكتاتوريّات ”المدّعية الحداثة“ 
التي زعمت أنها الطريق الأقصر لمجاراة الغرب. في تاريخ 
العالم المسلم» غالبًا ما تأخذ الحركات الاحتجاجيّة شكلا دينيًاء 
والجديد هذه المرة هو بزوغ إسلام سياسيّ عابر للحدود. ومن 
م فإ ”ظاهرة بن لادن تختلف كثيرًا عمًا ألقّه الناس من قبل» لأن 
غرضه ليس إصلاح دولة واحدة أو حتّى إقامة دولة إسلاميّة في 
مكان ماء بل إشعال حرب شاملة ضد القوات المعادية للإسلام 
على كوكب الأرض. السؤال الكبير هو هل يستطيع هذا التيار 
الإسلامي» القادر على القيام بعمليّات مذهلة» أن يكونٌ مرتبطًا 
بالقواعد الشعبيّة في البلدان التي ينتمي إليها أعضاؤه؟ “ 

إن زعماء هذا التيار المتفرّقين عبر البلدان يدركون أنّهم لا 
يحتكرون تمثيل الإسلام» وبالتالي فهم حريصون على الاندماج 
في اللعبة السياسيّة واحتلال الخانة الراديكاليّة في المشهد 
القائم. إنّهم يريدون التحدث باسم المحرومين» وأن يصبحوا 
أبطال مناهضة للعولمة. وَلمَ لاء لا أنظر إلى الإسلاميين كضحايا 
من وجهة نظري. في المقابلة نفسها حاولتٌ أن أحلّل أسباب 
تقدمهم: : ”بالإضافة إلى المشاكل البُنيّويّة» يرتبط ظهور الإسلام 
السياسى بعوامل ثقافيّة. ذلك أن التعبير عن الاحتجاجات ينشّط 


0 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في المساجد والمدارس القرانيّة والبيوت الخاصّة» من خلال 
خطب الجمعة والامتثال لمنظومة أخلاقيّة. ثُمَ إن آثار العولمة؛ 
وخصوصًا الصدام الثقافيّ وتراجع الدولة الوطنيّة» لها مفعول 
قوي يدفع الناس إلى البحث عن هويّات جديدة للتمسشك بها. في 
أوروبا يشعر المواطن بانتمائه الأوروبيّ والإقليميّ؛ أما في العالم 
العربيّ فالرجوع إلى الذات يصطبغ بالإسلام» وبالتالي يجري 
التوظيف السياسي لهذا الشعور.” 

من المفارقات أن الملكيّات تتفوّق على الأنظمة الأخرى في 
توفير الأدوات الضروريّة لمقاومة الإسلام السياسي» بسبب 
رسوخ شرعيّتها التاريخيّة والثقافيّة» ولديها العمق الكافي لبناء 
مؤْسّسات للتحكيم تحظى بالاحترام» وبالتالي فإنْ المواجهة 
العسكريّة بين الدولة والإسلاميّين ليست حتميّة. انذاك» أي عشر 
سنوات قبل الربيع العربيّ» بدا لي من المربحح أنَّ جميع البلدان 
الإسلاميّة ستسعى إلى تنفيس الصئّامات لتخفيف الضغطء 
ولأجل هذه الغاية توقّعتٌ اللجوء إلى ”الاستبداد الانتخابي“» 
وهذا يعني احترام الشكليّات الانتخابيّة لاستمرار هيمنة 
النخب الحاكمة نفسها. أمّا القاسم المشترك لهذه الأنظمة شبه 
الديمقراطيّة فوجود ”مساحات محفوظة"“ و”خطوط حمراء” لا 
يجوز الاقتراب منها. 

في أيلول (سبتمبر) 00 دعيت لإلقاء محاضرة في جامعة 
برينستون» ضمن فعاليّات ندوة كجزء من مؤتمر حول العلاقات 


ححكور 


بين أميركا والإسلام والعالم المسلم بعد الحادي عشر من 
أيلول (سبتمبر) .5٠٠١١‏ هناك التقيتٌ صحافيًا من الواشنطن 
بوست يدعى بارتون جلمان» درس معي في برينستون» فأخبرني 
(والأمر آنذاك غير متداول إعلاميًا) أن المغرب يحتضن ”موقعًا 
أسود“ ما معناه أن بلادي متورّطة في عمليات الترحيل السري 
الاستثنائيّة» أي من البلدان التي توافق على أن تستقبل على ترابهاء 
على نحو غير قانونيٌ» سجناء وكالة الاستخبارات المركزيّة 
الأميركيّة لاستجوابهم بطريقتها المعروفة. رَعَم بارتون جلمان 
أنه يمتلك الأدلّة» وبالفعل فقد نشر تحقيقًا بتاريخ 56 كانون 
الأول (ديسمبر) ٠٠١”‏ وقّعه مع الصحافيّة دانا بريست والتي 
تزوّجث أحد أصدقائي المغاربة» عبد السلام المغراوي زميلي 
في جامعة برينستون. كان ذلك كافيًا لكي يقتنع الجنرال حميدو 
العنيكري مدير مراقبة التراب الوطني (جهاز الاستخبارات 
الداخليّ في المغرب 257) أنني ساهمت في تسريب الخبر إلى 
الواشئطن بوست»ء والذي تناقلتّه فيما بعد على نطاق واسع وسائل 
الإعلام؛ وخاصة قناة سي. أن. أن في برنامج يقدّمه آرون براون. 
بقي العنيكري وفيا لعادته» تضخيم التفاصيل وتجاهل صلب 
الموضوع. أصبح هاجسه هو مهاجمتي ولم يحاول أن يفهم 
أن أمةاسير لذ قد حدك» وان المغرب ان يعود كنا كاة يننا 
رضيت السلطة بأن ”تهشم” الإسلاميين ليرضى عنها حورج 
دبليو بوش. في ذلك الوقت» كان رئيس الولايات المتحدّة لا 


١م‏ 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يفرّق بين الإسلام ككل وإرهاب الإسلام السياسي. إِنّه من العار 
أن يتواطأ المغرب مع هذه الرؤية المخترّلة المخزية» ويسجل 
بذلك وصمة في تاريخناء بعد أن قام بتنفيذ أعمال دنيئة» ممتثلًا 
لأوامر ”المحافظين الجحدد“ الأميركتين. 

في هذا السياق الجيوسياسيّ المثقل» بلغت علاقتي بالقصر 
الأمني“» وبالتالي فقد تجاوز التعامل معي كل الحدودء حيث 
انضاف الهّوّس الأمنيّ إلى ركام التهجّم والحقد ضدّي. وها هي 
الأحداث سأسردها بأسلوب تقرير الشرطة المقتضب. فهي بليغة 
بما فيه الكفاية ولا تحتاج إلى تعليق. 

كانت الحلقة الأولى من هذه السلسلة من الملفات هي التي 
عرفت في المغرب باسم ”قضية الجمرة الخبيثة الكاذبة“. 
وقد بدأت أطوارها في شهر تشرين الأوّل ( أكتوبر) ٠٠١١‏ 
قاتلة هي الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) وذلك لأغراض إرهابية. 
كان بطلاها الأوّلان من أصدقاء طفولتي وهما هشام القادري 
والمقالب لبعضهما لأجل المرح, بما في ذلك التلاعب بشؤون 
لا تتحمّل الهزل. عاد هشام من سفر إلى الولايات المتحدة على 
وجه السرعة بعد أن أفزعه صديقه بخبر مزيّف هو وفاة والدته! 


1 1١ 
الفكر الجدي‎ 


<كجكر 


فأراد هشام, عندما كشف الفحٌ؛ أن يرد الصاع صاعين إلى 
صديقه عبد القادرء فأرسل إليه رسالة كتب فيها: ”إذا قرأتٌ هذه 
الرسالة فاعلم أنك قد أصبت بجرثومة الجمرة الخبيثة. “ أخبرني 
هشام بفعلته خلال حديث هاتفيّ ودّي» فضحكت من قلبي» 
وأثرثٌ انتباهه غير أنَّ عبد القادر رهيف القلبء ولذلك لا يجوز 
الإمعان في إفزاعه. مرّت بضعة أيام» وفي ١8‏ تشرين الأوّل 
(أكتوبر) وصلت الرسالة باليد وفتحها عبد القادر وقرأ التهديد 
بالإضافة لهذه الفقرة: ” لقد وصلتك هذه الرسالة لأنك شريك 
مع روبير أساراف؛ وهو يهودي صهيونيّ يقدّم مساعدات كبيرة 
لدولة إسرائيل على حساب الدولة الفلسطينيّة“» وقد كان عبد 
القادر بالفعل شريكا مع أساراف في وحدة لتربية الدواجن. عند 
استلام الرسالة» أصابه الهلع فأخبر الشرطة» خاصّة أنه يعلم أن 
تجارة الدجاج يهيمن عليها الإسلاميّون. 

بعد قليل وصل رجال الشرطة وخبراء من معهد باستور 
المتخصّص في البيولوجيا. قبل وصولهم» أحرق عبد القادر 
الملابس التي كان يرتديها عندما تسلّم الرسالة وطهّر سيّارته من 
الجراثيم. أما أساراف فقد علم بالخبر فأخخطرَ الجنرال العنيكري 
مدير الاستخبارات 251 » فتحرّكت الأجهزة وقتح تحقيقٌ في 
الواقعة. في اليوم نفسه ١‏ تشرين الأوّل (أكتوبر) عند الساعة 
الواحدة والنصف زوالّاء أي ساعات فقط من استلام عبد القادر 
للرسالة؛ انَصل به هشام وكشف له وهو يقهقه ‏ حقيقة الف» 


.م 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فذهب هشام عند الساعة الرابعة والنصف بعد الزوال إلى الشرطة 
لسحب شكواه ولكنّه قوبل بالرفض. بعد ذلك أخبرني عن هذا 
الرفض بالهاتف. كان متضايقًا ولكنّه جهل كل المتاعب التي 
سنجد أنفسنا جميعًا في وسطها. عند الساعة السادسة والنصف 
من مساء اليوم نفسه تم استدعاء هشام إلى مفوّضية الشرطة» 
فطلبوا منه أن يوقع وثيقة يشهد فيها أنّي أنا هو الرأس المدبّر لهذا 
الفعل! في اليوم التالي نشرت جريدة لوماتان الصحراء شبه الرسميّة 
بيانًا يعلن أن المذنبين ستتمّ ملاحقتهم» في حين تعلم الشرطة أن 
القضيّة كلّها نكتة تثير الاشمئزاز. 

بق هشام عند الشرطة إلى منتصف الليل وهو يخضع للضغوطات 
لكي يعترف أثني أنا الذي أوعزتٌ وحرّضته على نصب هذا الفخ 
لصديقه. وقد أفلح في إخباري مستعملا هاتفه التتقال ومكث 
ثلاثة أيام في النظارة. في اليوم التالي استجوبت الشرطة زوجة 
هشاء ودائمًا بهدف توريطي؛ ولكي يكتمل المشهد ويزداد 
ارتباكاء أكدت وكالة الأنباء المغربيّة ماب يوم ١‏ تشرين الأوّل 
(أكتوبر) أن السفارة الأميركيّة والسفارة الهولنديّة قد وصلتهما 
أيضًا رسائل مشابهة تتضمّن مادّة الأنفراكس وهذا غير صحيح. 
شككتٌ أن أمرًا ما يُحاك في الكواليس» وقد تأكد حدسي عندما 
أتاني والدععام يقول لي اله يتعرض لضغوط لكي يعان ياندي 
كاتب الرسالة ”المسمومة"» متحليًا بالشجاعة والثبات» رفض 
الرضوخ كما رفضت زوجتهء وكلاهما يردّد أنني بمثابة نجل 


م 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ليما . كانا عاجزين عن إخراج ليما من الستدن ورقت 
في المصيدة. يي ا 
مرّت عشرة أيَام ولا مخرج في الأفق» انّصل خلالها فؤاد عالي 
ا بمدراء الصحف تين 0 هذه القضية) 
رأسها جريدة وده 15 ”رغبتي 
الغادرة في زعزعة استقرار المغرب“» ففهمتٌ أن هاتفي مراقب 
تستعمل في الملف بصفتها ”الحجة" الدامغة على تورّطي من 
البداية. هنا قررتٌ أن استنكرٌ بكل قوّة في تصريح نشرته وكالة 
الأنباء الفرنسيّة ‏ هذا الأسلوب الاستخباريّ في تلفيق التهم 
الوهميّة» فاستغل الفرصة قائد الدرك الجنرال بنسليمان» الذي 
كانت له وقتئذ علاقة مضطربة مع الجنرال العنيكريء ليلوم هذا 
بقوة: ”حميدوء ما هذا السيرك؟". هكذا انقلب السحر على 
الساحر. 

لكنّ العنيكري لا يتصرف دون غطاء من الدوائر العلياء لأنه 
مباشرة بعد هذه ”القضيّة“» اندلعت ”قضيّة يّة" أخرى لا تقل 
وغادر العمل منذ سنتين تقريياء فأخبرني أن عنصرين بزيّ مدني 
اعترضا طريقه. في يوم 7١‏ تشرين الأوّل (أكتوبر)» ثلاثة أيّام 


ت نا مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بعد اندلاع قضية الجمرة الخبيثئة» أخذه رجلان من الشرطة 
من أمام منزله وقاداه في سيّارة إلى حي المساكن العسكريّة 
وراء غابة هيلتون بالرباط. هناك توقّفت السيّارة ولم يغادراهاء 
نم استفسرا الرجل لمدة طويلة عن علاقاتي المهنيّة وعلاقات 
الصداقة. قالا له على الخصوص: ”نحن نعلم أن مولاي هشام 
على علاقة سريّة ومستدامة مع بعض كبار ضباط الجيش الملكيّ 
(القوّات المسلّحة الملكيّة) يستقبلهم في بيته أو يلتقي بهم في 
الإمارات. هل يمكنك الإدلاء بشهادتك؟" أجاب بلحاج أنه 
ليس لديه أية فكرة عمّن أستقبل وأين ولماذا. فاستخرج أحد 
الرجلين من علبة القفازات في السيّارة محضرًا وطلب منه أن 
يوْشّر على كل صفحة ويوقع الصفحة الأخيرة. رفض بلحاج 
التوقيع»؛ وقد كشف فيما بعد لأسبوعيّة لوجورنال بتاريخ 4 ؟ 
تشرين الثاني (نوفمبر) 7٠٠١‏ عن هذا المحضر المزوّر حول 
”علاقتي السرّيّة والمستدامة“ مع كبار الضباط. بعد رفضه؛ 
حاول العنصران تهديده ولكنّهما منحاه مهلة ثمان وأربعين 
ساعة لعلّه يغيّر رأيه» فاستغل الفرصة ليخبرني. 

وصولًا عند هذه النقطة» توضّح لي أن الجنرال العنيكري؛ بعد 
أن فشل في توريطي في ”قضية الجمرة الخبيثة*» صار يحاول 
ما أمكنه أن يصنع ملهًا آخر وبسرعة لانقاذ ” 'تحقيقه“. رفضتٌ 
التعامل معه. فهو رئيس تلك ”الأجهزة» » وقد أصبحت الحقارة 
والدونيّة من ضمن طبيعته وعمله اليوميّ» ويجسّد أسوأ ما أنتجه 


حي 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


المخزنء بالإضافة لشعوره بعقدة النقص لأنه كان ضابط صف 
في الجيش الفرنسيّ والتحق متأخْرًا بالقصر. لكيّلا أحذوٌ حذوه. 
تواصلتٌ عبر أقنية غير مباشرة بالملك لتوضيح الأمر» فاتصلت 
برشدي الشرايبي» مدير الديوان الملكي, مذكرًا إياه أنه عندما 
أبعدت عن القصر اقترح علىّ بنفسه أن أتصل به عند الحاجة» 
فسألته أن يتحرّى عن كل هذه التهم الموججهة إليّ ويوضّح لي 
الصورة. كنت أعرف الجنرال العنيكري بما فيه الكفاية لأقتنع 
أنه لن يتوقف عند هذا الحدء ولم أحصل على جواب دقيق من 
القصرء بل مرّت الأيّامم ولم يتجاوز الردّ الذي جاءني كلمات 
فضفاضة لا تُسمن ولا تغني من جوعء من قبيل: "هون عليك 
فليس في الأمر ما يستدعي الغلق: * بالموازاة مع كل هذا لاحظ 
أصدقائي القريبون وحتّى بعض أفراد أسرتي أن سيارات الشرطة 
تلاحقهم علانيّة» وتلمّت زوجتي تهديدات هاتفيّة» ثم نشرت 
جريدة المغرب يوم ه تشرين الثاني (نوفمبر) ٠٠١١‏ مقالا يُعيد 
تكرار تلك الشائعات السخيفة حول رغبتي في “تعكير جو 
الهدوء في المغرب” فراودني التساؤل: ماذا يريد محمّد السادس 
بالضبط» وإلى أي مدى هو مستعدٌ للمضيّ؟ إِنَ السكوت علامة 
الرضاء والآن ها هو رأس العائلة الملكيّة لا يصدر منه ردّ فعل 
رغم أن فردًا من العائلة نفسها منّهم علانيّة بتهديد الأمن الداخلي 
للدولة! 

لذلك قرّرتٌ أن أصرّح علنًا وأشهد البلاد على ما أقول وليكن 


ا 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ما يكون. في يوم ١4‏ تشرين الثاني (نوفمبر) ٠٠١١‏ نشرت 
صحيفة لوجورنال الأسبوعية ملفا مفصّلاء ولأجل ذلك أنجر 
كل من أبو بكر الجامعي وعلي عمّار تحقيقًا للتأكد من مزاعمي 
وكذلك من تصريحات وليد بلحاجء الذي كان من قبل موظفًا 
عندي» حيث روى تفاصيل ما حدث له على صفحات الجريدة. 
من جهتي؛ اتهمثٌ علنًا الجنرال العنيكري بمحاولة إقحامي 
في ”عملية زعزعة استقرار الدولة“. عندما تصدر تهمة من هذا 
الحجم عن أمير» يصعب غض الطرف عنها أو إسكاتهاء ولذلك 
أمر وزير الداخلية آنذاك» إدريس جطوء بفتح تحقيق إداري. 
بُعيْد ذلك» علمتٌ من مصادري في القصر أنَ الجنرال العنيكري 
يعارض هذا التحقيق. بالإضافة إلى ذلك» مورست ضغوط على 
والد موظفي السابق» وهو جنديٌّ سابق كان في خدمة والدي 
الراحل» فطلب منه أن يضغط بدوره على ابنه ليتراجع؛ وقد تمت 
مضايقة هذا الأخير لعدّة شهور. أمَا صديقي هشام القادري؛ 
فقد دفع لنكتته السيّئة ولوفائه لصداقتنا ثمنًا باهظا: في يوم ١5‏ 
تشرين الثاني (نوفمبر) 7٠٠١١‏ حكمت عليه محكمة ابتدائيّة في 
الدار البيضاء بالسجن لمدة ثمانية أشهر! بعد ثلاثة أسابيع» وربما 
بعد تمعن وتأمّل» حصل على عفو ملكي وهذه حقيقة وليمست 
ما العمل وما هو الموقف الصواب أمام هذا العبث؟ لم أكذ 
ألتقط أنفاسي وأحسم تردّدي حتّى اندلعت ”قضية“ جديدة. في 


ا 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كانون الثاني (يناير) 275٠٠١"‏ نشرت الصحافة تصريحًا لمولاي 
المهدي بودريبيلة» أحد مخبري جهاز 251 وهو مكلف بملفٌ 
السحراءالغرريية القائق التساتهةه كقش فيه أنه طلب عند كعاية 
تقرير يورّطني في اتصالات مع الصحراوبّين الانفصاليّين ومع من 
يحميهم, أي الجزائر. هذا التوصيف يعني الخيانة العظمى. في 
ذلك الآن» كان محمّد السادس قد أعلن خياره المتمّل في طريق 
ثالث لحل نزاع الصحراء لا هو الاندماج الكليّ في المغرب ولا 
هو الاستفتاء لتقرير المصير. في هذا السياق» كان على بودريبيلة 
أن يزعم بأنّ بعض ضبّاط القوّات المسلحة الملكيّة من أصول 
لل اا” ن أقود ”إمارة في الصحراء تحت السيادة 
المغربيّة تشمل أراضي الصحراء الغربية وجزءًا من الشرقيّة“. 
رفض بودريبيلة الرضوخ وسعى لحماية نفسه من خلال فضح 
”القضيّة“» فحاول جهاز 257 تشويه سمعته ونعته بالمهرّج. 
من جهتي» كنت أعرف بالتدقيق حبّة الرمل التي 00 
أن تبني بها قصرًا من الأكاذيب: رك باصي شط 
صحراويّون للقائهم؛ وهذا أمر عاديّ من وجهة نظرهم: 5 
لموقفي لصالح “الانفتاح” في المغرب ونظرًا لصورتي الإعلاميّة 
ولقب ”الأمير الأحمر“. مع ذلك لم أستجب لطلبهم؛ من باب 
اللوحساس الوطنيّ ومن باب التوجحس أيضا 

لما تنالت التهم والملفات» صرت في وضع مقلق. في مرحلة 
أولى ظننت أن هدفهم هو محاكمتي سياسيّاء فبدأت أستعدٌ 


8.8 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وشكلت فريقًا للدفاع يتكون من المحاميين الأستاذ الجامعي 
والأستاذ منّيء» وأخذنا نستجمع الأدلة لإثبات براءتي. بقيت 
أترئتص ولكن شيئًا لم يحدثء ثم أدركتٌ في مرحلة ثانية أن 
تخميني الساذج كان خاطناء فلا محاكمة علنيّة ولا تحقيق 
إداريًا ولا هم يحزنون. لقد اختار القصر أسلحته وهي الأجهزة 
والسريّة والصمت والضربات الدنيئة. إنها مؤشرات سلبية للغاية. 
هناك احتمالان لا ثالث لهما: إما أنْ الجنرال العنيكري يصدر 
بالتوافق مع الملكء» وإمّا أن محمد السادس أصبح عاجرًا عن 
حماية أسرته؛ وفي كلتي الحالتين أنا في خطر شديد. في غياب 
أي رادع أو كابح» فإِنّ هذا المسلسل سيمضي حسب منطقه إلى 
حين تحقيق مبتغاه. ونظرًا لمعرفتي بالنظام» لأني وُلدت بداخله, 
قرّرتُ أن أنحي نفسي على جناح السرعة. أن يربح المرء حياته 
جائزة لا تقدّر بثمن» فغادرت المملكة في الوقت المناسب. 

لكل نظام ذاكرته المؤسّساتيّة» وفي هذه الحالة يعتمد المخزن 
على خبرته للقضاء على أي ”روكي”؛ لأن ”الروكي” يخلق 
الفتنة والاضطراب ويهدّد تماسك الأمّة» جماعة المؤمنين. 
والروكي هو المصطلح المغربيّ المقابل لمفهوم ”الخوارج” 
المستعمل في المشرق الإسلاميّ بصيغة الجمع» أي الخارجين 
عن الجماعة بالمعنى القبلي. عادةً ما يكون الروكي مقرَبًا 
من الحاكم؛ وقد يكون من أسرته» ولكنته يسعى إلى النيل من 
شخص الملكء وقد أدركتٌ أن ما حصل يستجيب تمامًا لهذا 


1 لفن‎ ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


المنطق» فلم أكد أصدّق الأمر. بعد الصدمة الأولى عشتٌ نوعًا 
من التحوّل النفسى العميق: فجأة انقطع انتمائي لهؤلاء القوم. 
ا ا ا م 
مجرّدًا. لقد قيل عنّي إِنّي خائن فتغيّرت نظرتي لمعنى الانشقاق» 
وأصبحت أشعر عاط أكر نيع المقاز يد المغاربة. هكذا 
حُتمت الحرب التي شنها على محمّد السادس والتي بدأت يوم 
طردني من بيتي. لذلك قرّرت أن أغادر المغرب إلى فضاء آخرء 
لا أسمّيه المنفى ولكنّه ”ما وراء المخزن“» ريثئما أجد له تعريفًا 
أفضل. 

لقد شعرتُ بالارتياح الذهنيّ وأنا أقرأ المقال الذي نشرّته مجلة 
جون أفريك يوم 7١‏ كانون الثاني (يناير) 1" 275٠١‏ تحت عنوان: 
”الرجل الذي أراد أن يصيرَ ملكا“» وهو بتوقيع الصحافيّ 
فرانسوا سودان رئيس تحرير المجلة وأبرز أقلامها. كنت أعتبره 
صديقاء والآن أرى أنه يشتغل تحت الطلب. تحوّل هذا العنوان 
”الرجل الذي أراد ذا يقير علا إلى شعار لتلك الفترة» قبل 
مغادرتي إلى الولايات المتّحدة الأمير كيّة. في هذا المقال 
المولّف من ثماني صفحات كاملة غير منقوصة: لم يبخل على 
الكاتب بجميل الأوصاف: فأنا حسب زعمه رجل بلا لجم؛ 
بنر بجس متضخحًم) » وأعاني من عقدة الاستكبار. و عيرني أخيرا 
بأنني ”حَسَنيَ “ لفرط تشبّهي بالحسن الثاني! 

قبل نشر مقاله» اتصل بي فرانسوا سودان من الطوغو يوم + كانون 


ال 0 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الثاني (يناير) 2.٠١7‏ عشيّة مقابلة له مع الرئيس غناسينغبي 
أياديما فقال لي: ”من فضلكء هل يمكن أن نلتقيّ مباشرة بعد 
صدور المقال لنتحدّث عنه؟ هناك أشياء لن تعجبك» وأخرى 
لن تعجبهم.“ كان بالطبع يعي جيّدا ما يقول. لكته ظلّ متأملا 
بأن ينجز مهمّته على أكمل وجه؛ فيفلح في ”المحافظة على 
شعرة معاوية“ موضّحًا لي بعد النشر بالشروحات والاعتذارات 
الغامضة أسباب كتابة المقال» فلم أسقط في فحّه ولم أتصل به. 
كان بوسعي أن أحدّثه عن الاتهامات المهولة الموجهة ضدّي» 
وكان باستطاعتي الدفاتٌح عن نفسي وإحراججه» ولكن هذا 
الصحافى اعتدى على حرمة روح والدي فنعته ب ”عاشق الخمر 
وعاشق النساء“»: وهذا ما لم أتقبّله أبدًا. لماذا فعل؟ إن الذين 
طمعوا أن يرضى عنهم محمّد السادس لطخوا ذكرى والدي 
جوابًا على ما أورده جان بيبر توكوا في كتابه الملك الأخير حين 
كشف لقرّائه العلاقة المقيتة بين الحسن الثاني وابنه البكر. 

إن تتائيع محركة عطينة لا تكون محسومة بالكامل» ولكق الأمر 
يبقى متروكًا لكل طرف ليختار ميدانه. هذا ما فهمته من هذه 
”الملفات” التي شغلت عامّي .5005-5٠.٠.١‏ لقد ترسّخ 
لدي الاقتناع أنه لا بدّ لي أن أنافح من أجل ارائي السبائية: 
ولكن بأريحيّة. أما الشتائم والدسائس فليست من قاموسي. 
ولذلك» فقبل أن أغادر المغرب» أرسلت إلى وزير الداخلية 
رسالتين مضمونتين» واحدة منها عبارة عن مذكرة من ثماني 


لض 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


صفحات مؤّرحّة في 7 كانون الثاني (يناير)» موبّحهة إلى اللجنة 
المخصّصة التي أنشأها إدريس جطو في تشرين الثاني (نوفمبر) 
١‏ لاإلقاء الضوء على ملابسات اختطاف موظفي السابق. 
في الأخير طلب منّي جطو أن أكفٌ عن الاتصال به. سواء كانوا 
من التكنوقراط أو السياسيّين» كانوا جميعًا جبناء. وبعد ذلك 
أرسلت تلك المذكرة إلى عدد من الصحفء فنشرثها حرقيًا. 
بعد تذكير شامل بكلّ الملفات» ذكرت أنّْي أناضل من أجل 
” إعادة بناء الملكيّة على أسس جديدة ديمقراطيّة وشعبيّة“) 
وطرحتٌ هذا السؤال: ”ماذا يريد الجنرال حميدو العنيكري 
غنذما يخاو ل إثارة الشكر كه خول القذات المسلسة الملكيدو* 
وفي الختام أعلنت عن نيّتي الاستمرار في النضال من أجل 
”مغرب منخرط بقوّة في العمليّة الديمقراطيّة» يطبعها التقدّم 
الاجتماعيّ والحداثة السياسيّة". 

بناءً عليه» حزمنا حقائبنا. إنتتهت فترة مؤلمة اكتشفتٌ خلالها 
ابنتي البكرء التي بدأت تذهب إلى المدرسة؛ مرارًا وتكراراء 
مقالات صحافيّة تشبعني ذمّا وقذفا. في 77 كانون الثاني (يناير) 
5٠٠‏ أي ثلاثين شهرًا بعد وفاة الحسن الثاني» غادرتٌ أنا 
وعائلتي المغرب واستقررنا في برينستون» ولاية نيو جيرسي. 
على متن الطائرة إلى باريس» نقطة عبورناء سألتني زوجتي إذا 
كنا سنسجّجل أطفالنا في المدرسة في أميركاء وما المدّة. ماذا 
أقول لها؟ إنها تطرح ضمنيًًا سؤال العودة» فأجبتها: ”سنتحدّث 


ملم 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في الأمر بعد خمس سنوات» وسوف تنجلي الصورة بعد عشر 
سنوات. “ لما توقفت الطائرة في باريسء تلقّيت مكالمة هاتفيّة 
من الرئيس الجزائريّ عبد العزيز بوتفليقة» وهذه جملته التي لن 
أنساها أبدًا: ” لقد قلت دائمًا إِنْ المخزن المغربيّ أكثر قسوة 
من جنرالات الجزائر . 

وصلنا إلى برينستون». وقضيت ثلاثة أسابيع لا أكاد أستيقظ 
فيها إلا لأنام من جديد. كنت أشعر بالإنهاك الشديدء وكأنّي 
قمت بجولة في المملكة دون طائل. في البداية» كان من 
الصعب أن أروّح عن ذهني بجولة على الأقدام أو بحصّة من 
الركضء لأنْ الصحافة تترصّدني. كان الصحافيّون يسعون 
إلى انتزاع تعليق عن الملك؛ وعن بداية حكمه؛ وعن الوضع 
في المغرب... لم أنبس بكلمة عن محمّد السادس. في 
شباط (فبراير) 7 ٠٠7»؛‏ صراحتٌ لصحيفة ليبراسيون الفرنسيّة 
بكل بساطة أنْني ابتعدتُ عن المغرب لأضع حدًا لمناخ غير 
سليم» حيث يتحوّل النقاش حول الأفكار إلى ملاحقة أمنيّة؛ 
وأرى أن لا تظهر على الملأ خلافات العائلة المالكة وأن 
تكون نموذج الوئام والوحدة. ما فتعثٌ أعتقد أن التنوّع 
يقوّي الوحدة وأنَّ وحدة الواجهة فقط هي وحدة زائفة. 
كنت أعتقد أنّنا يمكن أن نعمل في هذا الإطار ولكنّ ذلك 
يبدو مستحيلا. اليوم تعيش الملكيّة على إيقاع الخشونة 
وكذلك العائلة الحاكمة؛ وهي تحتاج لكل مقوّماتها لتودّي 


4 2 
الفكر الجدي 


<كجكر 


دورها كاملًا. لذلك أودّ أن آخذ مسافة ولا أصبح الأداة التي 
يستعملها آخرون لإضعافها عن وعي أو غير وعي (...) 
كما أنْي لا أحبّذ أن أنخرط في تصعيد لسنا بالضرورة قادرين 
على التحكم فيه للحفاظ على المستقبل. 

أجريتٌ أيضًا مقابلة مع صحيفة الموندو الإسبائيّة نُشرت يوم 4 ؟ 
شباط (فبراير)» وهي ذات طابع سياسيّ أكثر من الأولى» حيث 
قلت إِنْ المغرب ”ضيّع فرصة تاريخيّة ليصبح بلدا ديمقراطيًا", 
وأنْ المغاربة» ورغم طموحهم إلى التغيير» فشلوا في التنفيذ 
العمليّ» وأنّه من المهمّ في نظري ألا نلوم الملك وحده عن هذا 
الفشل» لأنه فشلنا الجماعيّ» فشل النخبة والشعب وفشلي أنا 
أيضاء فلم نقدر على تحويل الانفتاح الحاصل في نهاية عهد 
الحسن الثاني إلى اختراق ديمقراطيّ حقيقيٌ 

لم أستئن نفسي من هذا الفشل لأني أعتبر أن عودتي إلى برينستون 
تجل له سججلتٌ ابي في المدرسة الفرنسيّة المحليّة» وكان 
كل شيء على ما يرام؛ بالنسبة إليهماء نا بالنسبة إل فالأمر 
أصعب. كلّما تأمّلت الدناءات التي كتبت عنّي» وكلّ هذا الم 
الزُعاف الذي يقطر من الأقلام المسجحرة وهي تصوّر رجلا 
يأكله الحقد وهو يسعى للإساءة إلى ابن عمه الملك وزعزعة 
عرشه... يا لها من مسرحيّة شكسبيريّة بائسة. لذلك» أصبحت 
أنظر بعين الإحباط إلى المجتمع المدنيّ والصحافة المستقلة في 
المغربء؛ وبدا لي في تلك الظروف وكأنْ حجمهما الحقيقيٌ 


م 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


أقل من صورتهماء وهذا لا ينتقص أبدّا من الاحترام الذي 
أكنّه لبعض الأفراد» منهم على سبيل المثال أبو بكر الجامعيّ 
مدير أسبوعية لوجورنال أو سيون أسيدونء الرئيس السابق 
لفرع المغرب لجمعيّة محاربة الرشوة. ولكن عمومًاء بدا لي 
أنّ وزن المجتمع المدنيّ والصحافة المستقلة مبالعٌ فيه. لقد 
أفلحت السلطة في اختراق الجمعيّات وتطويعهاء والسلطة 
لها ما يكفي من الأدوات لذلك. أمَا عن الصحافة المسمّاة 
حرّة» فقد استطاعت فعلا أن تخلق متاعب جمّة للسلطة دون 
أن تزلزلها بشدّة. لقد عاشت لحظة مجدهاء واستفادت من 
توسّع مساحة حريّة التعبير» وأصبح لبعض الصحافيّين الشباب 
سلطة قاضي التحقيق دون أن تكون لهم المسؤوليّات نفسهاء 
وبدؤوا يقتتحمون هكذا كل أنواع ”الملفّات" فيسيئون بسهولة 
لرجال السياسة أو رؤساء الشركات. إِنّْه حقًا دور يَشْعر صاحبه 
بالنشوة والنفوذ» والمتعة. لقد ظهر بعضهم بشكل مثير على 
شاشة ني.في.ه وكتب آخرون افتتاحيات بأسلوب المدّعي 
العام. عندما ينتهي يوم العمل» يلتقون في ملاهي الدار البيضاء 
الراقية مثل لو بوزل أو لو فندينغو لشرب قارورة من الويسكي 
كما يفعل الشباب في عمرهم. أما مواضيع أحاديثهم المفضّلة 
فقد كانت محدودة: ملك الفقراءء الأمير الأحمر» الجيش» 
بلطجيّة الأجهزة» المفسدون, والظهير الخارجيّ والشخصيّات 
البارزة في تاريخناء كملاذ أخير. لم يعتمد المخزن استراتيجية 


عض 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


محدّدة ضد هؤلاء ”الصحافيين الجدد“»؛ كما كان هناك من قبل 
”"الفلاسفة الجدد” في فرنسا. لقد استعمل معهم سياسة العصا 
والجزرة. أما الأحزاب السياسيّة» ففضّلت لو تم إخراس هذه 
الجرائد التي تبنت فجأة خطابًا غير منبطح كالمألوف؛ والحقّ 
أن مناجاتها الخافتة للملك ومساوماتها المعتادة جرت بإشراف 
القصر ومباركته. من يكون إذن هؤلاء المتمرّدون الذين لا 
يعرفون انضباطا ولا لياقة ثم يطالبون بنصيبهم من الغنيمة؟ بأيّ 
حقٌ ينبغي للسياسة ألا تبقى حكرًا على من أوصله إليها نُسَبه 
وحَسّبه؟ رهانهم كان على السلطة؛ والمكانة البارزة في الساحة 
العامة وعلى المال الذي يسمح للعجلة أن تدور. 

لقد كانت ثورة بدون غدء ولم تساهم في أي انتقال» ثم تقدّم 
العمر بهوّلاء الصحافيّين الشباب دون أن يطوّروا الخطاب» 
وححكوًا لقرّائهم كلّ الحكايات الممكنة» صغيرها وكبيرهاء من 
”أسفار الملك“ إلى ”ثروة الملك“» مرورًا بمولاي هشام وبن 
بركة والشيخ ياسين؛ والجنرال أوفقير وأسرته بأكملهاء وفضيحة 
العثور على النفط في منطقة تالسينت» وسجن تزمامرت. إلى أن 
شحّحت المواضيع وفرغت الجعبة ولم يبق هناك ما يستحقٌ الكتابة 
لأنه لا يحصل شيء أصلًا ولأنّ الوضع لم يتغيّره والحكامة في 
المغرب بقيت على حالها. كما أنَّ بعضهم انساق وراء الربح 
ومنهم من أعماه الطمع, فتأسّست مقاولات لها رساميل محترمة 
ومنطقها اقتصادي» ينافس بعضها بعضًا ولا يتردّد أحدهم في 


1 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


طعن زميله مضحًيًا بالمهنة وبالأخلاق. 

أما الأمر المؤفسف في هذا المشهد, فهو أن العدد الإجماليٌ 
للقرّاء لم يرتفع مع مرور الوقت. وعندما يزداد عند صحيفة معيّنة 
فإنه ينقص عند جارتهاء ويبقى المجموع مراوحًا مكانه» وكأن 
”خرّان“ القدّاء ظل متواضعًاء سواء أصحاب الميول الديمقراطيّة) 
أو حتّى المواطنون العاديُون الذين يحرصون قليلا- ولهم الموارد 
الماديّة ‏ على ممارسة حقّهم في فهم ما يجري في البلاد. بين 
الفينة والأخرى تقدّم صحيفة جديدة فتستأثر بالانتباه برهة قصيرة 
من الزمن ثُمْ تنلاشى» ولم ترتفع نسبة المواطنين المشاركين في 
النقاشات التي أثارتها تلك الصحف بمجهوداتهاء ولم تبرز 
بمفعولها أيّة ديناميّة اجتماعيّة» فظل الفاعلون السياسيّون وغيرهم 
يمتلون أدوارهم في المسرحيّة أمام فئة ضئيلة وأبواب المسرح 
مقفلة» يمرّ أمامها الجمهور العريض ولا يكترث لها. 

إذا كانت حريّة التعبير قد اكتسبت مساحات جديدة واسعة» 
إن انتغلال هذه المساحة كيفما افق قاد إلى تبخيس تلك 
الحرية. ومع ذلك لابد من الإقرار بأنه وبعد سنوات عديدة, لا 
زال هناك صحافيّون أكفاء وصامدون. منسجمون مع أنفسهمء 
لا يساومون ولا يخافون لومة لائم» ولكن قليلة هي المنشورات 
التي فرضت نفسها بقوّة وتحوّلت إلى مؤسسات يقام لها ويُقعد. 
أين هو السبق الصحافيّ والكشف عن المفاجآت» وأين التفاعل 
السريع مع الخارجء مثلما كانت لوجورنال في المغرب ولوموند 


1 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في فرنسا نُصدران في اليوم نفسه تحقيقًا مشتركًا عن قضية اغتيال 
بن بركة؟ هل أصبحت الصحافة المغربيّة مهتمة فقط بالأنباء 
المناطقيّة وبالترّهات؟ كما أن جودة الصحف لم تتحسّن بشكل 
مستمرٌ. ولماذا تكثر الصحف الفضائحيّة المعتاشة على أخبار 
القصر البسيطة بينما يفضّل جل المغاربة متابعة قناة الجزيرة بحنًا 
عن الأخبار؟ 

بغض النظر عن هذه الهمومء لا بد أن أعبّر عن الامتنان العميق 
لكل من دافعوا عنّي بقوة واقتناع» ودافعوا من خلال مؤازرتي 
عن مبادئ الديمقراطيّة» وعلى رأسهم أبو بكر الجامعي. إِنْه 
صحافيّ ذكي ووطنيّ وله أفكار واضحة رغم بعض النزوات 
الذاتيّة العابرة» كما لا أنسى محمد حفيظء المدير السابق 
لجريدة الصحيفة» والمسؤول السابق عن الشبيبة الاتحاديّة» الذي 
تحلّى بالشجاعة ورفض مقعدًا برلمائيًا لأنّ فوزه كان موضوع 
تلاعب خبيث من طرف إدريس البصري لتشويه سمعته؛ ثُمٌ 
هناك الحسين مجدوبي بحيدة» وهو مدّرس وصحافيّ مقيم في 
إسبانياء نم المرحومة لطيفة بوسعدان الصحافيّة والناشطة ضمن 
الجمعيّة المغربيّة لحقوق الإنسانء التي توفيت رحمها الله أواخر 
0» ثم على لمرابط, ذو الميل الانفعالي وقد سبق ذكره» 
وعلي عمّار الذي يتغلب عليه الخداع على الذكاء. ومعظم هؤلاء 
يعيش الآن خارج المغرب. 

يوم 7 أيّار (مايو) »75٠0٠7‏ شهد المغرب ١١”‏ أيلوله“» أي ما 


القن 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


يعادل الهجمات على مركز التجارة العالميّ والبنتاغون في عام 
١‏ في الولايات المتحدة. لقد خلفت الهجمات الإرهابيّة 
في عدة مناطق من الدار البيضاء 45 قتيلًا بينهم ١١‏ انتحاريًا. 
عندما سمعت الخبر العاجل على الهاتف» وجدتٌ صعوبة في 
تصديقه» حتّى تأكد لي وأنا أشاهد قناة سي. أن. أن. لقد خشيتٌ 
أن تكون الهجمات مدبّرة من طرف الأجهزة؛ ونظرًا ”لسوابقي“ 
خشيت أن يسعوا لإقحامي مرة أخرى في هذه المأساة. بعد مرور 
الوقت» ورغم أنْ الغموض لا زال يلفٌ تفاصيل هذه الهجمات» 
فإن هذا الشعور يعكس حجم الريبة التي أصبحت تلازمني 
إزاء تلك المخلوقات الاستخباريّة الخشنة أكثر من السؤال 
عن الحدث نفسه. مباشرةً بعد ذلك» أعلن الملك ”نهاية عهد 
التساهل*» وصدرت عشرة أحكام بالإعدام. في أعقاب القمع 
الواسع النطاق الذي تلا الهجمات» نشرت أسبوعية لوجورنال 
عددًا تحمل صفحته الأولى عنوانا معبّرًا: ”عدالة المجازر“. 

لقد برهنت تفجيرات الدار البيضاء بما لايدع منّسعًا للشّك على 
وجود صيغة للإسلام خارجة عن نطاق مراقبة النظام الملكي ولا 
علاقة لها بتأويله التقليدي للدين. هذه هي الرسالة الأولى. أمّا 
الثانية» وهي لا تقل أهميّة عن الأولى» فهي أن المغاربة عبّروا 
لول مرّة بالارهاب عن احتجاجهم ضد الفوارق التي تشكل 
أساس المجتمع المغربيّ. أخيرًاء وهذا هو الدرس الثالث» فقد 
اضطربت سمعة المنظومة الأمنيّة التي تتباهى بإحكام سيطرتها 


رضن 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


على الأوضاعء وانهارت صورة تلك القوة التي لا تُقهر. بالنسبة 
إلىء يُعتبر ١5‏ أيّار (مايو) علامة فارقة» وإشارة إنذار للماللات 
الجديدة. في وقت لاحق» برزت إشارات أخرى مثل تصريح 
” أنا أميل للنظام الجمهوري“ الصادر في صيف عام ٠٠١6©‏ 
عن نادية ياسين ابنة الزعيم الراحل لجماعة العدل والإحسان 
الإسلاميّة» ثم انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات إلى أقل 
من /7٠‏ عامًا بعد ذلك. 

إن هجمات ١١‏ أيّار (مايو) ٠٠٠١7‏ تتطلب إعادة تفكير في 
العلاقة بين المحلي والعالمي فيما يتعلّق بالإرهاب. ما هو كنه 
هذه العلاقة في حالة المغرب؟ قبل تفجيرات الدار البيضاءء كانت 
جميع أجهزة الاستخبارات تدرك أن المملكة خرّان للإرهاب 
الدولي» وأن هناك جهاديّين دون أن يكون لهم بالضرورة مشروع 
راديكاليّ مغربيّ. لكن عندما وقعت الانفجارات في أيّار (مايو) 
٠٠٠١ *‏ فوجئ الجميع وهم يكتشفون أن الانتحاريّين لهم خلفية 
اجتماعيّة مشتركة) ومعظمهم يقطنون الحيّ العشوائيّ نفسه. 
هل هذا يعني أن الفقر هو الدافع المحلىّ للإرهاب؟ إذا وسّعنا 
الأفق نجد أن التهميش يغدذّي الفكر الجهادي أكثر من الفقر. أمّا 
آذار (مارس) 54 »3٠٠١‏ عامًا واحدًا بعد الدار البيضاءء فيبدو أنهم 
كانوا مندمجين بشكل جيّد في المجتمع الذي أرادوا تدميره؛ 


ض 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


القناعة العميقة بأن جماعة المؤمنينء الأمّة» باتت مهدّدة: فانبئروا 
للدفا ع عنها. 

إن الخطر بالطبع هو أن يستغل الجهاديّون الاضطرابات 
الاجتماعيّة الناحمة عن الفقر. وإذا كانت تفجيرات الدار 
البيضاء تعتبر إرهابًا مستوحًى من ظاهرة عابرة للأوطان» فإن 
هذا ”الخارج“ بدأ يتجذّر في التربة المغربيّة. هم إذن مغاربة 
يقولون لمغاربة آخرين: ”إن مجتمعنا منشطرٌ اجتماعيّاء ونحن 
نعيش هذا الانشطار كل يوم ولا نريد انطلاقًا من اليوم أن نقبله“» 
وهذا يعكس فشل الملكيّة العلويّة المزدوج: أَوَلا فشلها في 
ضمان حد أدنى من المساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفشل 
في الحفاظ على إسلام مغربيٌ متميّز كما كان الحال لعدة قرون» 
ورمزه الملك في جلبابه الأبيضء راكبًا فرسه ومستظلا بمظلته. 
فإذا فقدت هذه الصورة معناها الأيقونئ» فقد الإسلام المغربيّ 
خصوصيّته وقوّته في الحفاظ على التماسك. إِنَّ المؤسف هو أن 
السلطات لم تتعلم شيئًا من تفجيرات الدار البيضاء واستمرّت في 
حكم البلاد وكأنّ شيئًا لم يتغيّر. 

على الصعيد الدولي» جرى استخلاص الدروس السيّئة من العنف 
الإسلامي: بدلا من تجريم الإرهاب؛ فضّلت الولايات المتحدة 
تسيس الجحياة لقن قكل تهات ١‏ أيلول (سبتمبر) ٠.٠١١‏ 
عدوانًا على أميركا ما كان ينبغي أبدًا أن ترد عليه بحرب تحمل 
رسالة حضارية» كان عليها أن تلاحق المسؤولين عن الهجمات 


فض 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


على مركز التجارة العالميّ والبنتاغون فقط. ولكنّ المحافظين 
الجدد في الولايات المتحدة استغلّوا ١١‏ أيلول (سبتمبر) لمآرب 
سياسيّة لتشييد تحالف مقدّس في الداخل والخارج وتبرير 
سيطرتهم على العالم العربي, الأمر الذي عبّد الطريق أمام أسامة 
بن لادن. لقد كانت الحرب ضد إرهاب القاعدة فكرة طائشة 
وغير منطقيّة» عملقت صورة ”الوحش” بن لادن ورفعت من 
شعبيّة جورج بوش» فانخرطت الولايات المتحدة في حملات 
عسكريّة لتغيير بعض الأنظمة» أو لأجل ”بناء“ الدول القوميّة 
في العالم العربي بدلا من تعزيز الديمقراطيّة داخله. لقد سخّرت 
قوّات هائلة لضرب صدام حسين وحركة طالبان في أفغانستان» 
أفريقيا والشرق الأوسط. كانت أميركا عنيدة في الصراع ضَد 
الكسالى والضعفاء» في حين بقيت صديقة النجباء الذين اقتربوا 
وتدمير التها الحربية» كان الأحرى بالولايات المتّحدة أن تدعم 
بشجاعة الديمقراطيّين في العالم العربي» ولو تضرّرت مصالحها 
كقوّة عظمى على المدى القصيرء في المملكة العربيّة السعوديّة 
على وجه الخصوصء ولكن أيضًا في مصر والجزائر والمغرب. 
في عام 250١١‏ وبعد لأي» كشف الربيع العربيّ هذا الخطأ 
نفسها في حرب على جبهات هي التي بادرت إلى إشعالهاء بينما 


ين 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


إِنّي أقدّر أنه ليس من السهل على أي قوّة أجنبيّة أن تعمل من 
أجل الديمقراطيّة دون اتهامها بالتدخّل فيما لا يعنيهاء فلا يمكنها 
أن ترفع علم قضيّة هي بقوّة الأشياء من صميم إرادة شعب ليس 
شعبهاء ولكنّ الخارج يمكنه أن يساعد على خلق بيئة مواتية 
للقوى التي تحمل هم التغيير. ولكن قبل الربيع العربيّ» ساد 
عكس ذلكء فأميركا تجتّبت الإساءة إلى حسني مبارك» وفرنسا 
حتّى بعد أن انتقلتٌ إلى الولايات المتّحدة» استمرٌ مطبخ المخزن 
في إنضاج ”المؤامرات“ ثم وَسُْمي بأني مُهندسهاء فأدافع عن 
الاختياريٌ فأنا أزور المغرب متى أشاءء وأظلّ فردًا من العائلة 
الملكيّة وإن أبعدت عن القصر. ليس الشرق وحده معقّدًا... 
فالمغربء أقرب البلاد العربيّة من الغرب» يحمل أعباء صراعات 
خفيّة على أعلى مراكز السلطة. 

في مدريد تحقيقًا مع ثلاثة عناصر من الأجهزة المغربيّة» ونشرت 
الخبر وكالة أوروبا برس. في عددها الصادر في 7 كانون الثاني 
(يناير) أوردت صحيفة لراسون المحافظة أن العناصر المغاربة 


تقض 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كانوا في مهمّة لمراقبتي بمعدّات إلكترونية متطورّة. كنت في 
إسبانيا لحضور ندوة حول ١١‏ أيلول (سبتمبر) .7٠0١‏ تسرّبت 
القضيّة إلى الصحافة ولكن لم تُثر الانتباه الكافي فاختفت» ثم 
عادت للواجهة يوم ١5‏ تشرين الأوّل (أكتوبر) عندما نشرت 
جريدة الباييس وبعدها لوموند بيانًا وقعته مجموعة تسمي نفسها 
”الضباط الأحرار للقوات المسلحة الملكيّة.“ بالإضافة إلى 
تحسين الظروف المعيشيّة للعسكرتيّين» يطالب النصّ الموجّه 
للملك بمحاربة الفساد المستشري بين كبار الضباط وإحالة 
الجنرالاات المشتبه بهم على التقاعد” . دك ولكن ما محلّي 
من الإعراب؟ لقد نظم فؤاد عالي الهمّة في منزل الطيّب الفاسي 
الفهري» كاتب الدولة في وزارة الشئؤون الخارجيّة؛ اجتماعًا مع 
ثمانية صحافيّين مغاربة ليشر ح لهم أني أقوم بالتحكم من الولايات 
المتّحدة» عن بُعد وبشكل سرّي بالضبّاط الغدَّارين والذين ليسوا 
أحرارًا على الإطلاق. يا لها من فكرة عبئيّة! عندما أتأمّل الوقائع 
اليوم» أعتقد أنْ حكاية هؤلاء الضبّاط الأحرار المفترضين؛ 
هي من بنات أفكار العنيكري من همزتها إلى يائها. في خضمٌ 
الحدث,ء يوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر)؛ دخلت جون أفريك على 
الخط عندما كتب فرانسوا سودان أنَّ احتمال تورّط مولاي هشام 
هو من الاحتمالات الجدّيّة. ”إنْ أطروحة المبادرة الفرديّة» أو 
قليل من الضبّاط الساخطين» والتي يجري قطفها وتضخيمها 


يي 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وتسييسها من طرف مجموعة ضغط تحوم حول أفكار ”الملكيّة 
الجمهوريّة* التي يجسّدها الأمير مولاي هشامء هي أطروحة 
لا ينبغي استبعادها. “ هذا كلام كله تعقيد وغموض. لكن ما هو 
المعنى؟ إِنَّ هذه الاختلاقات هي طبخات سم طبخت كلها في 
مطبخ السلطة المغربيّة» وهذا ما يفسّر الاختلاقات الأخرى. 

في ”١‏ أيّار (مايو) 27٠٠07‏ وفي إطار متابعة قضائيّة ليست هي 
الأولى. التي يتعرضي لهاة خكم غلى الصحائن المغريي علي 
لمرابط بأربع سنوات سجن, وغرامة ٠٠٠٠١‏ درهم (حوالي 
٠‏ أورو) وحظر منشوراته الأسبوعيّة: دومان الفرنسيّة 
وأختها دومان بالصيغة العربيّة, لأنه أعاد نشر حوار مع المعارض 
العنيد عبد اللّه زعزاع» نقلا عن الصحافة الإسبانيّة فقرر على 
لمرابط خوض إضراب مفتوح عن الطعام احتجاجا على الحظر. 
يوم ١١/‏ حزيران (يونيو) تم تخفيض العقوبة إلى ثلاث سنوات» 
ولكنّ الصحافيّ لم يتراجع عن إضرابه فأصبحت حياته في خطر 
حسب الأطباء. في أعقاب ذلك كتبتٌ رسالة إلى وزير العدل 
المغربيَّ» أطلب فيها وبأسلوب يحترم الأعراف؛ أن يُسمح لي 
بزيارة السجين المضرب عن الطعام» والذي أعرفه منذ التقيته بعد 
عودتي من كوسوفو عند دبلوماسيٌ صديق مشترك لنا. إكتشفت 
ذلك اليوم شابًا ذكيًا ولكن قناعته الصلبة لا حدود لها ولا كابح 
لطاقتها. لقد حاول النظام كل الأساليب ضدّهء وأخيرًا وصل إلى 
استنتاج مفاده أَنَّ التدابير المتطرّفة وحدها قد تنفع معه» فعَمد إلى 


5م 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


استعمالها بالفعل. في أسبوعيَّتيْه العربية والفرنسيّة» كسّر لمرابط 
كل التابوهات» فهاجم الجيش والملكيّة معرّرًا مقالاته برسوم 
كاريكاتوريّة لاذعة, فكان منتجه فعّالَا وقويًا. 

شاءت الصدفة أن يقع بيت لمرابط في العمارة نفسها التي يقطئها 
السائق الذي اشتغل طوال حياته في خدمة والدي. ذات يوم 
كنت في زيارة هذا الرجل المسنّ؛ التقيت في درج العمارة علي 
لمرابط الذي بادرني: ”أيها الأمير» هلا تفضّلت بالدخول إلى 
منزل صحافيٌ بسيط متواضع؟“ إِنّها دعوة لا تُرفض من باب 
المروءة... وهكذا وجدتني في مكان تعمّه الفوضى: أوانٍ 
مبعثرة» قدورٌ مرميّة فيها فول سوداني» فلا تدري أين تجلس» 
ولكن ما العمل... 

وافق وزير العدل على طلبي بصورة استثنائيّة... في بعض الأحيان 
تكون صفة الأمير ذات جدوىء فذهبثٌ إلى مستشفى ابن سينا 
يوم ١9‏ حزيران (يونيو) وهناك وجدثُ في انتظاري مدير إدارة 
السجون ومدير المستشفى ورئيس الشرطة؛ فرافقوني إلى الطابق 
العلويّ حيث يزدحم خمسة عشر من السجناء المرضى» فصفقوا 
وهتفوا: ”عاش الملك!“. وسط هذا الهرج والمرج أبصرتٌ 
علي لمرابط جالسًا على كرسي» نحيفًاء ملتحيًا وحالته يرثى لهاء 
فقال: ”01, الآن فهمثُ لماذا نظفوا الزنزانة هذا الصباح! هل 
أنت هنا لأن سيدْنا أرسلك؟" بدلا من الردٌ عليه» قمت بجولة 
سريعة لأحيّي الحضورء بينما لمرابط يقدمهم إليّ: ”لا تسلّم 


فض 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


على هذا الرجل» فهو من جهاز 2757؛ في الصباح يضع صْمّادة 
على مخرته وفي المساء يركض سريعًا كأنه في سباق ١١١‏ أمتار 
حواجز!“ أخيرًا وجدت نفسي أمام رجل أفريقيٌ نحيف وصامت 
وقد كسرت ذراعه» فعلمت أنه من الكاميرون» حاول العبور 
إلى أوروبا عن طريق البحر فأَلقِي القبض عليه ويننظر الترحيل. 
خاطبني فجأة: ”هذا أنتء أنا أتابع أخبارك منذ مدّة في الصحافة 
الدوليّة» وكنت أعرف أن أمرك سينتهي هكذا ويطرحونك في 
السجن! * ضحك الجميع؛ فاغتنمت فرصة هذه اللحظة المشرقة 
وعدت إلى لمرابط. إستمرٌ حوارنا ثلاثة أيام. كان الرجل مقتنعًا 
أنه إذا أوقف إضرابه عن الطعام سيفقد ماء وجهه. عاملني بأدب 
لكنّه استرسل في هجاء عنيف للعلويّين لا أستطيع سرده هنا من 
فرط بذاءته. في الوقت نفسه كان السجن يوي صحافيًا آخر 
هو مصطفى العلويء والذي لاحقني بإلحاح: ”إن لمرابط معتوه 
وعنيد» ولا يريد الخروج من السجن, فليمكث فيه! أمّا أنا فعندي 
أولاد وأحفاد ومريض بالسكري, وليس لدي أيّة رغبة في البقاء 
هنا. تنخرني الأسقام» فلو تحدّثت معي لكان أفضل!“. 

كانت أعصابنا متوثرة لكنّنا ضحكنا كثيرًا. أراد المجلس 
الاستشاريّ لحقوق الإنسان أن يدخل على الخط ليسجل في 
ميزان حسناته توقَّقًا محتملا عن الإضراب عن الطعام. كان 
لمرابط يشرب الماء بكميات كبيرة أملا أن يستطيع التبوّل على 
وفد المجلس عندما يأني لزيارته» وقد فعل ذلك في غيابي من 


لض 4 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


بين الحظ! تقد شاوال اطايسق يبوله الفتان مهدي لقعلبي 
بيد أنه أخطأ الهدف فلم يلطّخ هذا الذي لا يكل ولا يمل من 
مدح محمّد السادسء ‏ نم أفلح حين قذفه بحذاء نسائيّ قديم كريه 
الرائحة» مدسوس تحت سريره؛ ويعود للمرحومة عمّته... وراء 
كل هله االقاضي .والانعفرازات المبياة نيّة» بقي لمرابط مصمّمًا 
على الموت وهو رجل حرّء راجيا أن تسيء وفاته إلى صورة 
محمّد السادس إلى الأبد. من جهتي أعتقد أنّ من مصلحة قضيّة 
الديمقراطيّة أن يساعد المرءٌ النظامً على تحرير نفسه بدلا من 
الدفع به إلى الانغلاق والمزيد من التشدّد والقمع. حاولتٌ إقناع 
لمرابط بلقائي وناشدته أن يكفّ عن التهرّرء كما حذّرته من 
احتمال إصابته بإعاقة جسديّة دائمة دون أن يموت» وفي هذه 
الحالة» سيشمت به كثيرون. كما اقترحت عليه؛ في مقابل إنهاء 
إضرابه عن الطعام؛ أن يرتجلني رئيسًا لتحرير مَجلّته؛ فيضمن 
أن الصحيفة لن تتوقف عن الصدورء ويستطيع أن ينشر باسمي 
المقالات التي سيكتبها في زنزانته كي تنتصر حرية التعبير! لقد 
حاولت معه كل الحلول» بل قلت له إِنّي أعرف أنه يكنز ماله في 
إحدى الأواني المهترئة في منزله» ووعدته الذهاب لأخذ ماله 
لتمويل جائزة علىٌ لمرابط» بعد وفاته.. 
في اليوم التالي تنازل لمرابط بشرط واحد: أن أقرأ نضًا أعدّه خلال 
ندوة صحافيّة مبرمجة في اليوم نفسه, 77 حزيران (يونيو)» في 
مقر أسبوعية لوجورنال» بحضور روبير مينار» الأمين العام لمنظمة 


أحرض 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


مراسلون بلا حدود. بطبيعة الحال يعتبر قبولي لشرطه عنوان 
استفزاز ضد السلطة, لم يترك لي خيارًا آخرء فقرأت النصّ» 
وهو في الحقيقة نصّ معتدل. في اليوم التالي مُنعتُ من دخول 
السجن لزيارته بينما هو مكث في سجنه حتّى كانون الثاني 
(يناير) 4 ٠٠١‏ حيث صدر في حقّه عفو ملكيّ» وظلّت جريدته 
محظورة. ثم التقيته بعد مغادرته السجن ولكن اضطربت علاقتنا 
بسرعة بعد أن راح يضمّد جراحه في الجزائر» بينما أنا بقيت 
وطنيًّا على النمط القديم. ثم انتقل لمرابط إلى إسبانيا ليشتغل 
صحائيًا في جريدة الموندوء قبل إنشاء موقعه الرقمي غداً أون 
لاين. ثم حافظنا على علاقات ودّيّة لا غير. 

في اليوم السابع من كانون الثاني (يناير) 4 235٠١‏ تزامن العفو 
الملكيّ عن علي لمرابط و5" سجيئًا سياسيّاء مع إعلان الملك 
إنشاء هيئة للونصاف والمصالحة» لجمع شهادات ضحايا سنوات 
الرصاص. كانت خطوة كبيرة غير مكتملة: من ناحية» سوف 
يتم التدقيق في أحداث الماضي وتعويض ضحاياه» ومن ناحية 
أخرىء؛ ستبقى الذاكرة الجماعيّة منقوصة بسبب عدم الكشف 
عن المسؤولين عن الجرائم على كل المستويات؛ ومساءلتهم. 
إذن سيجري تعويض الضحاياء أمّا الجلادون المجهولون فلن 
يمشهم عقاب. حسنًا إذن» ولكن تبقى المبادرة أفضل من لا 
3 

إن البحث والتدقيق في تاريخ طويل من التعذيب دون تسمية 


رف 1 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


الجناة بأسمائهم يبدوان أمرين صادمين للمنطق. من باب الحدس 
العفويء أنا أويّد إلقاء الضوءء كل الضوء على سنوات الرصاص. 
في الوقت نفسه. إِنّ العمل على الذاكرة لا يمكن أن يتحقّق إن 
هو جاء معرقلا للتحوّل الديمقراطيّ. في تشيلي والأرجنتين» 
مرت سنوات عديدة قبل أن تفتح ملفات سنوات الظلام دون 
المساس بالانتقال الديمقراط. في إسبانيا والبرازيل بقي النبش 
في الضمائر غير مكتمل. في المغرب» أعتقد أن هذا العمل 
سيتحقّق في المستقبلء لأنْ قيام ديمقراطيّة حقيقيّة لا يستقيم 
دون المرور عبر هذه المحطة» ولكن يراودني الشك أن ذلك 
سيحصل في عهد محمد السادس. 

في نيسان (أبريل) ٠٠٠١7‏ اندلعت ”قضية عصير البرتقال". 
قام عبد الكريم مطيع زعيم الشبيبة الإسلامية» المعارض اللدود 
للحسن الثاني» والمستقرٌ في ليبياء بإرسال نسخة من كتابه مع 
رسالة تقديميّة إلى عدد من الشخصيات اختارني من بينها. 
وصلني الكتاب ومعه رسالة خطيّة» فأرسلت إلى العنوان نفسه 
رسالة شكر ضصْمَّنتُها التأكيد على مواقفي الليبراليّة. في يوم * 
نيسان (أبريل) اختطف عناصرٌ الشرطة أحدّ الموالين لمطيع يدعى 
السبابي» وهو سائق سيّارة أجرة في منطقة وجدة» وأجبروه على 
شرب عصير برتقال يحتوي على مخدذرات. ثُمْ أجبروه تحت 
مفعولها على كتابة اعتراف يؤكد فيه أنّي أموّل ما تبقَى من تنظيم 
الشبيبة الإسلاميّة. ولكنّ المخدر أحدث ثقبًا في معدته فتّقل إلى 


رض 2 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


المستعجلات الطبية وهناك روى ما حدث له للطبيب» فساعده 
هذا الأخير على تنظيم ندوة صحافيّة ليشرح أن ما كتب وهو في 
ضيافة د. أس. ت لا علاقة له بالحقيقة! وقد كشفت الفضيحة 
صحيفةٌ الشرق الجهويّة. إنّها فقط مهزلة أخرى تُضاف إلى رصيد 
الملفات المفبركة الفاشلة. هل الأمر مضحك أم مبك؟ 

... حلقات المسلسل مستمرّة. ففي شهر اب (أغسطس) 4 ٠٠١‏ 
انفجرت ”قضية المنظري". في ليلة الثالث إلى الرابع من اب 
(أغسطس) قتل هشام المنظري بالرصاص في مرأب للسيارات 
تحت الأرض في منطقة كوستا ديل سولا الإسبائيّة» وهو فرد 
من البلاط الملكي :+ كانت علاقتي الوحيدة به هي أنني ذات 
يوم أشبعتّه لكمًا! الرجل بحماية المديوري؛ رئيس الأمن الملكي 
في عهد الحسن الثاني» إذ سمح لنفسه أن ينتحل صفتي مرارًا 
خلال أسفاره عبر العالم؛ يحجز غرف الفنادق باسمي» ويطلب 
المأكل والملبس باسميء» والحسن الثاني لا يحرّك ساكنًا. ذات 
يوم تلقِيتُ مكالمة من صديق أردنيّ يسألني: ”هكذا تتفاوض 
حول صفقات الفوسفات نيابة عنّا مقابل عمولة؟ لماذا لم 
تخبر نا؟“ صعقتني المفاجأة» فشرح لي الصديق: ”على ما يبدو 
أنت لديك موعد قريب في لندن للقاء شخصيّات هنديّة ستبيع لها 
الفوسفات الأردنئ. “ إستقللتٌ أوّل طائرة إلى لندن واكتشفتثٌ 
فعلًا أن المنظري يستغل اسمي وينتحل صفتي فيؤدّي دور 
الوسيط ويتقاضى عمولات محترمة... انَصلتٌ بسفارة المغرب 


ضف 11 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فحاولت منع إقلاع طائرة الخطوط الملكيّة المغربيّة التي استقلها 
هذا المُحتال» لكنٌ المسؤول عن مكتب الشركة في المطار 
تلقّى اتصالا من المديوري يأمره فيه بالسماح للطائرة بالإقلاع. 
عند عودتي إلى المغرب غاضبًاء قصدت الحسن الثاني» الذي لم 
ينكر وجود مشكلة: وإن بدا مُحرجحَاء لم يعد حلا لهاء لأنّ صاحبنا 
المنظظر قي هى الم شقى فين الشر فار اله المللك المقشلة: 
بالإضافة إلى ذلكء استخدم المنظري جواز سفر يحمل صفة 
”المستشار الخاص للملك"» ”سرقه" أو حصل عليه في ظروف 
مبهمة كما هي مبهمة كل ملابسات القصّة. في غضون ذلك» 
صادفتٌ هشام المنظري في حفل زفافء فانفردتٌ به وحاولت 
أن أعيدّه إلى رُشده؛ أمام عناده انتهى لقَاوْنا في المطبخ حيث 
كسّرنا بعض الأواني» ثمْ طردّه من الباب الخلفي وعدت إلى 
الغرس. اي ا بعد أَيّام» ناداني 
الحسن الثاني: ”هل هذا سلوك أمير؟"» فأجبتة أنه لم يحرّك 
ساكمًا لحل المشكلء نم استفززته قليلا وأنا أسأله إن هو يعد 
المنظري أكثر أهمية متي» أحرجه سؤالي» وتهرّب من الجواب 
سائلا بدوره: ”أين تعلمتٌ البلطجة في تسوية الحسابات؟” 
”عندكم طبعًا أين تريدونني أن أتعلم ذلك؟” 

طبعًاء أُعدني رمزيًا بركلة في المؤْخَرة» أمَا المنظري فكفٌ عن 
انتحال اسمي. بيد أنّه فعل ما هو أسوأ من ذلك. ففي عام 2١91515‏ 
وجد الجرأة لتهديد الحسن الثاني» عندما اشترى مساحة إعلائيّة 


رضض 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


في صحيفة الواشنطن بوستء زاعمًا أنه قد يكشف عن أسرار 
الملك الأكثر حميميّة» كما أنه أمضى عامين في السجن في ولاية 
فلوريدا لانتهاكه قوانين الهجرة في الولايات المتحدة» وأخيرًا 
اذّعى علنًا أنه الابن الطبيعي للحسن الثاني. 

لقد كان آخر اتصال لي مع هشام المنظري غير مباشر. إتصل بي 
صحافيّ مستقل ترك لي رسالة في فندق بلازا أثيني في باريس» 
ليخبرني أن المنظري يسعى لتصفية حساباته مع ”شقيقه“ محمد 
السادس» وأنه يحبّني أنا ”ابن عمه“ وأنه مستعدٌ لإمدادي بوثائق 
وصور من شأنها الإساءة للملك. فأجبته أنه قد أخطأ العنوان» لأني 
لا أعجن في مثل هذا المعجن؛ وأني أشاهد محمد السادس على 
شاشة التلفزة بما فيه الكفاية فلا حاجة لي للصورء ثم أخبرت فورًا 
الشرطة الفرنسيّة فدوّنت محضرًا بأقوالي. ثم قتل المنظريء فإذا بي 
أفاجَأ وأنا أقرأفي جريدة ليبراسيون يوم 77 آب (أغسطس) 4 ٠٠٠١‏ 
أن أحد الجوانب الأكثر حساسيّة في هذا الملفٌ هو الصلة الوثيقة 
التي كانت تربطنا أنا وإيّاه. أرسلت على الفور تكذيبًا إلى رئيس 
التحرير باتريك ساباتيه الذي كشف لي أنهم استقوا معلوماتهم من 
مصدر في سفارة المغرب بفرنساء ثم نشر تكذيبي في اليوم التالي. 
على الرغم من ذلك وبعد ثلاثة أيام أعيد نشر المعلومات نفسها 
تقلاعن المصدر المغربيّ من بعض الصحف المغربيّة وعلى رأسها 
أوجوردوي لوماروك. يا لها من حكاية أبطالها الملك ومحتال من 
القصر يجيد الابتراز وأمير مشاكسء ثم ينتهي كل شيء كما يليق 


عم 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الأرض في إقليم كوستا ديل سول الإسبانيّ! 

في شباط (فبراير) 5 7٠٠١‏ » صدر مقال بقلم سيمون مالي في مجلة 
لونوفال أفريك آزي بعنوان ”عاصفة تهبّ على الملكيّة“» يتحدّث 
عن اجتماع عقدّته في كانون الأول (ديسمبر) ٠٠١5‏ أجهزة 
أمنيّة أميركيّة وناقش وجود خطط لاغتيالي. بطبيعة الحال؛ لا 
أعرف أي شيء عن هذه القصّة» ولكنّ المعلومة أثارت الكثير 
من الصخب في المغرب وأضفت على هالة الضحيّة. سألتني 
أسبوعية لوجورنال عن رأبي في الموضوع فأجبت هكذا: ”مهما 
كانت المشاكل التي تواجه المغربء لا أستطيع أن أصدّق أن 
أحدًا سيبلغ به الجنون إلى حدّ التفكير في حلها عن طريق اغتيال 
شخص ما“. أخيرًاء في حزيران (يونيو) ٠٠١٠©‏ اندلعت ”قضية 
نادية ياسين”» ابنة المرحوم عبد السلام ياسين الزعيم الكاريزمي 
لجماعة العدل والإحسان الإاسلاميّة الراديكاليّة. لقد صدحت 
لصحيفة الأسبوعيّة الجديدة تقريبًا بما أعلنته من قبل خلال ندوة 
عقدت في بي ركلي» وهو تفضيلها الشخصي ل ”نظام جمهوري“ 
بدلا من ”نظام أوتوقراطي“ الذي تقول عنه إِنّه سوف ”ينهار 
قريبًا“ ون دستوره الحالي يستحقّ أن ينتهي في ”مزبلة التاريخ. “ 
في اليوم التالي في الثالث من حزيران (يونيو) استّدعيت نادية 
ياسين من قبل الشرطة القضائيّة وجرى تقديمها للعدالة. في 


3 


باريس» في ختام ندوة نظمها المعهد الفرنسي للعلاقات الدوليّة 


حأيضن 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حول ”اندماج الحركات الإسلاميّة في الأنظمة السياسيّة في 
الدول المسلمة“؛ طلب منّي التعليق على تصريحاتها فقلت إِنَّ 
نادية ياسين مخطبة إن كانت تعني أن النظام الملكي يتعارض مع 
الإسلام لأنّه لا يوجد تحديد لنوعيّة نظام الحكم لا في القرآن 
ولافي الحديث النبوي. ظللت محافظا على اللياقة في جوابي» 
من باب المبدأء ثم لأني مقتنع بضرورة إدماج الإسلاميّين في 
العملية السياسيّة» ولكن كدت أكون الوحيد الذي حافظ على 
برودة الدم في نقاش تحوّل إلى جدل صاخبء فاختلط كل شيء 
بكل شيء وجرت مهاجمة نادية ياسين بعد تصريحها. في هذه 
الظروف, أرسلت لها رسالة للتعبير عن اعتقادي بأنّه على الملكيّة 
أن تقبل النقاش؛ كما أكدت رأبي حول صلب الموضوع: ”إن 
موقفكم يبدو لي خاطًاء فلا بدٌ أن أعبّر عن هذا الاختلاف معكم 
في وقت تتلمّس فيه بلادنا سبل الانفتاح (...). لقد تشكل النظام 
الملكيّ من تجربة تاريخيّة طويلة للمجتمع المغربيّ الذي جعله 
المؤْسّسة المركزيّة للأمة. إِنْها مسؤوليّة محمّزة وصعبة لأنّها 
تعني أنّه في كلّ مرحلة حاسمة من تاريخناء يجب على هذه 
المؤْسّسة الاستجابة لتطلعات شعبنا. في الوضع الذي نعيشه 
اليوم» تكتسي هذه المسؤؤوليّة طابعًا استعجاليًا وشديد الإلحاح» 
وواجبنا جميعًا هو أن نسخْر جهودنا لتلبية مطالب وتطلعات 
الشعب المغربيّ بجميع مكوّناته. أما بالنسبة للدستور» فمن 
الضروري القيام بإصلاحه لكي نرتقي بنظامنا في الحكم إلى 


ضرض ل 
الفكر الجدبد 


<جكر 


مستوى الأنظمة الديمقراطيّة الحقيقيّة (...). إِنْ تحليلي هذا 
يعكس اختلافي الأساسىّ مع مواقفكم دون أيّ مساس بالمسألة 
الجوهريّة المتعلقة بحريّة الرأي.“ ثم أخبرتٌُ نادية ياسين عبر 
محاميها أنني أعتزم حضور محاكمتها. ما أثار حفيظة المخزن 
فأرغى وأزبد. أما الصحافة الرسميّة فقد وجهت إلى تهمة السعي 
لقلب نظام الحكم الملكيّ بالتعاون مع الإسلاميّين. 

أزهرت المكائد الوضيعة التي سردتها أقلامُ صحافة تمتهن الإساءة 
المجّجانية وكيل الاتهامات بدون أدلّة: لقد زعموا على التوالي أنّني 
على اتصال مع ضبّاط غير أوفياء» ثم مع جبهة البوليساريوء وأنني 
”قريب» من الإسلاميّين أو أي معارضة أو انشقاق خارجيّ أو 
داخليّ آخر. لقد رسموا صورة إجماليّة نْمْ أضيفت لها التفاصيل 
الدقيقة» فأصبحت الصورة تجسّد ذلك الشخص المضطرب» 
اللامسؤولء» وبطبيعة الحال» بما أنه حاقد فلا بد أن قلبّه يفيض 
غيرة من الملك. ولتشويه الصورة أكثر أضافت أسبوعيّة الحياة 
الاقتصادية أنِي متورّط في اختلاسات ماليّة. 

إِنَّ المخزن يشبه إلى حدّ كبير ذلك الغول مصّاص الدماء الذي 
لا يحبٌ الضوء. لقد رددتٌ على مكائده علائيّة» وبالأدلة» دون 
الخرو جعن نطاق نقاش الأفكار» رافضًا أن أنحني» داعيًا أصحاب 
الحجج إلى نقل النقاش إلى المحاكم: هل هناك مشكلة أو شبهة 
ما؟ حسنّاء افتحوا تحقيقًا قضائيًا وسوف نرى! لقد انخرطتٌ 
في معركة من أجل الرأي العام؛ وأجبتٌ على المهاجمين دون 


خض 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الانزلاق إلى مستوى القدح» فدافعتٌ عن الملكيّة بطريقتي» فيما 
كان المعسكر المقابل» يدّعي أّني أريد دفنها. 

عندما ألقي نظرة إلى الوراء» تزيدٌ قناعتي أن المسلسل كله من 
إنتاج الثنائي حميدو العنيكري وفواد عالي الهمّة. هذا الأخير 
رفيق الملك السابق في الدراسة والذي أصبح أقرب المقرّبين إليه 
ذو نفسيّة غير سعيدة وهو حريصٌ كُلَّ الحرص على التمشّك 
بصلاحياته. إنه يتمّى لو أن محمد السادس يصبح مُلكه الخاص» 
وقد استطاع استغلال الجنرال العنيكريء هذا الشبح الخشن 
الذي يطير من الفرح وهو يتمسّح بأعتاب العرش. وعندما 
يحاول إقحامي في تهديدات حقيقيّة أو و هميّة» فإنَّ رجل الظل 
هذا يسعى لجذب انتباه الملك إليه» وعندما يربطني بالانشقاق 
والتمرّد على أنواعه فهو» في الحقيقة» يريد تخويف الملك 
ليصبح هو الرجل الضروري الذي إذا اختفى تنفطر السماوات 
و”تنشقٌ الأرض وتخرٌ الجبال هذا" . 

هل كان الملك يجهل كلّ ما يحدّث باسمه؟ هل يعقل هذا؟ 
في مملكة مثل بلدناء هل يستطيع أحد أن يتهجّم علانئيّة على 
أمير بدون إذن مسبق من الملك؟ إِنَّ الجواب متضمّن في طرح 
السؤال ذاته. ولكن ما الذي كان محمّد السادس يهدف إليه 
يا تُرى؟ أن أفقد التحكم في أعصابي؟ في نهاية المطاف. إِنَّ 
التهججم على شخصي هو تهِجّم على العائلة الملكيّة التي أنتمي 
إليها علمًا أن رئيسها هو الملك. هل غاب عن محمّد السادس 


ارقن 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الوعي إلى درجة أصبح معها يصوّب مسدّسًا إلى رأسه؟ أعترف 
بأني أصبحت أجد متعة وأنا أتأمّل هذه الحالة الغريبة. على سبيل 
المثال» ذكرت جريدة الصحيفة أن فؤاد عالي الهمّة والجنرال 
العنيكري طلبا من خبراء في القانون الدستوريّ أن يجدوا مخرجًا 
قانونيًا لبسحبوا منّي لقب الأمير» ولكن لسوء حظهم, طلع الأمر 
مستحيلا سابقةٌ تُسيء إلى الجميع. لم يستطع المخزن أن يذهب 
إلى هذا الحدّء ولكنّه واظب على تصويب الطلقات في اتجاهي 
وإن أصييت الملكة روساصة طاتقات يا لدج غناءا 

إستنفد المخزن كل ذخائره. في شهر آب (أغسطس) ٠٠٠١٠‏ 
صرّح فواد عالي الهمّة لجريدة الأحداث المغربيّة أن القصر ليس 
لديه مشكلة معي» وأني عضو في العائلة المالكة ولذلك أستحقٌ 
الاحترام بصفتي هذه. كانت هذه أول إشارة إلى وقف إطلاق 
النار. بعد ذلك» سوف تحدتٌ هنا وهناك بعض المناوشات 
ونُشَنُ بعض الحملات الإعلاميّة» ولكن مسلسل الرسوم 
المتحرّكة الأسود انتهى» ذلك المزيج الغريب بين والت ديزني 
وهارلان كوبن. لقد تمرّقت بَكرة الشريط السينمائيّ وعاد النور 
إلى قاعة العرضء هيا اخرجواء اخرجواء فيلم رعب وانتهى! 


عرض 0 
الفكر الجدبد 


<جكر 


الفكر الجديد 0 
21 


الفصل السّادس 
خليج هافمون 


لسوء حظي» واجهتني متاعب عدّة عندما استقررتٌ وأسرتي في 
مدينة برينستون في كانون الثاني (يناير) .5٠0٠7‏ أُوَلَا سلسلة 
من النزاعات القضائيّة» مثل تلك الشغالة الإنجليزيّة التي رفعت 
شكوى ضدّي زاعمة أنْها لم تحصل على أجرتها كاملة؛ الواقع 
أن شروط العقد احثّرمَت حرقيًا. هناك أيضًا صديق اشتغل 
معي كمستشار ثُمْ أحالني إلى القضاءء ثمْ اقتفى أثْرَه شركاء 
أو موظفون يعملون معي» فكروا بالمنطق الكلاسيكي الدنيء 
نفسه: ”هذا الرجل تخلّى عنه الملك» وضعه هش إِذّا هذا هو 
الرنت المنابي مهاج وخر ازه وريم الجال البريع 8 

ولآني دافعك عن نفسئ قر الإمكان» : لمت ألا أ فى الوعود 
الشفويّةبل أونّق كل الالترامات بدقّة ووضوحء و”أحصّن"“ 
العقودءكما تعلّمت أيضًا ألا أشتغل إِلّا والمحامي بجانبي, لأنّي 


١غ"‏ 
افر الجديد ١‏ 
لكر 


دفعتٌ الثمن غاليًا كلما أغفلتٌ هذه القاعدة. 

مع ذلكء وفي هذه الأوقات الصعبة» أثلجَتْ صدري شهاداتٌ 
صداقة ووفاء عبّر عنها أصدقاء من ذوي القلوب النبيلة. أولاها 
من طرف زوجين من الفليبين كانا يحرسان منزلي في برينستون 
منذ العام .١94/7‏ في نهاية كل شهرء يشتري هذان الزوجان 
ورقة يانصيب ويراهنان على الرقم نفسه منذ عشرين عامًا. في 
يوم من العام 7٠٠٠١7‏ طلبت زوجتي من هذا المستخدم أن 
يقوم بعمل ما في الوقت الذي كان فيه على وَسْك الذهاب 
لشراء ورقة اليانصيب كعادته» فطلب من مليكة إن كان بإمكانها 
أن تشتري له الورقة وتراهن بمجموعة الأرقام الملصقة على 
النلاجحة. كانت المفاجأة أن هذه السلسلة من الأرقام فازت 
هذه المرّة بالجائزة الكبرى! ولكن لسوء الحظ أخطأت مليكة 
عندما نسخت الرقم الأخير» فسججلت ‏ بدل 28 وبذلك فوّتت 
على الرجل وزوجته فرصة ربح عدّة ملايين من الدولارات! 
فماذا فعل الرجل لما علم بالأمر؟ أمسك التذكرة وابتسم 
لمليكة» ثم مرّقها بهدوء وهو يقول: ”لا بأس يا سيّدتي» أنا 
أشتغل عند زوجك منذ عشرين عامّاء وقيمة هذا الأمر أكبر 
بكثير من الفوز في اليانصيب» فلا تشعري بأيّ إحراج“» ثم 
لم يعد لا هو ولا زوجته للحديث عن الموضوع أبذدّاء واستمرٌ 
كل شيء كما كان من قبل. بطبيعة الحال» عندما وصلا لسنّ 
التقاعد وعادا إلى بلدهما الفليتين» حرصت على أن يعيشا بقية 


دض 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حياتهما دون الحاجة إلى اجترار هذه القصة المؤسفة. 

في أميركا بدأتثٌ حياة جديدة» حياة مهاجر. في البداية سحب 
مني محمّد السادس صفتي الدبلوماسيّة بينما احتفظ بها أخي 
وأختي» وبالتالي فقدتٌ امتياز تأشيرة الإقامة الدائمة في الولايات 
المتحدة. أخبرتني القنصليّة الأميركيّة أنه علىٌ أن أسوّي وضعي 
القانونيّ لأنّه لم تعد لي أيّة مهام رسميّة بالمغرب» فحصلتٌ 
بسرعة على تأشيرة سياحيّة لمدّة عشر سنوات. بوصفي ”سائيا» 
لا يمكنني أن أسجّجل بناتي في المدرسة! لحسن الحظ كانت 
زوجتي مليكة قد عاشت من قبل في أميركا فحصلت بسهولة 
على ”البطاقة الخضراء" التي تسمح بالإقامة الدائمة» وبعدها تم 
إصدار تأشيرات طلبة لابنتينا علمًا أن الصغرى هاجر لا يتجاوز 
عمرها ثلاث سنوات. بعدهاء وتفاديًا لأيّة عراقيل أو مخاطر 
تجود بها علينا المملكة» حصلت مليكة والبنات على الجنسية 
المزدوجة؛ فتذكرتُ كيف أصررتٌ من قبل على أن تنجب 
زوجتي في المغرب... أما اليوم فانا سعيك أن عائلتي بحماية 
النسر الأميركئ. أما طلب الجنسيّة الأميركيّة لنفسي» فتلك 
حكاية أخرى لايزال حاجز نفسي يحول بيني وبينهاء والحصيلة 
أني أعيش وسط عائلة أتميّز فيها وحدي بصفة غير الأميركيّ! 
ثم جاءت الخطوة التالية وهي الحصول على رقم الضمان 
الاجتماعيّ. لأجل ذلك كان على أن أذهب إلى مدينة ترينتون, 
عاصمة ولاية نيو جيرسي وقد خرجت من هذه التجربة بعبر 


يك 42 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


كثيرة. لأول هرّة في حياتي وجدت نفسي وسط طالبي تلك 
الوثيقة الآتين من جميع أصقاع الدنياء وخاصّة المهاجرين 
الجدد ومعظمهم من المكسيك أو من بلدان أفريقيا جنوب 
الصحراء الكبرى» انتظرت دوري أمام الشبّاك وأنا أرهف السمع 
للميكروفون كي أسمع اسمي عندما ينادى علىّ. 

فاسمي يطرحٌ إشكالا سأسرده؛ عندما ذهبتٌ للدراسة في الولايات 
المتحدة أصدرت لي وزارة الشؤون الخارجية المغربيّة شهادة 
تفيد اسمي ‏ هشام بن عبد الله مولاي وهو لقب الشرفاء» لكن 
شهادة الميلاد التي أعطيت لي تتضمن كلمات ”صاحب السمو 
الملكي الأمير “ ثم ”مولاي هشام“ كاسم شخصئ. وبسبب هذا 
التناقضء كان علي أن أقوم بتصحيح وثائق هويّتي» بإجراء إداري 
سمح لأميركا بِعَلْمَنة اسم أمير من ذريّة الرسول! 

من الواضح أني من المهاجرين الميسورين» وقد ساعدتنا 
الإدارة الأميركيّة على تسوية وضعناء كما أني حافظتٌ على 
العديد من الصداقات من أيّام دراستي الجامعيّة في الولايات 
المتحدةء وعلى الأخص في برينستون؛ كما أعدتثٌ الاتصال 
ببعض أساتذتي القدامى» منهم كليفورد غيرتز» وهو واحد من 
آباء الأنثروبولوجيا الحديثة» وهو بالنسبة إليّ معلعٌ صاحب جرأة 
فكريّة باهرة» لن أنسى يومًا هندامه ولحيته وحمّالاته الحمراء. 
ثْمّ هناك جيم كافانو» وهو أستاذ فخريّ في اللغة الإنجليزيّة في 
جامعة برينستون؛ يساري من أصل إيرلنديء وقد عمل سكرتيرًا 


4 17 
الفكر الجدي 


<كجكر 


شخصيًا لي لمدة ثلاثين عامّاء وله شخصيّة قويّة» وأنا مدينٌ له بما 
قدّمه إل من مساندة إلى أن تقاعد في العام 1 ,70١‏ وظلّ إلى 
اليوم صديقًا عزيرًا ومونّمنًا على أسراري. 

أخيرّاء على عكس العديد من المهاجرين, لم أكن أفتقر إلى الموارد 
الماديّة. إن الاستقلال المالي أمر مهم للغاية» وعندما قدمتٌ إلى 
الولايات المتّحدة» حمدتٌُ الله على تحرّري من هيمنة أية سلطة 
سياسيّة» أيّا كانت» وأنشأت الطيار للطاقة شركتي الخاصّة في 
عام 445 .١‏ في يوم من الأيّام» في أبو ظبي» قدّم لي حون سعد 
وهو لبنانيّ أميركيّ يشغل منصب المدير الماليّ المسؤول عن 
مشاريع 05615» عرضًا مُقنعًا جدًّا عن فوائد الطاقات المتجدّدة, 
ونحن في قلب إمارة نفطيّة! مباشرة بعد ذلك شرعنا في المغامرة 
بمساهمة عدد من الشركاء»؛ منهم الفلسطينيّة المتميّزة نادية 
أبو جبارة» واللبناني سهيل عبود. أنشأنا مقرّنا الرئيسي في أبو 
ظبي» وبعد دراسة مستفيضة للخيارات المفتوحة» تخلينا عن 
الطاقة الشمسية والهوائيّة وقرّرنا إنتاج الطاقة البيولوجيّة أو 
الكتلة الحيويّة. للأسفء في العام 25٠١١‏ توفي جون سعد من 
جراء مرض السكريء والتحق بنا بيتر سميث» مهندس أميركىٌ 
عمل في عهد الرئيس جيمي كارتر في وزارة الطاقة» وصار هو 
المحرّك الجديد للمشروع. 

إعتمدت الفكرة على إنتاج الطاقة من النفايات الزراعيّة. أجرينا 
التجارب الأولى في تايلاند» في مصنع قريب من مدينةكورات. 


كل 5 
الفكر الجدي 


<كجكر 


كانت العمليّة تبدأ باستخلاص النشويّات من المواد النباتيّة» ثم 
توضع هذه النشويّات» وهي عبارة عن ماذة بيضاءء؛ في خرّان 
الوضيع فمارء اللخترات وناج كار اماد ل وري اجات 
الذي يغطي د تحت 0 لوا إنها تقنيّة 07 أصل 
مح سه 
للمصنع, فقد كان يدرٌ أرباحًا سنويّة تناهز مليوئًا من الدولارات. 
بناء على هذا الإنجازء انضمٌ إلينا مستثمرون اسيويون فأعدنا إنتاج 
التجربة في لاوس وفيتنام. بالموازاة» طوّرنا مشروعًا في تايلاند» 
المنتج الرئيسيّ للأرز في جنوب شرق أسياء لإنتاج البخار 
والكهرباء عن طريق إحراق قشور الأرزٌ. في هذا المشروع 
انضم إلينا شريكان هما: شركة رولز رويس وشركة شوبو وهي 
موسّسة يابانيّة متعدّدة الجنسيات ومختصّة في الكهرباءء» فبدأنا 
نبيع التيّار الكهربائيّ للمورّع المحلّيء شركة إيغات التايلانديّة 
التي تربطنا معها عقود لمدّة خمسة وعشرين عامًا. 

هذا النجاح أصايّنا بشيء من النشوة» وقد استفقنا منها عندما 
ارتكبنا أخطاء ابتداء من عام 7 :7٠٠‏ في مصنع الديزل الحيوي 
في مدينة شيفيلد الإنجليزيّة الذي أشرت إليه آنقًا. كنا نحاول 
تطوير تكنولوجيا متقدّمة لتحويل الشحم الحيوانيّ إلى ديول 
لكن: توسيع نطاق التفاعلات الكيميائيّة أذى إلى اختفاء الأنزيمات 
فحصلا في نهاية المطاف على مادة الصابون. هذه الصعوبة 


حك 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الصناعيّة أخذت بُعدًا أكبر عندما أصاب الذعرٌ شركاتنا في رأس 
المال نظرًا لغياب أرباح بعد ثلاث سنوات من الاستثمار. أخيرًا 
باعت شركة 417 المصنع كله واشترت من مصرف دهطةرمط 
وخدة إنتاج ضخمة بالقرب من روتردام كانت قد أفلستء فأعدنا 
هيكلتها بالشراكة مع 105زبه8/2017 » وهي مسسة بلجيكيّة 
متعدّدة الجنسيّات. أمّا في كنداء فقد واجهتنا أيضًا صعوبات مع 
شركائنا في مصنع للديزل الحيوي بالقرب من كالغاري في ولاية 
كل هذه المعطيات تعني أنه بعد استقراري في برينستون» 
أصبيحت أنشطة شركة الطيّار في صلب حياتي الجديدة 
كمقاول. إنْها حياة لا تخلو من صعوباتء ولا بد أن أشير إلى 
أي استفدت من الدعم الدائم والراسخ لبعض الأصدقاء ذوي 
فحلونه رئيس البنك المغربيّ للتجارة الخارجيّة (81/1012) 
الذي لم يترذد» في وقت حرج للغاية» في تغطية ديّْن مستحق 
على من أمواله الخاصّة: علمًا أنه قد يخسر الكثير. أما اليوم ومنذ 
في برينستون وواشنطن ومن بينهم عشرات المهندسين» وكما 
هو الحال بالنسبة لأيّة شركة» علينا أن نتعامل مع الصعوبات 
وتقلبات الأسعار والانقلابات والفيضانات. لقد استطعنا إحراز 
بعض النجاحات التكنولوجيّة» وربط تحالفات صناعيّة جديدة» 


م 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وإذا كنا لا نضاهي حجم الشركات الكبرى في ميدان الطاقة 
فنا في بعض الحالات نزاحمها وننتصر عليها بفضل مرونتنا. 
قد تبدو هذه التجربة عاديّة بالنسبة لآخرين, ولكنّها بالنسبة إلىّ 
ثورة ثقافيّة» إذ شعرتٌ للمرّة الأولى أني أساهم في خلق الثروة» 
ليس فقط بالنسبة إليّ ولكن أيضًا في خدمة قضيّة أؤمن بها. في 
لحظات الفرح وخيبات الأمل» أحسست بشيء جديد» إحساس 
المرء بأنّه ينفع غيره» أي باختصار أن له مهنة يزاولها. 

بطبيعة الحال» لم أكن لأتخلى عن السياسة؛ بل عملت على تنظيم 
شبكة دوليّة من الباحثين لأجل تحفيز الفكر وإنتاج المفاهيم» 
نشتغل على موضوعات ذات اهتمام مشترك» فأخذنا ننظم 
لقاءات عصف فكريٌ وحلقات دراسيّة وندوات» وقد تعمّدنا أن 
تظلّ هيكلتها بسيطة لأنّ الهدف المنشود هو اكتساب المعرفة. 
في الوقت نفسه؛ كان لا بد من مواجهة الموجة الصاعدة 
للمحافظين الجدد في الولايات المتّحدة الأميركيّة. لقد استطاع 
جورج بوش والصقور من حاشيته تحويل هجمات ١١‏ أيلول 
(سبتمبر) ٠٠١١‏ الإجراميّة إلى رأسمال سياسيّء ثم قاموا بتعبئة 
تصاعديّة لصالح حربهم الشاملة ضدٌ الإرهاب في مواجهة 
الجهاد. يقودهم هاجس أعمىء وذلك الحماس التبشيري 
المبالغ فيه ضدٌ دول العالم الثالث» والعالم العربي. لقد شكل 
غزو العراق في أذار (مارس) ,5٠٠٠١*‏ لحظة الخطيئة القاتلة 
التي ترتكبها العجرفة الجاهلة وضميرها مرتاح. لكنّ أميركا 


8 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لم تستوعب هذه الحقيقة إلا بعد أن تركت الفرصة للمحافظين 
الجدد ليعيثوا في الأرض فسادًاء وقد هاجموا عدة مرات المعهد 
الذي أنشأته في برينستون» لدرجة أن دانيال بايبس ومارتن 
كريمر» اللذين يتزعّمان منظمة ب16ة1! كتعاط التي هاجمت 
أيضًا جامعة كولومبيا في نيويورك» ذهبا إلى حدّ التصريح أمام 
الكونغرس أن برينستون يموّلها أمير عربيّ يعادي إسرائيل ويعادي 
الساميّة» ولا يدعو أبدًا للمحاضرات إلا الفلسطينيّين ولا يدعو 
الإسرائيلتِين أبدًا إلا من كان منهم مؤيّدًا للفلسطينتئين. أمَا مدير 
المعهد» صديقي وأخي في الوطن عبد الله حمّودي» فقد تعرّض 
لهجوم عنيف بغية تنحيته» لكن استطعنا أن نصمد جميعًا بفضل 
شهادات المؤازرة والدعم»ء فحافظ على منصبه. في وقت لاحق» 
عندما اختار هو بنفسه أن يغادر المنصب» عيّنت الجامعة خلفًا 
له هو برنارد هيكلء, أستاذ جامعئٌ شابٌ يفيض طاقة وموهبة؛ 
وقد جرى التعيين وفقا لميثاق تضمن من خلاله الجامعة استقلاليّة 
المعهد عن أجندتي الخاصّة» وهكذا سيواصل المعهد أعماله في 
البحث والجهد الفكري والنقاش» كما كان من ذي قبل. 

في هذا المناخ, أصبح المغرب وملكه الشاب» بالإضافة إلى 
الأردن» النموذج الذي يستدل به المحافظون الجدد وهم على 
رأس السلطة الأميركية» عند تقديم مشاريعهم الخارقة للعادة, 
والهادفة إلى إعادة رسم العالم العربئّ» على شاكلتهم. لقد كانت 
لديهم مخططات حقيقية لتغيير الأنظمة في مصر وربما في 


امدق 8 
الفكر الجديد 


<جكر 


المملكة العربيّة السعوديّة تحت ستار الديمقراطيّة» ولكتّها في 
الواقع في خدمة الهيمنة الأميركيّة. في ظل هذا التصميم الذي 
غرق في مستنقع العراق» افترض الأميركيّون أن يؤدّي المغرب 
دور المساعد الطيّع. وبالفعل» فقد اغتّر محمّد السادس بوهم 
الفرصة الجيوسياسيّة؛ شرعوا في إيكاله بعض المهامً» ثم انتتهى 
بهم الأمر إلى تهميشه كأفضل تلميذ مجتهد في هذا الشرق 
الأوسط الأميركيّ الجديد الذي لم يُكتب له البقاء» قبل أن ينفل 
الربيع العربي خططهم في العام .7١١١‏ 

كلما عدت إلى المغربء أدركني الماضي عبر التنضّت على 
مكالماتي الهاتفيّة» وملاحقتي من مكان لآخر كما أن سيّارة 
تقف أمام مكتبي أو منزلي ولا تغادر مكانها. هذه ”خدمات" أنا 
بغئّى عنها. خلال تلك الزيارات أحافظ على علاقات مع ”النخبة 
الراقية“ المغربيّة» تقف عند اللياقة الضروريّة ولا تنجاوزها. أمّا 
علاقتي بأهلي في الشرق الأوسطء سواء الأقارب أو الأصدقاءء 
فقد حدّدنا نوعًا من الاتفاق الضمنىّ حول السلوك: لا أمرٌ عبر 
الديوان الملكيّ ولكن يُظل مُرَحَبًا بي في البيت» وهكذا أحافظ 
على الأواصر وأطوّرها دون إزعاج أحدء ابتداء من محمّد 
السادس. هناك استثناء واحد لهذا الاتفاق: الشيخ محمد بن زايد 
بن سلطان آل نهيان» الذي أضحى وليّ عهد أبوظبي» والذي 
ابتعد من تلقاء نفسه فأصبحت علاقتنا مطبوعة بالفتور. 

أمَا عن أسرتي المغربيّة» فالأمر أكثر تعقيدًا. عندما حوصرتٌ 


كا 5 
الفكر الجديد 


<كجكر 


بكل تلك المكائد الخبيغة واضطررت للذهاب إلى أميركاء لم 
يظهر أي دعم علنيّ لا من جهة أمي ولا أخي ولا أختي» حيث 
اعتبروا أن الأمر لا يتجاوز مبادرات يقوم بها موظفون أصحاب 
حماس مفرطء» وهذا منطق لا معنى له في ظل نظام مثل نظامنا. 
لقد شعرتٌ أنّهم في قرارة أنفسهمء ورغم اعترافهم بأنْ انتقادي 
للبلاط الملكيّ قد يكون مبرّراء إلا أنّهم في الوقت نفسهء 
لا يتقتلون أن يتمد المرء على عشيرته» وهذا معناه أن نكيل 
بمكيالين: واحد للحسن الثاني والآخر لمحمّد السادس. 

منذ ذلك الحين؛ كلّما زرتٌ المغرب»؛ شاب لقاءاتي مع أهلي جوٌ 
مثقل بكلام مضمرء بينما الحديث في السياسة من المحرّمات» 
وكذلك عن الملك؛ وكأن محمد السادس أصبح شبحًا بينناء 
تمامًا كما أصبحتٌ ولا شك شبحًا بالنسبة إليه» لأني ”ابن عمه 
المنبوذ“. أختي للا زينب تحاول ألا تجرح مشاعريء أما أخي 
مولاي إسماعيل فهو يعلم أن قربه من الملك هو أيضًا بسبب 
غيابي عن القصر... وأخيراء فإِن التدكر من طرف والدتي 
تجربة تؤلمني كثيرًا. في الماضيء كانت بالمرصاد لأدنى أفعال 
وتصرّفات الحسن الثاني إزاءنا ولا تنظر إليها إلا بعين مرتابة. 
بالعقابل» افد سف مكاعاى بياض لمحمة الساديس» وكبدد 
له المسوّغ في كل ما يقُدم عليه لدرجة أَنّي أشعر وكأنها تعاتبني 
باستمرار على موقفي النقديّ حيال الملك الجديد؛ دون أن 
تُفصح عن هذا العتاب. إنه حقًا لأمرٌ لا يخلو من غرابة أن تجد 


ا 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


امرأة مثلهاء وهي المناصرة الشرسة لقيم التقدم» وفي الوقت 
نفسه تَتَخَذْ من محمد السادس هذا الموقف المتسامح. إن ابنة 
الزعيم الجمهوريٌء التي جاءت إلى القصر بفستان لا بقفطان» 
وتخرّجت من جامعة السوربون» وشجّجعت والدي طوال حياته 
على الابتعاد عن التقاليد» تبدو اليوم مختلفة تمامًا. بطبيعة 
الحال» محمّد السادس هو ابن أخ زوجهاء تربّى وترعرع أمام 
عينها وليس لها معه أي حساب, بل على العكسء لقد وححَدّتهما 
معاناة المواجهة العصيبة مع الحسن الثاني. 

مثل كل عمّات محمد السادس؛ حصلت والدتي في العام /01 ٠٠١‏ 
على وسام الوشاح العلويٌّ الأكبرء وهو أرقى وسام في المملكة, 
وهنا بلغ التناقض أُوْجَهُ بيننا: أنا العلويّ ولكنّي متمرّد في حالة 
شرود بالنسبة إلى وطني وإلى العائلة الملكيّة» وهي القادمة من 
بلاد أخرى تُوشّح بالوسام الكبير وتعترٌ به. إن أمّي وأخي وأخني 
ينتتمون اليوم إلى فضاء محمّد السادس والقصرء هذا الفضاء الذي 
لن أعود إليه بعد اليوم أبدًا. 

في صيف عام ,7١٠١٠‏ كنت أقضي العطلة مع مليكة والأطفال 
على الساحل الشمالي للمغرب» حيث لدينا عاداتنا: منزل على 
الشاطئ» وأقارب وأصدقاء وجيران نسعد بلقائهم كل مرة. لقد 
وُحدت يومًا في هذا المنزل البحريء وتحديدًا في القبو أبحث 
عن المعكرونة حسبما أتذكر, فجأة» لمحت من نافذة صغيرة 
موكبًا من السيارات قادمًا إلى المنزل» وعندما صعدت من القبو 


حكن 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وجدتٌ بابه مُمَمَلَا. لقد أصاب الذعرُ أخي وحَشيَ أن يُزعج 
حضوري زيارة الملك أو الملك بنفسهء فأغلق الباب وتركني 
سجيئًا أكثر من ساعة» مكثت جالسًا أعلى الدرج إلى أن غادر 
محمد السادس. عندما فتح مولاي إسماعيل الباب قلت له: 
”كان يكفي أن يخبروني بالزيارة» وسأنسحب بهدوء من تلقاء 
نفسي." 

في الصيف نفسه؛ وبالضبط يوم ١١‏ آب (أغسطس)» وهو يوم 
عيد ميلاد الملك؛» مرّت قوارب الصيد كعادتها كل عام قبالة 
القصر الصيفيّ الملكيّ. وبما أنَّ ابنتيّ تحبّان محمد السادس 
كما يحبّهماء فقد حرصتا على المشاركة في هذا الاحتفال» 
فحملت كل واحدة بيدها لافتة ملوّنة على شرف الملك؛ كما 
كانت القوارب مزيّنة بشتّى الألوان كأنها عربات استعراض 
خلال الكرنفال. راقبت المشهد من الشاطى» وحيدًا شاردًا في 
أفكاري. 

في العام ه . لم يكن إرث والدي قد حُل بعد. صحيح أنه إثر 
تَبِوّوُ محمد السادس العرشء غادر المدير المالي 6 
بممتلكاتنا منصبه وهو يظن أنه بعد وفاة الحسن الثاني سيجد 
ملفنا طريقه للحل دون صعوبة تذكر» هذا الرجل هو المفضل 
لحلوء المدير العام لصندوق الإيداع والإدارة» وهو بالمناسبة 
أكثر استقامة من سلفه المدير المالي الأوّل. لكنّ المخزن كان له 
رأي آخرء وليس معنى ذلك أنْ محمد السادس أراد عرقلة ميراثناء 


عم 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


ولكنّ عادات المنظومة المظلمة لا تتبخر بين ليل وضحى. لقد 
رفض قاضي الملك كل إجراء إداريّ دون أمر صريح من الملك؛ 
ورفض تحديد قائمة ذوي الحقوق. ولكن هل يجدر أن نلقي 
عليه اللوم علمًا أن ممتلكات العائلة الملكيّة» في الواقع وليس 
حسب القانون» لا يمكن الاطلاع عليها في المحافظة العقاريّة, 
إلا بموافقة الكتابة الخاصّة للملكء والتي تتهرّب بدورها في 
غياب تعليمات صريحة؟ باختصار. إِنْ استراتيجيّة الجمودء هي 
أحسن استراتيجيّة وأقلّها جهدًا لتفادي إغضاب الملك وهي التي 
حكمت على قضيّتنا أن تمكث بلا حل. 

أمام هذا الوضع قرّرت أن أتحرّك. كان صهري محمد بن 
سليمان قد قام بالوكالة عن أختي بعرقلة قسمة عقار بالقرب 
من عملية الاستيلاء» لأحدث زلزالا قويًا. استعنثٌ بمحام بارع 
لكي أقنع أخي مولاي إسماعيل برفع دعوى قضائيّة ضدٌ شقيقتنا. 
بطبيعة الحال» نحن لا نريد الإساءة إليها. ولكنّ الهدف من هذه 
الخطوة غير المسبوقة في المغرب» حيث لا ينطبق حكم القانون 
على العائلة الملكيّة» هو إثارة انتباه محمد السادس. وقد أثبتت 
في المحكمة حتّى استدعى الملك في مساء اليوم نفسه. مولاي 
إسماعيل لتوبيخه؛ ثم محاميًا من الدار البيضاء ليأمره بسحب 
الشكوى في اليوم التالي» فأجاب المحامي أن المحكمة لا 


ه؟ 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تشتغل يوم السبت» فغضب الملك ونهره قائلا: ”إذا لزم الأمرى 
اذهب إلى المحكمة وأنت بلباس النوم لسحب الملف!"“ ثُمْ 
أمر الملك موقا محترمًا مقبّبًا من عائلتنا أن يشرف على قسمة 
ممتلكاتناء قائلًا: ” لا يستقيم أن أطويّ ملف انتهاكات حقوق 
الإنسان وأن لا أطوي ملف قضيّة عائليّة“. رغم هذه الإرادة 
الملكية فقد استغرقت عمليّة التصفية أربع سنوات: حصر 
الممتلكات بدقّة) إعادة النظر في تجزئة بعض الأراضي بصفة 
غير قانونيّة» التخلص من المقيمين غير الشرعيّين عليهاء وتسديد 
المستحمّات المتراكمة» قبل أن يأخذ كل ذي حقٌ حقّه؛ ثلاثين 
عامًا بعد وفاة والدنا رحمه الله! 

ملاحظة على الهامش: كنت قد توقعتٌ رد فعل محمد السادس» 
ولكن فوجئتٌ برد فعل أختي. عندما جاءها المبلّغ القضائيّ 
ليتلغها شكواناء طردته بالقوّة من منزلهاء بل لحقته غاضبة في 
الشارع دون أن تنتبه إلى لفافات البيغودي على رأسها! 

بتاريخ السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) © ٠٠٠١‏ وللمرّة الأولى 
منذ وفاة الحسن الثاني قبل ستّ سنوات, دُعيتٌ إلى الاحتفالات 
الرسميّة بمئاسبة الذكرى الخمسين لاستقلال المغرب. لقد كانت 
تجربة غريبة» وذكرتني بأيام القصّاصين الذين كانوا يأتون إلى 
منزلنا وأنا طفل صغير» ويبدون دائمًا حكاياتهم بعبارة: ”كان يا 
ماكان...)» لقد شعرت بأني “”شخص آخر“ وظل خيالي يردّد: 
”كان يا ما كان» في قديم الزمان» وسالف العصر والأوان...“ 


هه 55 
الفكر الجديد 


<كجكر 


هناك حالسك جاتن عائلة ملكتة أصييدى نوها عنياء وعاقت 
الصحافة على الحدث متسائلة عن احتمال عودتي. في الواقع لم 
يكن هناك حدث أصلاء بل قشرة فارغة لا حياة فيها. أما الأمر 
العجيب بالنسبة إليّ ذلك اليوم» فهو التعرّف على زوجة محمد 
السادس وابنه. ذلك أنني لم أكن من المدعوّين إلى حفل زفاف 
الملك ولا إلى حفل عقيقة ولي العهد. لقد تابعثُ الزفاف على 
شاشة التلفاز وأنا في فرنساء فتبيّن لي أن قائمة المدعوّين طويلة» 
وقد شملثُ حتّى وزير الداخلية الأسبق بعد تنحيته» إدريس 
البصري, ولكنّي لم أكن ضمن تلك القائمة! 

كان لديّ شعور مزدوج بالعزلة» أن كل أفراد العائلة الملكيّة 
الآخرين ينظرون إليَ بدورهم كأجنبئ. أهلي لم يعودوا أهلي؛ 
وأنا عندما أكون بينهم أشعر بالعُربة. ابنتاي لديهما روابط مع 
محمد السادس أكثر منّي» يكلّمهما بالهاتف بانتظام» وتزوران 
القصر الملكيّء على الأقلّ مرّتين في السنة» بمناسبة عيد 
العرش وعيد ميلاد الملك. في ذلك اليوم في ١5‏ تشرين الثاني 
(نوفمبر)» راودتني الرغبة في المغادرة» أن أقف فجأة وأنسحب 
وأبتعد. الأمير الصغير وسيم؛ والجميع يناديه ”"سميت سيدي”, 
وهو اللقب التقليديّ لولي العهد. ولكن بالنسبة إليّ فإن ”سميت 
سيدي“ هو محمّد السادس لأني أمضيثٌ طفولتي وأنا أراه في 
هذا التور. 

ثم تفاقم هذا الشعور بالعزلة عن الأسرة الملكيّة في شهر أيّار 


ليان 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


(مايو) »,7٠٠١5‏ عندما أردت أن أت ررحم على والدي وعمّي 
وجدّي المدفونين في الضريح نفسه؛ منعني الحرس الملكي 
من الولوج إليه بناء على ”الأوامر“. في آخر المطاف شعرتٌ 
إن داهمه الخطر. إن اليوم متحمّس لبلادي بصفتي مغربّيا لا 
مدا 

في نيسان (أبريل) ٠٠٠١“‏ أقدمتٌ على مبادرة في ميدان حرية 
الصحافة» وذلك عبر اقتراح دفع غرامة ثقيلة قيمتها ثلائة ملايين 
لوتعووتال,. هاده الغرامة كانتت تهدة وجوه الخريدة كلها وقد 
ينتج عن عدم سداد الغرامة سجن مديرها أبو بكر الجامعيّ. لقد 
أوضحتٌ في رسالتي إلى محامي المجموعة الإعلاميّة: ”أن هذه 
المبادرة تدخل في إطار علاقة رجل برجل آخر. ويجب أن تجري 
وفمًا لاحترام القضاء ولكل الأحكام المتعلقة بتطبيق القانون" إِلَّا 
أن أبا بكر الجامعيّ رفض العرضء وفضّل أن يستقيل في كانون 
الثاني (يناير) ٠٠٠1‏ عندما تأكدت الغرامة في المحكمة: وهنا 
لا يسعني إِلّا أن أحيّي شجاعته واستقامته. 

في الأيّام الأولى من صيف عام ,7٠٠1‏ حدث أمر غيّر نظرتي 
للحياة رأسًا على عقب. في صباح أحد الأيّام» وأثناء رياضتي 
اليوميّة» شعرت بضيق وتعب خفيف, ظننتٌ أنها مسألة حساسيّة 
أو مشكلة في الرئة. قصدت طبيبًا في برينستون» وعندما فحصني 


م 42 
الفكر الجديد 


<كجكر 


قارورة أستنشقهاء تساعد على إفراغ الشعب التنفسيّة لتسهيل 
مرور الأوكسجين. رغم ذلكء لازمني الإحساس بالتعب نفسه 
عندما أقطع مسافة ثمانية كيلومترات على الدرّاجة أو ركضًا 
على أجهزة العدو المنزليّة. عدت عند الطبيب نفسه؛ فأجرى 
عدة فحوص ولكنّه لم يعثر على خلل واضح. بعد ذلك خضعتٌ 
لاختبار الجهد القلبئّ بتقنيّة المقارنة قبل وبعد الجهد الرياضىّ؛ 
وخا تو نحت السررة أكترة كان القلاب يشفقل طرق ينه 
ولكنّ المشكل يكمن في بعض الشرايين» فاتصلت بطبيب قلب 
الحسن الثاني» الدكتور رومانو دي سانكتيس» وكانت تربطني 
به علاقة صداقة» فنصحني أن أذهب إلى المستشفى الجامعي 
بولاية بنسلفانيا حيث يعمل أحد طلابه السابقين. 

بلغت أخي عساه يكون جواري وأنا في المستشفى. يوم "١‏ 
حزيران (يونيو) 7٠٠1‏ خضعتٌ لفحوص معمّقة فتأكد وجود 
انسداد في الشرايين» فحُدَّدت العمليّة الجراحيّة ليوم الاثنين 
التالي» وأنجزها الدكتور جوزيف بافارياء وهو واحد من أفضل 
زوجتي وبناتي. عند خروجه من غرفة العمليّات» شرح لهم 
الطبيب أنه وسّع خمسة شرايين ليسمح بجريان الدم بنسبة مئة في 
المئة. على الرغم من أن فريقه الطبيَ طلب منه التخلّي عن توسيع 
الشريان الأخيرء إلا أنه أصر وثابر» وهو ما تطلب العمل ثلاث 


لان 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


العمليّة» بأن يصنع تلقائيًا مسالك صغيرة لتجاوز الانسدادات 
الحاصلة في الشرايين» استنتج الطبيب أنْ لدي قابلية ورائيّة 
مسبّقة» وقال إِنْني أستطيع استئناف حياة عاديّة شريطة أن أراقب 
بانتظام نسبة الكولسترول في الدم. 

كانت العمليّة مرهقة» وقد احتجتٌ بعدها إلى عام كامل لكي 
أتعافى تمامًا. مع ذلك» فقد أجبروني بعد ثلاثة أيَام فقط على أن 
أغادر السرير وأقف وأمشيء ولم يشفع لي لقب الأمير! في غرفة 
الترويض الطَبَيّ» التقيتٌ بطلا سابقًا في رياضة الهوكيء وقد 
نفسها ابتداء من السادسة صباحًا: نصعد الدرج مرارًا ثم ننزل» 
عدد من المرضى المسئّين الذين لا يكفون عن ترديد نكات غير 
العيد الوطني الأميركيّ» وأنا بعد في المستشفى عمدّث إدارته 
إلى تطويق أمني للجناح الذي أرقد فيه بعد أن وصلها تحذير من 
وزارة الشؤون الخارحية حول “تهديد محتمل يستهدفني من 
طرف بعض الأقارب“. ربّما كان إنذارًا كاذيًا. على كل حال؛ 
عشت أيضًا لحظات مشرقة؛ فقبل مغادرتي المستشفى بفترة 
وجيزة» زارني رجلان مغربيّان» سائق سيّارة أجرة وصاحب 
مطعمء يحملان باقة ورد نيابة عن الجالية المغربيّة في المدينة» 


هم 11 
الفكر الجديد 


<كجكر 


وتعدادها يقارب 14.0.٠‏ نسمة. أصد صاحب سيّارة الأجرة. 
رشيد الكوهنء على أن يأخذني إلى بيتي في سيارته! فقلت له 
شاكرًا إِنْها لن تكفينا جميعًا. منذ ذلك الحين» لا يمر عيد من 
الأعياد إلا وتصلني منه بطاقة تهنئة» وربطتنا علاقة ودّيّة. 
غادرت المستشفى يوم ه تموز (يوليو)» وعلمت لاحمًا أنَ الملك 
عبد الله عاهل السعودية اتخذ التدابير اللازمة لكي تبقى طوّافة 
تابعة لمستشفى بنسلفانيا لمدّة أسبوع كامل على أهبة الاستعداد 
على مدار 4" ساعة؛ لتستطيع نقلي في حالات الطوارئ. في 
البداية» كانت كل حركة تسبّب لي إرهاقًاء لكن ومنذ اليوم الأوّل؛ 
وعلى الرغم من التعب» أحسستُ وكأني أولد من جديدء ملحا 
بالإيمان أكثر من أي وقت مضى . كما تأكد لي أ ني أستطيع الاعتماد 
على عائلتي؛ وفي أوقات الشدّة؛ على أركان بيت آل سعود, لكنّ 
فكرة واحدة بقيت عائقًا أمام هذا الزخم وكأنّها نقطة سوداء في 
مشهد جميل: بعد العمليّة الجراحيّة» وصلتني مئات البرقيّات من 
جميع أنحاء العالم» ورسائل من جميع المغاربة الذين التقية 
طوال حياتي» باستثناء محمّد السادس! كما اتصل بي الرئيس 
بوتفليقة وبعض أعضاء جبهة البوليساريو. أمَا الملك؛ ابن عمّي» 
فقد لزم الصمت. لن أنسى أبدًا هذه الرسالة القصيرة والبسيطة 
التي وصلتني من مغربيّ لا أعرفه» يعيش في كندا: ”إسمحوا لي 
بأن أقول لكم فقط كم أنا أحترمكم". 

لقد شكل هذا الحادث الصحيّ صدمة كبيرة ومحطة مهمّة 


ون 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


كما منحني فرصة للتأمّل. على سريز المستشفئ أخذت أنصت 
إلى خفقان قلبي “”الجديد“ وأنا أفكر في حياتي كلهاء ومحطاتها 
البارزة» وما عملتٌ من خير أو شر» فأسبر أغوار النفسء وأتلمّس 
ضعف وهشاشة الكائن البشري» وأتساءل كيف أتعامل مع هذه 
الولادة الجديدة بعد العمليّة. فى تلك اللحظة قرّرتٌ أن أكتب 
وشرعت أدوّن أفكاري الأولى. فكرتٌ في مسؤوليّاتي حيال 
أسرتي الصغيرة» ثم فكرت بمن هم وراء الدائرة الضيّقة» وهذا 
هو الأهم؛ بلدي. فإذا كنت أحمل مشروعًا للمغرب لا بد أن 
أتقاسم هذه التجربة» لتصبح في متناول كل من يريد الإصغاء إليها 
مسألة أخرى. أريد أن أقدّم ما تعلّمته من المغرب. لقد اجتزت» 
مرحلة إثر هذه العمليّة التي أضحت جزءًا من هويّتي» فأنا اليوم 
أعيش على نحو مختلف, وأحرص على وجه الخصوصء وهو 
أمر بديهيّ» على التحكم في نسبة الكولسترول في دمي. كما أني 
أصبحت حذرًا أكثر من الماضي فيما يتعلق بما أقول أو أفعل» ومع 
من ومتى وكيف. الخلاصة. أنْ حياتي تنشطر اليوم إلى قبل وبعد. 
بعد ثلاثة أسابيع من العمليَّة خضعتٌ لفحص للتأكد أن عملية زرع 
المسالك في الأوعية الدمويّة قد نجحت»ء وكانت نتيجة الفحص 
إيجابيّة. بعد خمسة أسابيع؛ أجرى لي الدكتور كوزين فحصًا آخر 
مؤلمًا بالرنين المغناطيسيّ النووي» مع اختبار للجهد» وكانت 


امن 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


نتائجه جيّدة أيضًاء ولن تفرض حالتي الصححية على حياتي اليوميّة 
أيّة إكراهات جديدة. ومع ذلكء فقد تغيّرت فلسفتي في الحياة: 
اقتنعت أن لا جدوى من السرعة؛ فكبر صبري حيال الآخرين» 
وصرت أكثر تطلبا مع نفسي؛ وركزت على الأولويّات. كما 
أتجتّبُ إصدار الأحكام هكذا على الناس؛ ولا أغفل أن عجلة 
الزمن تمضي إلى غير رجعة ولا تعود للوراء» لكنّ كل هذا لا 
يعني أبدًا أي أحجمتٌ عن الحركة والتفاعل. فإذا كنت قد 
شعرتٌُ بالحزن عندما تجاهل محمّد السادس عمليّتي الجراحيّة, 
فقد شعرت بالخيبة الكبرى لما علمتٌ أن رئيس تحرير أسبوعيّة 
الوطن قد استنطقته الشرطة عنّي خلال التحقيق معه بعدما جرى 
اعتقاله بعد نشره معلومات تصئّف ضمن أسرار الدفاع الوطني. 
لقد حدث هذا في تموز (يوليو) 27١٠1‏ وأنا في بداية نقاهتي» 
وهو الدليل على أن محمّد السادس, بالإضافة لكونه لا يكترث 
أبدًا بحالتي الصحيّة» بل يتصرّف كمن يبعث إلىّ برسالة مفادُها: 
”ليس هناك لا هدنة ولا استراحة» مُتْ أو اذهبٌ إلى الجحيم إن 
بعد شهرين؛ استمتعت بلحظة من النعيم في ستانفورد بولاية 
كاليفورنيا. فقد كنت أعشق التحليق على متن طوّافة وأتدرّب 
للحصول على رخصة لقيادتها. صباح أحد الأيّام» توبَهتٌ 
إلى خليج هافمون» وهو مكان رائع جنوب سان فرانسيسكو. 
يخيّم الضباب على الجوّء وأشعّة الشمس تنعكس على الأمواج؛ 


نض 1 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


حا اا ب ا امسر حدر 
وتمرح في الزبد...هناك حلقتٌ» وتبعتٌ حركاتها لفترة من 
الزمن» ثم شعرثٌ فجأة أن كل شيء على ما يرام» وأن كل ما 
حدث كان له مكان ومعئّى في حياتي. لقد بدا لي الماضي عقيمًا 
وتافهّاء فعندما أردت مساعدة الملكيّة في المغرب» ضللتٌ 
طريقي» وانغمستٌ في مستنقع من الوحل عنوانه الرداءة وهوّيته 
الانحطاط؛ وعْمْلته الطمع» يعُجٌّ بقوم يجترّون اللوُم والمصالح 
ويثيرون الاشمئزاز. لقد ضيّعتُ عشر سنوات. لكنّي عندما بحثت 
في أعماق وجداني عثرت أخيرًا على ترياق يشفي من الصغائر 
وخسّة النفس» ومن متملقي المخزن الذين تعوزهم الاستقامة 
والشجاعة» ولذلك أصبح جسمي يفرز وحده المضادّات 
الحيوية حتّى اكتسب المناعة الكافية. كان مفعول هذه الجولة 
سك ا 1 
ثم طلع إلى سطح الحياة» فانطلق من جديد وكله طاقة 
وحيويّة وإرادة. فإذا كنت قد شعرت بالفراغ عند مجيئي إلى 
رتت ناليو ما يدث بطو شكس تنا زد يات روزت 
وحل محله المنطق والانسجام؛ وأصبح كل شيء له هيئة هي 
وعاوّه» وله مكانه المناسب في الفضاء ومعناه في الذهن والفكر. 
لقد أصبحتٌ أحمل في ثنايا نفسي هذه الكلمة البليغة التي قالها 
صموئيل بيكيت: ”إذا حاولت وفشلت فلا بأس» حاول مرّة 
أخرى» عسى أن يكون فشلك التالي أفضل من الأوّل.“ إن 


يحض 8 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


السقوط والتعثّر لا مفرٌ منهما بل هما من الضروريات»؛ والمهم 
هو أن يقف الإنسات بعد السقوط ثغ يواصل مسيرته وهو اقوى 
عزيمة» فلن أتخلى عن الرغبة في مساعدة بلادي. 

في شهر آب (أغسطس) 235007 أعطت الحكومة المغربيّة 
الضوء الأخضرء من حيث المبدأء لمشروعيّ الهادف لبناء مدينة 
جديدة بيئيّة تسمّى باب زعير» والتي يبعد موقعها حوالى ثلاثين 
كيلومترًا من الرباط بمنطقة عين العودة. هناك» تملك أسرتي 
عقارًا مساحته 7٠٠٠‏ هكتار» وقد أصبح من النادر اليوم أن تجد 
مساحة متصلة من هذا الحجم في ضاحية المدينة نظرًا للضغط 
السكاق علن الواهة الاظلبية للمغربيد.من جهة لعرئ: له 
يتعلّق الأمر بإنشاء مدينة ابتداء من نقطة الصفرء بل بمشروع 
يستند إلى مدينة قائمة بجواره. لقد دأب المخزن وصحافته 
على توجيه اللوم إلى لأنني غالبًا ما استثمر في الخارجء وكأني 
خائن للوطنء؛ فأردتٌ أن آخذ هذه الانتقادات على محمل الجد 
وتفنيدها بهذا المشروع؛ واستعنت من أجل ذلك بخبرة عشرين 
من الفنيّين: عشرة مغاربة وعشرة هنود قدموا رأسًا من بانغالور» 
لتصميم مشرو ع معماري رائد في منتهى الحداثة» وكان طموحنا 
أن توفر المديئة قرضًا للعمل لنسية +717 من ساكنيهاء كما أورجعنا 
فكرة استخراج الغاز الحيوي من خرّان النفايات» وبذلك نعتزم 
توفير الطاقة الطبيعيّة بسعر مناسب لهذه ”المدينة البيئيّة الأولى 
في أفريقيا. “على صعيد آخرء يضم المشروع زهاء اثني عشر 


8 0 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


سدًا صغيرًا لتخزين مياه الأمطارء أما التجهيزات العموميّة مثل 
المدارس ومراكز الرعاية الصحيّة وحبّى مركز الشرطة؛ فإِن 
الشركة المكلّفة بالتهيئة التحضيريّة َه للمشروع هي التي ستتكلف 
ببنائها ْم تسلّمها للدولة مقابل عقد إيجار. أخيرًا فقد فكرتٌ في 
بناء جامعة هناك تحمل اسم والدي وطرقتُ الأبواب لتمويلها 
إلى أن أصبح ملفٌ التمويل جاهرًا. 

لكن الذي حصل بعد ذلك هو أنْ المشروع غرق في أوحال 
العراقيل» حيث إن الإدارة بذلت أقصى جهدها للبحث في أدق 
التفاصيل بهدف إجهاض المشروع والتسيبّب في خسارتي 
لبضعة ملايين أورو. بعد أربع سنوات» تمّت خلالها إقالة ثلاثة 
موظفين كبار رفضوا الانخراط في مرؤامرة الإجهاض على حساب 
الصالح العام» نفد صبري فوبهتٌ رسالة إلى محمّد السادس 
قائلا: ”إِنّي أعتقد أنّ الصعوبات التي ما فتتٌ أصادفها لإنجاز 
أي مشروع في المغربء سببها أن تعليماتكم يجري دومًا تأويلها 
على ضوء مشاع ركم إزائي» سواء كانت حقيقيّة أم مفترضة. إنه 
مفعول الحرص على إرضائكم والتماهي مع رفضكم المفترض 
لشخصيء وهكذا فإِنْ أدنى علامات غضبكم أو انزعاجكم 
يجري تأويلها على الفور وكأنها تعليمات جديدة لتصعيب 
المطالب والتلكوه في منح التراخيصء أو الاكتفاء بالتريّص في 
انتظار تأكيد التعليمات الأصليّة وإطالة أمدها إلى ما لا نهاية“. 


كان الردّ الوحيد هو أنْ مجموعة عقاريّة مرتبطة بالقصر سخرت 


نين 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كل إمكاناتها لمشروعها المتمثّل ببناء 62٠٠٠٠‏ وحدة سكنيّة 
جديدة في منطقة أم عرّة وهي بلدة قريبة من عين العودة تقطنها 
00٠‏ نسمة... وأخيرّاء يوم التاسع من شهر تشرين الثاني 
(نوفمبر) 250١”‏ جاء محمّد السادس بنفسه ليغرس أوّل 
شجرة من مشروع الحزام الأخضر في مدينة بن جرير» والتي 
يراد لها أن تصبح أوّل مدينة خضراء في أفريقياء وستضمٌ جامعة 
نخبويّة» جامعة محمد السادس للبوليتكنيك» تحظى بالرعاية 
الملكيّة وبتمويل عمومى لا يستهان به. في منطق النظام؛ ما قيمة 
التكاليف الباهظة إذا كانت ستسمح للملك أن يوكد وهو يعطي 
انطلاقة المشروع بين الدار البيضاء ومراكشء أنه يمتلك وحده 
القدرة على المنع والعطاء» والرفض والقبول» متى شاء وكيفما 
شاءء بما في ذلك إن كانت رغبته إخضاع فرد من أفراد عائلته. 
ولكن رغم كل ذلكء لم أنفض يدي نهائيًا بعد من الملكيّة ولو 
أني أعرف أنه لا يمكن فصلها عن أخيها التوأم المخزن» ولذلك 
فقد ختمثٌ رسالتي للملك في صيف عام ٠١١١‏ بهذه الجملة: 
”ولو أنّه بإمكاني تحقيق طموحاتي في الخارج. إلا أن واجبي أن 
أكون في خدمتكمء وفاء لطفولتنا المشتركة» لعائلتناء وللموسّسة 
التي تجسّدون". 

في تشرين الأول (أكتوبر) 2.5001 أجريثٌ مع قناة الجزيرة 
القطريّة بالإنجليزيّة أوّل مقابلة تلفزيونيّة منذ عامين» وهي أيضًا 
أوّل مقابلة بعد العمليّة الجراحيّة. خلال هذا الحوار علقتٌ على 


ادن 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


انخفاض نسبة المشاركة في الاتتخابات البرلمانيّة في السابع من 
أيلول (سبتمبر) 707/ من الناخبين مقابل 77/ من غير العابئين 
بصناديق الاقتراع! هنا ذكرت أنْ الممتنعين عن التصويت 
وأصحاب البطاقات الملغاة وجحهوا رسالة إلى نظام يكتفي 
بمجرد العلامات الخارجيّة للديمقراطيّة على حساب مضمونهاء 
ويحافظ على هويّته وطبيعته السلطويّة. بعد بضعة أيام» يوم ١١‏ 
لوجورنال بعنوان ”كيف نتجتّب العنف"» حاولتٌ أن أناقش فيه 
تطوّر النظام السياسي من الحسن الثاني إلى محمد السادس: 
”لقد انتقل المغرب من سلطويّة تعتمد على أجهزة القمع إلى 
سلطويّة ذات طابع مؤسّساتيٌ تمنحه الشرعية أحزاب المعارضة 
المنبثقة من الحركة الوطنيّة وأحزاب المعارضة الجديدة» وعلى 
رأسها حزب العدالة والتنمية (الحزب الإسلاميّ المستعد للعمل 
مع الملك). (...) إِنْ هذه السلطويّة الجديدة ذات الوجه 
العا ار سس لضي 
القديمة 00 من التو -- النخب» بحيث 
مر يس سر يم 
الم ره الجديد. تمارس السلطة 

0 7 ازاة مع التضييق على 


وض 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


على التكنوقراط غير المسيّّسين» وإنشاء اللجان الملكيّة ذات 
الدور التنفيذيء وأخيرًا في الوزن الكبير الذي يتمتّع به عدد من 
الفاعلين المقرّبين أثناء صنع القرار. عبر هذه التقنيّات» تُصبح 
السلطويّة مُشَرْعَنَةَ ولا حاجة لها للقمع كمنهاج في الحكم. “ 
كان باستطاعتي أن أوجز الموضوع كالتالي: فسيّان أخطمَ 
الحسن الثاني العظام أو حطم محمّد السادس الأحلام! 

في المقال نفسه. أطلقتٌ مرة أخرى نداءً من أجل إصلاح 
الملكيّة» مشيرًا إلى أنه ”أمر ضروريء علمًا أنه لا توجد أيّة 
مؤسسة محصّنة ضدٌ التغيبر والضغوط الاجتماعيّة.“ وذلك 
قبل الربيع العربيّ بأربع ضره ولكن يمكننا أيضًا النظر في 
الاتجاه المعاكس والعودة قليلا إلى الوراء. فعلاء فالتغييرات 
التي حدثت في بداية عهد محمّد السادس ظهرت إرهاصاتها 
في عهد الحسن الثاني» الذي أدرك عندما اقترب أجله ضرورة 
تطوير البلاد والملكيّة معَاء وقد قطف محمد السادس ثمار تلك 
التطورات عندما أينعتء لكنه لم يثابر على سبيل الإصلاح. 
ربما ظهر الرجل بوجه ألطف بكثير من وجه أبيه» وكأنه يطمح 
اتحقيق تبوءة غدوان'الكتاي الذي ألفه حجان بير تو كوا وصدز 
عام 23٠٠١١‏ الملك الأخير. 

”في عهد الحسن الثاني كنا نعيش في التاريخ الحجري» واليوم 
نعيش في بحبوحة من الديمقراطيّة والتقنيّة العالية.“ هكذا 
يتبججح المقرّبون من الملك الجديد؛ ولكن هذا وهم بوهم. لقد 


4 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


بدأ الانفتاح أيّام الحسن الثاني» سواء في المجال الاقتصادي 
أو السياسي. ففي أواخر هذا العهد. بدأت الإصلاحات مثل 
القانون الجديد للمحاسبة» وقانون المصارض» والقوانين 
الضرائبيّة» وقانون المناقصات وقانون الخصخصة. في الفترة 
نفسها بدأ أرباب العمل المحليون» والرأسمال المغربيّ بشكل 
عامء يكتسبون استقلاليّة غير مسبوقة. لقد ساهم أندري أزولاي» 
وبشكل أكبر جاك ديلور وكذلك كايو كوخ فيسر الرجل الثاني 
في المصرف العالمي تحت رئاسة جيمس ولفنسونء في إقناع 
الملك هراد الليبراليّة الاقتصاديّة. لقد أدّى كوخ فيسر دورًا 
رئيسيًا في تشجيع الحسن الثاني على المضي في الخصخصة 
والتشل د هيم الذولة عن الاقنصا 0ق كان مهاو امات 
وله بيداغوجيّة فعّالة» فكان يجالس الحسن الثاني لساعات طوال 
يشرح له خلالها الأمور بالتفصيل» خطوة بعد خطوة. فيُعَلّم 
بكل ما في الكلمة من معنى. على سبيل المثال» قبل أن يتععدف 
عليه» كان الحسن الثاني مقتنعًا بأنّ التخلي عن قطاعات معيّنة 
من الاقتصاد إلى القطاع الخاص يعتبر انتهاكًا للسيادة وإضعافًا 
للدولة» أو دعوة إلى الفوضىء بل إنْه كان ضصِدّ فكرة الطريق 
السريعة الخاضعة لرسوم, لأنه يظنّ أن من واجبه كملك البلاد 
أن يمنح ”لرعاياه“ الطريق مجّاناء وأنّ طلب مساهمة ماليّة من 
السائقين أمر ينتقص من سلطته. ولكنه غيّر رأيه فيما بعد. 
كما أن الحسن الثاني أطلق حملة تطهير في ميدان الأعمال؛ وفي 


امن 45 
الفكر الجديد 


<جكر 


الواقع لأنْ رجال الأعمال أحجموا عن التبرّع لفائدة الحساب 
١‏ المخصّص للتضامن الوطنيّ. وبطبيعة الحال» كانت 
الحملة مناسبة لاستعادة السيطرة على البورجوازيّة المغربيّة» وقد 
قادها الملك على نحو سلطويّ جدَّاء لدرجة أن بروز المجتمع 
المدنيّ المغربيّ يكاد يتزامن مع الاحتجاج على هذه الحملة 
وعلى كل ما رافقها من تعسّفاتء مما يثبت أن المجتمع المدنيّ 
لم ينتظر محمد السادس كي يظهر علنًا. في بعض المجالات» 
شهد عهد محمد السادس ترديّات عدّة. لقد نظم أرباب العمل 
أنفسهم منذ عهد الحسن الثاني وينتخبون رئيس هيئتهم الاتحاد 
العام لمقاولات المغرب؛, لكن في عام 7٠٠١٠‏ اعتبر رجال 
القصر أن الرئيس حسن الشامي ليس طيّعًا بما فيه الكفاية» فأوعز 
في الكواليس إلى من قاد انقلابًا أبيض ضدهء وعندما أطيح به 
أجهزوا عليه مساءلة ضريبيّة» ثم الشخب مكانه رجل ”ثقة“ فرضه 
منير الماجدي, السكرتير الخاص للملك. 

أما السياسة الاجتماعيّة التي انتهجها محمّد السادس فإنها 
تستحقٌّ وقفة بدورها. فحملة التضامن الأولى نُظمَت عام 
4 في أعقاب حملة التطهير الاقتصاديّة. بعبارة أخرى» كل 
التغييرات انطلقت في صيغتها الأولى قبل بداية العهد الجديدء 
أي تحت حكم الحسن الثاني» ولكن لا بذ من الاعتراف أن 
محمد السادس منحها وجهًا أكثر إنسانيّة» والاعتراف أيضًا أنه 
ليس من السهل أن تدبّر وعودًا قطعها من سبقكء, وهذا ما حدث 


82 5 
الفكر الجديد 


<كجكر 


مع محمد السادس» وقد الْتَحرّم تنفيذها. من هذا المنظور يمكن 
اعتباره مشاركا مع أبيه في إنجاز التغييرات» مناصفة بينهما. 
للأسفء يُترجم التغيير على أرض الواقع ببطء قاتل. لماذا؟ هناك 
العديد من الأسباب: إِنّ البطء الشديد أصبح في حدّ ذاته أسلوبًا 
سياسيًا. على عكس والده؛ لا ترتبط صورة الملك الجديد 
في المخيّلة الجماعيّة بالتعشف والعنف» وهو يلعب على هذا 
العامل» ولو استمرٌ تأخير البلاد. وبما أن الجسم الاجتماعيّ لم 
يعد يشعر بخطر هجوم يترص به فقد توقف عن إنتاج الأجسام 
المضادّة وفقد مقاومته للحكم المطلق» لدرجة أن العديد من 
المغاربة لا يدركون أنّهم ما زالوا يعيشون في ظل نظام حكم 
مطلق. بالتأكيد إننا أمام استبداد ناعم وشاب» بدل استبداد عبوس 
وعجوزء لكنّه يظل استبدادًا. وإذا كان الكثيرون بمن فيهم 
والدتي» لا يستوعبون هذه الحقيقة» فهذا راجع ولا شك إلى 
المدّة الطويلة التي قضاها الحسن الثاني على العرش. طوال تلك 
الأعوام الثمانية والثلاثين» أصبح جيّْلان من المغاربة يخلطان بين 
مواصفات الحكم المطلق وقسمات وجه الملك الدائم» وعندما 
اختفى الوجه رأيا أنْ الحكم المطلق اختفى معه. 

الجديدة» بل إِنْ الكثيرين منهم استبطنوا شطرًا كبيرًا من ذلك 
الاستبداد الذين كانوا قد تمرّدوا ضدّه. وقد أجازف بالقول إن 
نسبةً من المغاربة لم يكونوا أكثر تشبّئا بالديمقراطيّة من الحسن 


ا 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الثاني» وليسوا إصلاحيّين أكثر اقتناعًا من محمد السادس. 
بالأمس كانوا يوافقون على الحدود التي فرضها على الصحافة 
وحريّة التعبير والحريّة بوجه عام» واليوم يطمئنون للتراجع 
البطيء جدًا للسلطويّة» بل لعمليّة تحديث الاستبداد» وتكيّف 
المخزن ليعيد إنتاج نفسه في حلة جديدة تستجيب لروح العصر. 
أما إذا ألقيت نظرة على جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام التمييز 
العنصري» فسأذهب أبعد من ذلك. إذا قام المرءٌ بمقاومة نظام 
خبيث باسم معايير وقيم الحريّة» فلن يقوم بالضرورة باحترام 
تلك المعابير والقيم إذا وصل إلى السلطة. إذا استوردنا هذه 
المقولة إلى المغرب؛ فإنّ الدرس يدعو للكآبة: ما كان جَيّدًا 
للاحتجاج على الحسن الثاني ”الرهيب*“ لا يصلح لأن يكون من 
المطالب المرفوعة أمام محمد السادس ”اللطيف“. فهل نحن 
فقط ”ديمقراطيّون” مزيّفون ندور مع الريح؟ 

من هذا المنظورء فإنّ اليسار المغربيّ المتطرّف يشكل حالة 
نموذجيّة. تاريخيّاك كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوّات 
الشعبيّة مدرسة للفكر الجماعي» أي حركة جماهيريّة ذات هوّية 
سياسيّة مشتركة تاريخيًا. أمّا باقي اليسار على جانب الاتحاد 
الاشتراكيّ» من الشيوعيّين إلى اليساريّين من شتى المذاهب» 
فقد كانوا على العموم من المعارضين المبدئيّين» بعضهم تحت 
الرعاية الجيوسياسيّة للاتحاد السوفياتئ إبَان الحرب الباردة» 
واخرون أفراد من هنا وهناك لا يجمعهم سلك ناظم؛ يسبحون 


فض 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في فضاء سياسي أقرب للحلم منه للحقيقة. لقد كانوا يتصوّرون أن 
الكلام في حدّ ذاته يكفي» ويهيمن عليهم منطق غريب مُجمله: 
”إذا تحدّثت عن أمر فالقول يغنيك عن الفعل“»: وهذا التصوّر 
دفعهم لاعتقاد أن الديكتاتوريّة قد انهارت بمجرد أنْهم أصبحوا 
يستطيعو ن التعبير عن ارائهم. لقد استدرجهم نظام محمّد السادس 
- وهو النظام العتيق نفسه وقد أضيفت إليه مساحيق التجميل - 
الواحد تلو الآخرء فرادى» وهم أنفسهم كانوا ينادون بالنظريّة 
السياسيّة الجماعيّة. لقد أجاب عدد من اليساريّين المغاربة على 
طغيان السلطة الفرديّة لدى النظام أيام الحسن الثاني بطغيان 
مفرط أيضًا للفرديّة في مواقفهم, إلى جانب جرعة غير هيّنة من 
الانتتهازيّة» فارتمى عدد من الثورتين في حضن النظام؛ على 
الخصوص بصفتهم أعضاء إحدى تلك اللجان العديدة» و كأنهم 
يحئّون إلى أيام ”اللجان السياسيّة“ القديمة. النتيجة أنّهم بتقلبهم 
هذا أساؤوا إلى الديمقراطيّة أكثر مما فعلت الأحزاب التقليديّة 
والتي لم يكن أحد يتوقّع منها شينًا أصلًا. لماذا؟ لأنّهم أعطوا 
مصداقيّة لأوهامهم. 

على مدى عقد من الزمان» بين عامي ١9199‏ و48١٠50»‏ استفاد 
محمّد السادس من مناخ اقتصاديٌ ملائم. جلت فيه معذّلات 
نمو جيّدة» وذلك لعدّة أسباب: أُوّلّاء لقد جرى التخلّص التدريجيّ 
من القيود التي كبّلت الاقتصاد نهاية عهد الحسن الثاني» فارتفعت 
وتيرة الحركة الاقتصاديّة. ثانيّاء ساهمت كميّة الأمطار التي 


فض 2 
الفكر الجدي 


<كجكر 


هطلت على المغرب أثناء سنوات متتالية بازدهار المحاصيل 
الزراعية. أخيرّاء في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار النفطء 
استثمرت العديد من الدول العربيّة في المغرب. كل هذا دون أن 
ولكنّه نمو يعتمد على المنشطاتء يتجلى على الخصوص في 
البورصة والعقار» وتستفيد منه أقليّة من المحظوظينء ولا يخلق 
ما يكفي من فرص العمل لقطاعات واسعة من المجتمع. باستثناء 
الزراعة التى ترتبط بالظروف المناخيّة» فإِنّ الغالبية العظمى من 
المغارية لم تقطفٌ ثمرات هذا النموء وبالتالي لا تتحسّن أوضاعها 
المعيشيّة» ووحدهم المنتفعون ارتفعت نسبة إنفاقهم» و بعضهم 
أهدى نفسه سيّارة رولز رويس قد يبدو الأمر تفصيلا ولكن 
أثناء حكم الحسن الثاني كانت الجمارك لا تسمح باستيراد هذا 
النوع الفاخر من السيّارات» إلا للملك ولوالدي... أنا لا أدافع 
عن هذا الامتيازء ولكن ”ديمقراطيّته“ الاستفزازيّة أمر يدعو 
للاشمئزاز في بلد فقير مثل بلدنا. في الماضي كان المنع يأخذ 
قيمة رمزيّة وفى الوقت نفسه يكس استفراد السلطة بالقوّة» بما 
فيها القؤة الشرائئة للقضو, الست السيائية سول خضيا للرسرة؟ 
أما اليوم فإنّ السعي الحثيث وراء الاستهلاك بكلّ مظاهره يعطي 
اتطباعًا يشوّه الضورة: يما أن كنيةا من الناض يتسابقون لتبديو 
المال في المشتريات» يسود الاعتقاد الوهمىّ أن الاقتصاد يسير 


1 0 
الفكر الجدي 


<كجكر 


على نحو جيّد. 

مع مرور الوقتء يتبيّن بسهولة أن النمو في المغرب لم يدم 
طويلا: والأسباب متعدّدة وليست كلها من مسؤوليّة السلطة. 
ولكن رغم ذلك فإِنّ سوء التصرّف في الإدارة و الحكم هو السبب 
وراء وجود نموّ على مدى عشر سنوات لم يستجل محرّكا للتطور 
الاقتصاديٌ. إِنَ الأرباح الناجمة عن المضاربة وعن العمليّات 
المالية لم تخضع لنظام ضرائيَ محكم. فكيف نستطيع اليوم مد 
يد العون للأغلبيّة الكبرى من السكانء وقد أصبحت السياحة 
تُعاني» وحجم الاستثمار في ضمورء والصادرات تتقلص» 
وتحويلات المهاجرين تشخ؟ هل أكلنا خبزنا الأبيض أم بلغ بنا 
التهوّر أن سمحن لقلّة قليلة أن تستمتع وحدها بالكعك اللذيذ؟ 
في نهاية عهد الحسن الثاني» ساد قلق حول مستقبل البلاد؛ 
إعتكفت البورجوازيّة المغربيّة عن الاستثمار. في عهد محمّد 
السادسء والذي لا بدّ من الإقرار أنّه فعل كل ما هو ضروريٌ 
لطمأنتهاء استعادت هذه الطبقة تلك الثقة المفقودة. لقد 
استئمرت ولكن على نحو مكثّف في قطاع العقار» والذي يتميّز 
بقدرة على تحريك القطاعات الأخرى أقل من الاستثئمار في 
التجارة أو الصناعة. في منطق الحسن الثاني» يُعدّ الأمر باعثًا 
إلى الاطمئنان» ولْتنذكر أنّهِ كان ينظر إلى رأس المال كمصدر 
تمرّد وانشقاق محتمل؛ فلم يكن حمًا يبحث عن ازدهار النموّ 


الاقتصادي» وذلك من فرط خشيته من أن تخرج الأمور عن 


نضا ل 
الفكر الجديد 


<كجكر 


السيطرة. لقد كان يعجبه أن يردّد على مسمعي مقولة ستالين: 
”ليصطف الناس في طوابير لمدّة خمس ساعات للحصول على 
الخبزء هكذا ينسون الثورة. ولكن بعد ذلك إن لم يجدوا الخبز 
فالثورة مندلعة لا محالة". 

لم يستطع محمّد السادس أن يحكم بهذه المقولة» بل فرض عليه 
أن ييح عدّة عراقيل» وعلى رأسها مسألة حقوق الملكية. إِنَّ 
الأمن القضائي يتطلب عدالة نظيفة تخلّصت من الفساد» وهذا 
حلم لم يتحمّق بعد في المغرب ولن يتحقّق» حتّى تنقلب الأمور 
رأسًا على عقب و تتجدّر الديمقراطيّة» ثم إِنَّ للمخزن اليد الطولى 
في المجال الاقتصاديٌ» وبما أن الملكيّة مندمجة في المخزن» 
فإنْها لا تزال سجينة الوضع السابق. لكنّ الوضع السياسي الجديد 
لم يعد يفسح المجال للحكم على الطريقة القديمة في التوريث؛ 
التي تعتمد على شراء الذمم واستغلال النفوذ بين الأسر التاريخيّة. 
في اقتصاد المعرفة» لا بد أن يتبوّأ المناصبّ الرئيسية أصحابٌ 
الكفاءات» كما أن المكافأة على قدر معارف الإنسان وعلومه 
ومهاراته» وليس على قدر مقربته من فلان أو فلان» أو في أحسن 
الأحوال علاقته المباشرة مع الملك. 

أخيرًاء يعرف الجميع أن التحدّي الأكبر في المغرب هو الفوارق 
الاجتماعيّة. وهي تتفاقم باطراد» وهي قائمة على مظلوميّة 
فاقعة. ليست الصورة بميؤوس منهاء والمتذرّعون بِقَدَريّة ”ما 
من طبّ يفيد“» هم على خطأ.ليست لامركزيّة الخدمات حصان 


م 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الاقتصاد الوحيد الرابح» ففي جعبة المغرب إمكانات وموارد 
أخرىء ولكن قبل ذلك من الضروري الإقدام على إصلاح شامل 
للدولة لإخراج الاقتصاد من قيود التسلط. 

تستثمر المغرب 5٠‏ / من العائدات في القطاع الزراعي؛ والذي 
لايزال يشغل ؛ 5 / من القوى العاملة» في حين لا تساهم الزراعة 
إلا بنسبة /5١-١٠‏ فقط من الناتج المحليّ الخام» ويمكن 
تفسير هذا التفاوت. لقد كان حلم المستوطنين تنمية الزراعة 
المرويّة؛ ففي عام 2١974‏ وُضعت خطة لتصبح هذه الزراعة 
في مأمن من تقلبات المناخ» وهي المعضلة الكبيرة في المغرب 
حسب ليوطي الذي قال: ”لا يُحكم المغرب إلا بالمطر.* 
ومع ذلك لم تتحقّق أبدًا الأهداف الطموحة لذلك المخطط 
الاستعماري. عندما وصل الحسن الثاني إلى السلطة. تبتّى الرؤية 
نفسها وأمر ببناء خمسين سدًا لتخزين المياه كانت مُبرمجة ولم 
تُنجز من قبل. للأسف» تبيّن فيما بعد أَنْ تلك السدود غير كافية 
للريّ إذا شح المطر. علاوة على ذلكء لم يتوقع الملك آنذاك 
أن تلك السدود ستُعرقل بدورها النظام البيئيّ الطبيعي نفسه 
وتخلق مشاكل جديدة. على سبيل المثال» لقد نبّه الراحل أبراهام 
السرفاتي» دون أن يُصغي إليه أحدء إلى أن ثورة المياه الجوفية في 
منطقة سوس مهدّدة بالجفاف. يصعب الحكم على نتائج سياسة 
الحسن الثاني الزراعيّة» خاصّة وأن تلك الزراعة المسقيّة بفضل 
السدود لا تستفيد منها سوى أقليّة من الملاكين الكبار» فأصبحنا 


فض 11 
الفكر الجديد 


<كجكر 


كمن يشيّد الطرق ليسير عليها فقط أصحاب سيارات المرسيدس. 

بموازاة ذلك» لم يتطوّر نظام فرز العقارات منذ الحقبة 
الاستعماريّة. عند الاستقلال؛ لم يحاول المغرب إعادة النظر في 
ملكيّة الأراضي بما في ذلك الإقطاعيّة. جاء أول إصلاح زراعيّ 
متأخرًاء في بداية السبعينيّات من القرن الماضيء عندما قرّر 
الملك مراجعة ملكيّة الأراضي واستعادة أراضي المستعمرين. 
بين عامي ١955‏ و2197 ومن أصل 5(” مليون هكتار 
للمستعمرين السابقين وورئتهم؛ بيعت مساحة مليون هكتار 
بصفقات تجاريّة» دون تعديل وضعيّتها من حيث فرز العقارات؛ 
وفي العام ١5177‏ حصلت مَغربة الأراضي فأجبر المستعمرون 
السابقون وورئتهم على التخلي عن المساحة المتبقّية مقابل 
تعويضات» لكن مع الأسفء استغل الحسن الثاني هذه الأراضي 
المسترجعة في وقت متأخر لإرضاء وجهاء النظام وشراء ولائهم. 
لقد استبدل كبار الملاكين الاستعمارتين بالملاكين المحلتين؛ 
كبار موظفي العرش» وقد تبيّن فيما بعد أنْهم لم يكونوا كلهم من 
ذوي المهارة والكفاءة في الإدارة. 

لقد حان الوقت لمباشرة إصلاح زراعيّ حقيقيَ في المغرب. إِنَّ 
قطعة الأرض التي يمتلكها الفلاح الصغير عادة ما تُقسم عند انتقالها 
إلى ورثته. في المقابل» فإن الملاكين الكبار غالبًا ما يحتفظون 
بشساعة أراضيهم, مما يزيد من حدّة الفوارق الاجتماعيّة. الحقٌّ 
أن الهجرة من القرية إلى المدينة ضمّت أعدادًا كبيرة» أمّا الذين 


4 ١ 
الفكر الجدي‎ 


<كجكر 


لم يغادروا قراهم فيبحثون عن سبل تومن لهم ازدهارهم وازدهار 
بلادهم في ظروف صعبة. مع ذلك» ففي سنة 7٠١١1‏ لم يكن 
هناك سوى ”7/ من البطالة في المناطق القرويّة مقابل © 7/ في 
المدن» وفقًا للأرقام الصادرة عن البنك الدولي» ومن ثم فإِنَ 
من مصلحة الدولة أن تباشر الإصلاحات التي من شأنها تشجيع 
الفلاحين على المكوث في الدواوير والقرى أو المدن المتوسّطة. 
ينبغي ألا يظل العيش في العالم القرويّ يحمل المعنى نفسه كما 
كان الحال في الماضي. فاليوم» من يقطن في الأطلس الأوسط 
لا يعيش حتمًا بعيدًا عن الحضارة» مع توافر الهاتف الخلويٌ 
والأقمار الصناعيّة ووسائل النقل... فسكان الريف ليسوا ‏ أو 
على الأقلّ لا ينبغي أن يكونوا ‏ في عالم آخرء ولذلك يجدر 
بنا العمل على أن تصبح الفلاحة المغربيّة قابلة للحياة والنجاح 
لتجتّب ضغط المهاجرين على المدن الشديدة الاكتظاظ. إِنَّ 
العديد من شباب الأرياف يغادرون قراهم بحمًا عن المستقبل أوَلًا 
في المدن الصغيرة» ثم يجرّبون حظهم في المدن الكبيرة وأخيرًا 
ينطلقون صوب أوروباء أرى أنّ بذل كل الجهود الممكنة مهم 
لكسر دوّامة اليأس. ولكن, بما أن أساس الملكية في المغرب 
هو تعاقدها مع الفلاحين وأعيان العالم القروي» فإنّ كل مساس 
ببنية العالم الفلاحي يتطلب تغيير بنية المخزن نفسه. فهل يمكن 
إصلاح المؤكسشسات وتجديد الميثاق الاجتماعيٌ دوك إجراء 
إصلاح زراعيّ؟ لا أعتقد ذلك.وهل تملك الدولة أراضي كافية 


خض 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تمكنها من إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين دون الحاجة إلى 
انتزاع مساحات من القطاع الخاصٌ؟ لا يمكن الحسم بسهولة» 
خاصّة وأنّ مساحة الأملاك العموميّة لا تزيد على ١9‏ فقط من 
الأراضي الصالحة للزراعة. وبالتالي» لا مفرّ من إعادة النظر في 
-- العقاريّة للأراضي القرويّة» والقيام بإعادة تأميم الأراضي» 
وهو أمر من الصعوبة بمكان لأنّ مساحة كل قرية توازي أهمية 
صاحبها في منظومة السلطة, أي إننا أمام معادلة سياسيّة بامتيازء 
أن الأرض مُكوّن أساسي من شبكة ولاءات المخزن. 

إلا أن المعادلة تصبح أكثرٌ تعقيدًا. ذلك أن معدّل البطالة في المدن 
يفوق بكثير معدل البطالة في القرىء أي إن تحديث الزراعة 
المغربيّة سيكذي على المدى القصيرء إلى ارتفاع نسبة البطالة 
وبالتالي ازدياد عدد االمعدمين النازحين من القرى إلى المدن. 
بما أنَ العالم القروي هو القاعدة الأولى للمخزنء فإنّه ليس في 
مصلحة النظام الملكيّ المطلق أن يُضعفها. إن إصلاح القطاع 
الزراعي وترشيده يعنيان الانتحار بالنسبة إلى المخزن» ولكي 
تنجح عمليّة الإصلاح الزراعيّ ويجري تبنّيها سياسيّاء ينبغي أَوَلًا 
التخلي عن الولاء التقليديّ واستبداله بعقد اجتماعيّ حديثء أو 
بعبارة أخرى, العمل على أن يصبح الفلاحون مواطنين كاملي 
المواطنة. وبطبيعة الحال» فإِنّ هذا لن يحل جميع المشاكل كأنه 
عصًا سحريّة» ولكنّ هذا الشرط ضروريٌّ ومؤكد. 

على صعيد آخرء من شأن اتفاقيّات التجارة الحرّة التي أبرمها 


ا 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


المغرب مع الولايات المتحدة» من ناحية» ومع أوروباء من ناحية 
أخرىء أن تقوّض قاعدة النظام القرويّة. فالليبرالية تتعارض حتمًا 
مع الدولة ”المخزنيّة“: وهنا نسجّجل خاتمتين: لا يمكن إصلاح 
الفلاحة المغربيّة دون المساس بدور الدولة» أي تغيير موازين 
النظام الحاكم؛ في الوقت نفسه. لا يمكن للمغرب أن يندمج 
بنجاح في الاقتصاد العالميٌ دون تغيير بنيته الاجتماعيّة القرويّة. 
وهذه أحجيّة كلما قلبتها السلطة تجد نفسها خاسرة فيها. 

على المنوال نفسه: فإِنَّ إصلاح القطاع الصناعيّ ضرورةٌ حتميّة 
وفي الوقت نفسه. مغامرة محفوفة بالمخاطر. منذ أربعين سنة» 
كاد الناح المحي ‏ الغرد المغربئّ يعادل خمس مرات الناتج 
المحلي للفرد الصيني. أما اليوم فالناتج الصيني للفرد يتجاوز 
المغربيّ بنسبة 5؟ / لماذايا تُرى؟ خلال الفترة نفسهاء ارتفعت 
المردوديّة في الصين بشكل مخيف بينما المردوديّة في المغرب 
ظلّت تراوح مكانها. هنا أيضًا يتحمّل المخزن مسؤوليّة جسيمة. 
ولكنّ المشكلة ليست بهذه البساطة» لكي نقول إن النظام لم يقم 
القيام بما هو ضروري. 

أيعقل أن ينمو اقتصاد على نحو مستدام أو أن تزدهر بلاد بلا 
ديمقراطيّة؟ تختلف الأجوبة والمقاربات بشأن هذه المسألة. أمّا 
محمّد السادس فقد صبٌ اهتمامه على نسب النموء لكنّه لم يفلح 
في جعل المغرب مزدهرًا لأنْ أكبر مشاكل البلاد ليست اقتصاديّة 


8 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


بل سياسيّة. إذا كان الاقتصاد لا ينتج ما يكفي من المحرّكات 
الإيجابيّة» فإنه هو الآخر ينخر عظامه الفسادء ويفتقر الشفافيّة, 
ولأن المخزن الحاضر في كل القطاعات» يفسد قواعد اللعبة 
أينما حل. 

إِنَّ المنطقة الوحيدة في العالم التي تمكنت من تحقيق التقدّم دون 
ديمقراطيّة هي جنوب شرق أسيا. . في - جميع الأصقاع الأخرى» 
حاولت الديكتاتوريّات أن تحصل على النتائج نفسها وفشلت» 
باستثئناء دولة واحدة هي تشيلي في عهد الرئيس الجنرال 
أوغوستو بينوشيه؛ إلى حدّ ما. فلماذا شكلت بلدان جنوب شرق 
آسيا الاستثناء؟ أَوَلَا لأن هناك أسسًا من الناحية المؤْسّسائيّة 
خلفها الاستعمار الياباني؟ وهناك المبالغ الماليّة الضخمة 0 
استثمرتها أميركا لتطويق الصين بنماذج ذات واجهة غربية؛ 
ثم إِنّ هذه الدول عرفت مواجهات مع معارضات قويّة حالت 
دون الانجراف إلى الأسوا. أخيرًا وليس آخرّاء فإِن الفساد في 
جنوب شرق أسيا موجود وعلى نطاق واسع ولكنّه مُتحكم فيه) 
أما في الدول غير الديمقراطيّة الأخرى مثل المغربء فإِنْ نمو 
الاقتصاد زاد من استفحال المحسوبيّة والرشى إلى درجة عرقلة 
الحركة الاقتصاديّة نفسهاء وأصبحت ثمار النمو مصادّرة من 
طرف النظام وأعيانه بدل أن تنتفع منها الدولة والمجتمع. نعم 
انتفعت بها أوَلَا حاشية الملك ومريدوه القريبون والبعيدون» 
واستُعملت لتهدثة توئّرات فئويّة هنا وهناك» وهي في كثير من 


ين 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الأحيان ذات بُعد عشائريّء أفرزتها التحالفات التقليديّة التي 
هي لَب النظام الملكيّ. إِنَّ المشكلة في العمق هي ذلك السلوك 
الافتراسي الذي تنتهجه المؤسّسة الملكيّة» فلا بد لها أن تنهش 
وتقضم وتلتهم إن أرادت أن تحيا. المغرب “مجتمع للبلاط “ 
يعتاش من تلك العلاقة المحرّمة بين السلطة السياسيّة والسلطة 
الاقتصاديّة. إن المصالح المتبادلة بين القصر والشركات الكبرى 
هي من صميم طبيعة المخزن, وربّما لهذا السبب» كان مصطلح 
المخزن هو الجذر اللغويّ الذي اشتّق منه لاحقًا المصطلح 
الفر نسي 7102517 والذي يعني المتجر. 

تستحوذ على المغرب بضع مئات من العائلات الثريّة والمقرّبة من 
القصرء وهاتان الميزتان مرتبطتان باستثناءات نادرة. هناك أيضًا 
بعض العائلات المرموقة» منها مثلا من ارتبط اسمها بالحركة 
الوطنيّة» ولاتزال موثّرة ولو أنهاعاشت انتكاسات ماليّة. هناك أيضًا 
عائلات مؤثّرة بسبب شبكات القرابة الواسعة التي نَسجَمّها. إِنَّ 
إصلاح الاقتصاد المغربيّ يتطلب بالضرورة المساس بالتحالفات 
التقليديّة التي تستفيد من النظام» وهذه مسلمةٌ لا مناص منها ولا 
بديل عنها. إذا كنا نريد التنمية والازدهار للجميع؛ فعلينا تفكيك 
المنظومة الحاليّة وإعادة تركيبها من جديد. 

هذا هو بالضبط الواقع الذي أشار إليه البنك الدوليَّ حينما كتب 
أن النموّ البطيء في المغرب» على الرغم من الإصلاحات» هو 
ذلك ”اللغر الذي يبدو متعلقًا بالعديد من القيود المفروضة 


كل 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


على الحقل الاقتصاديّ.“ الواضح, في ظل استمرار الظروف 
الحاليّة» أن النمو القويٌ والمستدام سيبقى حلمًا بعيد المنال. 

في الوضع الحاليّ لا يزال التصنيع في المغرب متواضعًا ما 
دامت الأنشطة الصناعية لا تستأثر إِلّا بنسبة /,١©‏ من السكان 
العاملين. في تقرير صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 7١٠١1‏ دعا 
المصرف الدولي بصراحة إلى تعزيز الديمقراطيّة في المغرب. 
بناءً على الانتخابات التي عرفتها البلاد قبيل هذا التاريخ» التي 
سبلت نسبة قياسيّة من المقاطعة السياسيّة» سجّل التقرير بدون 
مواربة» أنَّ هذا الاستحقاق أبرز ”الحاجة إلى الانخراط المكتّف 
في سبيل تعزيز الديمقراطيّة. “ إِلَا أنه في الظروف الراهنة يحيلنا 
على السؤال الجوهريٌّ المطروح في كل صفحات هذا الكتاب: 
فل من الممكن فصل المخزن عن الملكية؛ هل يمكن أن تعمل 
الملكيّة في خدمة الديمقراطيّة دون نفخ روح جديدة في جسد 
المخزن؟ أم أن التوأمين مرتبطان ارتباطا دائمًا لا مجال لفصله؟ 
في الاتحاد السوفياتي» جرى الإجهاز على النظام في اللحظة 
نفسها التي تم فيها الإجهاز على الحزب الشيوعيء لأن علاقتهما 
كانت بنيويّة لا تقبل الانفصال. كان غورباتشوف يعتقد بأنْ 
الشيوعيّة كفكرة مثالية باستطاعتها أن تستمرٌ وتزدهر في نطاق 
اقتصاد السوقء فقام بمحاولاته الإصلاحيّة قبل أن يصل للباب 
المسدودء وكونه أخطأ التقدير لا يسعفنا في الجواب عن سؤالنا 
حول المغرب, وهناك في التاريخ أمثلة مضادّة؛ منها الملكيّتان 


1 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الإنجليزيّة والهولنديّة اللتان نجتا من الموت لأنهما نجحتا في 
عمليّة التغيبر الذاتي» بينما هلكت ملكيّات أخرى في خضمَّ 
التحوّلات الاجتماعيّة. ومن ثُمْ فالجواب فيما يتعلق بالمخزن 
لن يكون علميًا بل فقط تجريييًا. 

من بين العقبات التي أشار إليها البنك الدوليَ هناك قلة مرونة 
في سوق العمل (الحدّ الأدنى للأجور في المغرب يتجاوز نظيره 
التركي بنسبة »/5٠‏ مما يجعل المملكة أقل تنافسيّة) وجمود 
الحصص القطاعيّة التي لم تتغيّر منذ الاستقلال: حصة كبيرة 
لقطاع الزراعة وحصّة صغيرة لقطاع الصناعة وقطاع الخدمات 
ينمو ببطء. وفقا للمصرف الدوليٌ؛ المغرب بحاجة إلى تنويع 
سبقًا تنافسيًا. ولكن المغرب يعاني من تبعيّة قويّة تعود لما بعد 
الاستعمار: يصدر المغرب 77/ من صادراته إلى فرنسا وإسبانيا. 
على سبيل المقارنة» وخاضّة إذا أخذنا في الاعتبار الاختلافات 
في الأحجام؛ ما زالت المبادلات التجاريّة مع الولايات المتّحدة 
ضيلة» على الرغم من أن شركة مثل مايكروسوفت اختارت 
المغرب مقرًا إقليميًا لها. هكذا فالاقتصاد المغربيّ يعرف انفتاحًا 
كبيرًا على الخارج ولكنّه انفتاح ضعيف التنوٌّ ع» حيث لا يستفيد 
هذه النكتة التي يتداولها موظفو الوزارات في الرباط» ولعلّهم 
سيردّدونها طويلا في المستقبل: ”نحن نستثمر في تقارير مكاتب 


م 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


استشاريّة كمكتب ماكينزي بدلا من الاستثمار في التنمية“» أي 
إنْ المغرب يفضّل الإكثار من الدراسات الاستشاريّة بدلا من 
تحمّل مخاطر التنميّة ومغامراتهاء وذلك لسبب بسيط هو أنَّ أوّل 
هذه المخاطر هو تفكيك عقد الملكيّة برمّتها. 

عام »7١١©‏ سيصل عدد السكان المغاربة في سنّ العمل إلى 
مليون نسمة» وهذا يعني أن عدد فرّص العمل الجديدة التي 
يجب خلقها من ٠٠٠١1‏ إلى ذلك الوقت سيناهز 5,” ملايين. 
هذا هو الجانب النظريٌء أمّا في الواقع فإِنّ الاقتصاد لا يستوعب 
سنويًا إلا ٠٠٠٠٠‏ فرصة عمل جديدة في المعدّل» بينما يدخل 
يوق العم عدر الى .+ :24 اقرة يعدي ويما أن تلك سكان 
المغرب» أي 7 تقل أعمارهم عن ١ ١‏ عاماء وإذا أضفنا الفئة 
العمريّة 55-١‏ عامّاء يكون مجموع الشباب ثلثي السكان» 
فهي موجة شبابيّة عارمة ستعمٌ البلاد خلال الثلاثين عامًا المقبلة. 
في الفترة نفسهاء سيتضاعف عدد طلاب المدارس الثانوية ثلاث 
مرّات وعدد الطلاب الجامعيّين مرّتين. 

إن اقتتحام هولاء الشباب سوق العمل أمرٌ جلل» لا يساويه شأنًا إلا 
اقتحام النساء المغربيّات عالم السياسة. ولكنّ الملكيّة الحاليّة لا 
تعيش معنا على كوكب الأرضء فلا هي قادرة على استيعاب هذه 
الصدمة الديموغرافيّة ولاعلى التعايش مع هذا الاختراق النسوي» 
لسبب بسيط هو أنْها لم تعد تجسٌ نبض المجتمع المغربيّ كما 
كانت تفعل في الماضي. أصبح النظام مهووسًا بالخوف من 


ا 2 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


الانقراضء وهيمنت عليه هواجس غريزة البقاء فلم يلتفت حوله 
إلى ما يختمر في عوالم الشباب والنساء من تحوّلات عميقة. 
ولكن عمّا قريب ستملاً البلاد أعداد هائلة من الشباب المعدم 
لن يستطيع النظام معها البقاء على قيد الحياة إِلّا إذا طوّر نفسه. 
ني لست من دعاة تحديد النسل القسريء كما علمتنا التجربة 
أن السيناريوهات القاتمة لا تتحقق بالضرورة على أرض الواقع. 
ففي العام ١41‏ توقّعت وكالة الاستخبارات المركزيّة سقوط 
النظام المغربيّ بسبب ”التناقضات الاجتماعيّة المفرطة“» وها 
هو المخزن ما زال حيّا يرزق. رغم ذلك فهو لا يستطيع أن يُخلف 
كل المواعيد مع التحديث ويحتفظ في الوقت نفسه؛ بقدرته على 
ضبط إيقاع الزمن» بل قد يجد نفسه فجأة خارج الزمن. 

بين الرباط والدار البيضاءء تم بناء تكنوبارك» بتكاليف باهظة. 
هو مدينة ملاه افتراضيّة عرّضت عن التحديث الفعلي. إن الدولة 
تلجأ لهذه الأساليب لتكتسب الشرعيّة من خلال عناصر النجاح 
الاقتصاديء ما يقود تلقائيًا إلى نوع من عَلمَنة للمَلكيّة» والتي 
تقاس نجاعتها اليوم من خلال ارتفاع أو انخفاض معدّلات 
النمو. ليس الأمر جديدًا على ثقافتنا وإن تغيّرت الأحجام» ففي 
القديم كانت بركة الملك تقاس بمقدار الأمطار التي تجود بها 
السماء» وإذا غاب المطر فذلك طالع شوم على الملك وعلى 
رصيده العاطفيّ بين الناس. ما زلنا نتذكر ما قاله محمد الخامس 
مباشرة بعد نيلنا الاستقلال» عندما شرح للمغاربة أنّنا عدنا من 


كس 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


”الجهاد الأصغر“ وهو مقاومة الاستعمار إلى ”الجهاد الأكبر» 
وهو المعركة من أجل التنميّة. لقد أصاب انذاك كبد الحقيقة» 
ولا يزال هذا هو عين الصواب أكثر من أي وقت مضى. 

إن عدم اكتشاف النفط في المغرب نعمة كبرى, على الأقلّ إلى 
اليوم» فلو كان الذهب الأسود قد تدفق من الأرض لتضاعفت 
مشاكلنا مئة مرة. بالفعل» المغرب بلد فوسفاتي» وهي نعمة 
ولكن تدبيرها لا يخلو من شوائب. في شباط (فبراير) ٠٠١5‏ 
استقدم محمد السادس من المصرف الدولي مصطفى الترّاب» 
رجل ذو كفاءة مهنيّة» وهو خرّيج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 
7 الأمي ركيّ ومدرسة بون إي شوسّيه؛ وعيّنه على رأس المكتب 
الشريف للفوسفات. كانت مهمّته تتمثل في إدماج هذه المؤوؤْسّسة 
الكبرى في الاقتصادء أو بالأحرىء انتزاعها من شبكة المصالح 
التي تشوّش عليها. ماذا فعل الترّاب» علمًا أنَّ نزاهته الشخصية 
ليست موضع شك؟ لقد قام بتحديث الجانب المخزنيّ في 
المكتب؛ فأصبح هذا الأخير يموّل جماعات الضغط الخاصّة 
به (اللوبي)» فهل هناك ابتعاد عن عالم الاقتصاد أكبر من هذاء 
وهل بهذه الأساليب سننجح في عقلنة الافتراس الذي يميّر النظام 
الحالي. 

هناك أيضًا شركة أخرى يعتمد عليها المخزن ماليًاء إِنْها الشركة 
الوطنيّة للاستثمار 250/7 وريئة شركة أومنيوم شمال أفريقيا 
المفتوحة 01/4 التي كانت مؤسّسة عموميّة يقع على عاتقها 


0 ١ 
الفكر الجدي‎ 


<كجكر 


وضع الاقتصاد المغربيٌّ على السكة الصحيحة» وهي مهمّة 
لم يكن الحسن الثاني ليعهد بها إلى الرأسمال الخاص. بطبيعة 
الحال» منذ ذلك الحينء تغيّرت القناعات والتصوّرات بشأن 
دور الدولة البارز في توجيه الاقتصاد وقلّلت 0 
الصناديق الاستثماريّة العموميّة ”المخرنيّة“ وأنْ رأس 
المال أصبح متاحًا بفضل المستثمرين الأجانب ل 
المتعدّدة الجنسيّات» وكذلك بفضل مساهمة طبقة متوسّطة 
مغربيّة في إطار الرأسمال الشعبيّ. أخيرًاء هناك أبناء وبنات البلدء 
المنحدرون في معظمهم من الأسر المرموقة» والذين تعود طائفة 
منهم للمغرب بعد الدراسة في الخارج» حاملة مهارات لم تكن 
متوافرة من قبل. في ظل هذه الظروف»ء يبدو من المنطقيّ أن 
يجري إيقاف النزف الذي تتعرّض له مؤسّسة 01/4 على كل 
المستويات بسبب الرشوة والمحسوبيّة وتبادل المصالح, 
وجميع أصناف العلاقات السلبيّة مع الجهاز الاداري بتناقض 
منطق المقاولة السليم» والحل هو أنَّ تتحوّل إلى شركة قابضة 
تخضع لقوانين السوق وللقانون على نحو عامٌ. هذا النقاش يعود 
بنا إلى ضرورة منح الملكيّة الوسائل القانونيّة لتقوم بوظيفتها 
التمثيليّة دون اقتحام المجال الاقتصاديٌ. إِنْ ديمقراطيّة النظام 
تمر بالضرورة عبر قوننة مهام الملكية. 

في مغرب ديمقراطئ» سيكون عالم الأعمال مختلقًا جذريًا عمًا 
نعرفه اليوم. هناك أوّلا بطء الإدارة الحاليّة» وهو من الخصائص 


ان 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


الجينيّة للنظام الحاليَّ» يجب أن يكون كل شيء تحت السيطرة» 
ومن ثم فإن تفادي حدوث مشاكل يتطلب عودة المسؤول الإداري 
الأعلى بدل المغامرة باتخاذ المبادرة. ثم هناك الفساد, فإذا تبيّن 
أن قطاعًا ما يدرّ ربحًا وفيرّاء تصيرٌ الأعين له بالمرصاد. في العام 
بناءً على رسالة ملكيّة موبّحهة للوزير الأول أسّست مراكز 
جهويّة للاستثمار» فكرتها الأساس هي تيسير معاملات أصحاب 
المشاريع الإداريّة بالتوبّحه إلى مركز واحد داخل المملكة. لقد 
أن يصعد بضع درجات على سلم تنافسيّة الدول من حيث تسهيل 
عمليّة الاستثمار» ولو أن قواعد تطبيق الاجراءات الجديدة تختلف 
تمي 2 لساب الي كين 
5 في باريس أو إسطنبول» ولكنه في مدينة القنيطرة سوف 
عا ع دولة 
اي عسي سه 
الامتيازات في كافة المستويات. 

إذا كنت أستفيض في موضوع الاقتصاد» فالسبب هو ارتباطه 
بنوع من ”الاقتصاد الأخلاقي” الذي يفسّر الحكم الامجدادي 
المغربئ. ليس الاستبداد ارا 00 التاريخ لا نستطيع 
أمامه إلّا الرضوخ» ولا هو حتميّة حتمية ثُقا ٠‏ على العكس من ذلك 


كن 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فالاستبداد ينشأ دائمًا في ظروف معيئّة من المفيد أن ننتبه إليها. 
عندما يجد المجتمع المغربيّ نفسه مشْتَّنًا بين الولاء والتمرّد 
تنتابه أزمة من الفزع الاجتماعىّ ويراوده أمل خلاص» يأخذ 
أشكالًا متنوّعة عبر التاريخ. في هذه الظروفء تلوح في الأفق 
صورة الملك» رب الأسرة القويٌ» الذي يمنح لأبنائه (والآن أيضًا 
لبناته) القوت والموارد الاقتصاديّة الضروريّة لوجودهم ولإعادة 
إنتاج النظام الأبويّء وهذه الظاهرة مترسّخة لدينا. لكن اليوم 
نحن أمام كتلة من الشباب تنهي دراساتها وتطمح إلى العمل؛ 
يقابلها ”أب الأمّة“ ولكنّه أب مُنَهَك كما هي منهّكة صورة الأب 
على العموم. لكن هذا الإنهاك يُنتج بدوره استبدادًا جديدّاء وهو 
بالمناسبة استبداد عصريٌ ولا على النمط العتيق» ولا يمكن أبدًا 
القضاء عليه بالإفراط في تكديس عناصر الحداثة. على العكس 
من ذلكء في الظروف الحاليّة» كلما أضفنا جرعات حداثة» كلما 
عرّزنا السلطويّة. بطبيعة الحال» لا يزال الانصياع المعروف أمام 
السلطة الأبويّة يودي دوره» وكذلك فإن مفهوم الامتثال للأوامر 
بالمعنى الرجعيّ للطاعة» يساعد على استمرار هذه السلطويّة. 
نْمٌ دعونا لا نغفل أنَ الاستبداد, أيّا كان نوعه؛ لديه وظيفة مربحة 
لكونه ينمّي جميع المكاسب الانتهازيّة. في هذا الصدد ميّز 
الاقتصاديّ الأميركيّ مانكور لويد أولسون بين ”اللصّ الثابت“ 
و”اللصّ المتنقل“. أما ”اللصّ الثابت“ وهو السلطة المستبدّة» 
فمن مصلحته تشجيع الحدّ الأدنى من الازدهار الاقتصاديٌ على 


4 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<جكر 


نطاق واسعء لأنه يعيش من ريعه. في المقابل؛ هناك ”اللصّ 
المتحرّك“ وهو الفاعل الاقتصادي في ظلّ نظام فوضوقي وغير 
مُهيكل من الأعلى؛ وهو يختلس على عجل كلّ ما وصلت 
إليه يداه. من هذا المنظورء يُعدٌ ”ثبات“ السلطة تَقدّمًا في حد 
ذاته. للأسف» تضافرت في المغرب جهود مفترسي الصالح 
العام لإجهاض النجاح الجماعيّ؛ وطغت عليهم الأنانيّة العمياء 
لدرجة أصبحت تهدّد مصادر الثروة التي يقتاتون بها بالنضوب. 
في المحصّلة النهائية» هنا يكمن السر الغامض وهنا توجد الحلقة 
المفقودة في تقرير البنك الدوليّ. 

باستثناء حالتين اثنتين» هما الهند وكوستاريكاء فإنْ الديمقراطيّة 
ترادف الازدهار. علاوة على ذلك؛ فإِنَ جميع الدول الديمقراطيّة 
تجاوزت مرحلة ”التحوّل الديمغرافيّ» وهو الانتقال من سر 
كبيرة العدد تعيش أعمارًا قصيرة إلى أسر عدد أفرادها قليل 
وتعيش أعمارًا أطول» والمغرب في هذه الحالة. لقد انخفض 
معدل الخصوبة من أطفال لكل امرأة في سن الإنجاب في 
عام ١57٠‏ إلى 7١؟‏ فقط في عام 5٠٠١‏ . إِنّها ثورة صامتة! 
وما زالت أطوارها تجري أمام أعينناء حيث إن معدّل الخصوبة 
يمضي ببطء إلى معدّل تجديد الأجيال- أي استقرار عدد السكان 
- والذي يبلغ 7١‏ طفل لكل امرأة في سن الإنجاب وذلك 
لأسباب إحصائيّة. مع ذلك فإن هذه الثورة ما زالت غير مترحمة 
في الحياة السياسيّة» كما أن دخول المرأة إلى عالم السياسة مازال 


8 0 
الفكر الجديا 


<كجكر 


في بدايته ولم يحدث بعد تغييرات تُذكر في معادلة السلطة. ورغم 
ذلك فإِنّ هذا التحوّل سيستمٌ لا محالة» وعلى حساب المخزن» 
إذا لم يتفطن لضرورة فسح المجال أمام النساء. يضاف إلى هذا 
التحدّي الانتقال إلى الحياة العمليّة من طرف أفواج واسعة من 
الشباب الذين رأوا النور قبل انخفاض الخصوبة. إذا وَجد هؤلاء 
الشباب ما يكفي من فرص عمل» وهم أصحاب طموح لا حدّ له 
فإنّ المملكة ستحصل على ”مكافأة ديمغرافيّة“ تعرّز التنمية. أما 
إذا خاب أمل هؤلاء الشباب في الارتقاء الاجتماعي» كأَنْ حكم 
عليهم أن يظلُوا ”راشدين قاصرين“» فإن المغرب سينفجر يسبب 
القطيعة بين الأجيال. 

يتبيّن لنا إلى أيّ حدّ تُلقي المعادلة الاقتصاديّة بثقلها على مستقبل 
النظام الملكيّ المغربيّ. في هذا الوضع المعقّدء لا بدّ لنا من 
أن نضيف أن مناخ الابتهاج والاستحسان الذي تمنّع به محمد 
السادس في البداية قد ولى إلى غير عودة» وذلك لعوامل ثلاثة 
على الأقل. بالإضافة إلى دوران عجلة الزمن» وهو عامل كاف 
بحدٌ ذاته» فهناك أوّلا كون التمايز بين الابن وأبيه قد بدأ يتلاشى 
مع طول المكوث في السلطة» ْم إن ”شركاء“ محمد السادس 
اليوم هم الإسلاميّون المدجّنون؛ بدل اليساريّين المنحدرين من 
الحركة الوطنيّة والذين جَسّدهم عبد الرحمن اليوسفي. وأخيرّاء 
فإنَ الجوار العربي لم يعد يودي دور الدافع للإحباط والتخويف» 
بحيث يتقيّل الناس في المغرب نوعيّة السلطة باعتبارها ”أهون 


وم 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الشرّين”. على العكس»ء يبدو المغرب متأخْرًا عن ركب النضال 
لانتراع مواطنة جديدة مقارنةٌ بالبلدان العربيّة» على الرغم من 
الصعوبات التي تواجهها الرغبة في ممارسة الحريّة. 
الآن فقط يستوعب المغاربة أَنّ عشر سنوات من الركود بعد وفاة 
الحسن الثاني كانت ذات تكلفة باهظة» هي تكلفة الفرصة الضائعة 
بمنطق الأميركيّين الذين يحلو لهم دومًا أن يردّدوا أن ”الوقت هو 
المال"؛ فقد راكم المغرب دَيّنَا عموميًا هائلا يرهن مستقبله. 
فالإصلاحات والانفتاحات التي كان بالإمكان القيام بها بالأمس 
وبكلفة مقبولة» سيضطر غدًا إلى مباشرتها بسرعة تحت ضغط 
الظروف وبكلفة أعلى بكثير. 
في المغربء من له مصلحة في التغيير؟ ليست النخبة الحاليّة 
بالتأكيد. إنها نخبة لا وجود لها إلا بقدر قربها من الملك وارتباطها 
به. ليست لها قوّة ذاتيّة ولا استقلاليّة» وبالتالي فلا مصلحة لها في 
تغيير الوضع الذي يسمح لها الا 0 
القصرء والدليل» إن احتاج الأمر إلى دليل» هو أنه حتى النخبة 
الليبراليّة التي تدعو إلى التغيير» لا تريد في الحقيقة أن يطالها 
التغيير في حياتها! والسبب بسيطء وهو أن النخبة المغربيّة تعيش 
متأرجحة بين الشرق والغرب: يرتدي الرجل الجلباب ويرتدي 
البذلة الأنيقة» تستقبل زوجته الضيوف في الصالون المغربيّ 
التقليديٌ وبجواره غرفة الأكل ذات النمط الفرنسي» كلاهما 
يوثث حديثه بخطاب حقوق الانسان ولهما في المنزل خادمة 


م 1 
الفكر الجديد 


<جكر 


صغيرة السنّ تمشي حافية القدمين. إِنْها نخبة تتمتع بمزايا ”مجتمع 
البلاط“ الشرقيّ وفي الوقت نفسه تسافر كثيرًا إلى أوروباء وفي 
المغرب تعيش داخل فقّاعات غربيّة كأنها مستوطنات منعزلة لا 
علاقة لها بواقع البلاد الذي تتجتّب الاحتكاك معه. إنْها نخبة تحبُ 
الربح على كل الواجهات» وتستآئر بامتيازات ضخمة مقارنة مع 
مردوديتها ومقارنة مع الثروة الوطنيّة الإجماليّة» ولكن طبيعتها 
المزدوجة والطفيلية لها عواقب وخيمة: إنها غياب أشكال الحياة 
المشتركة مع عامّة الناس» حيث تبقى فرص الاختلاط وفضاءات 
الاندماج نادرة» وبالتالي يكاد يغيب الحديث المتبادل عن شيء 
اسمه الوطن الذي يستظلٌ بظلّه الجميع. لقد ابتعدت النخبة عن 
الشعب» وهي تسافر إلى باريس لتشتري ما يفترض أن تجده في 
المغرب. عندما لا نتقاسم أيّ شيء لا تكون لدينا قضايا مشتركة 
ولا يمكن أن نبني تحالقاء ولا يسانذ بعضنا بعضًا يوم المعركة 
وتكون الهزيمة حتميّة. 

عموماء لنترك جانبًا دراسة معدّلات النمو الاقتصاديٌ وتأويلات 
تقارير منظمة العفو الدوليّة» ولنتساءل هل تقدّم المغرب تحت 
حكم محمد السادس بين عامي ١149‏ و١٠١٠‏ قبل الربيع 
العرب؟ إنّ طرح هذا السؤال يعني مساءلة إرادة الملك الإصلاحيّة 
قبل أن يصبح احتجاج الشارع بالنسبة إلى لملك ضغطًا يصعب 
عليه تجاهله. أعتقد أن الكثير من أبناء وطني يتّفقون معي اليوم 
حول الانتقادات التي وجَهنّها بالأمس. أي في الوقت المناسب 


كن 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


للملك لكي يباشر الإصلاحات. لقد ضاعت الكثير من الفرص 
وخسرنا وقنّا ثميئًا. إذا زعمنا أن أيّ شيء لم يتحقّق خلال عقد 
من الزمن فسنكون مجحفين بدون شكء ولكنٌ النقص في 
التقدّم الحاصل مقارنةً مع ما يمكن نظريًا تحقيقه بالديمقراطيّة 
يُضاف إلى التراكمات السلبيّة لمنهج الحكم الذي يهدّد السياسة 
بالاختناق. ما كدنا ننفلت من الديكتاتوريّة القاسية أيام الحسن 
الثاني» حتّى استسلمنا لسلطويّة ”ملك الفقراء“ الناعمة؛ لأنَ 
الملك الشابٌ لا يمكن إلا أن يكون لطيفًا وودودًا. استفقنا 
ذات صباح من نوم مضطرب في ليلة حالكة, والتفتنا حولنا يُمنة 
ويّسرة» وبدل أن نقف ونستجمع قوّتناء ابتلعنا حبوب النوم. 
حيئذاك شعرنا بالاسترخاء وافتقدنا العزم واكتفينا بالانتظار. ثم 
اندلعت الأزمة» والأزمة هنا نتيجة طبيعيّة للانتقادات التي أعرب 
عنها الشار ع. هل ستجلب لنا هذه الأزمة الديمقراطيّة هذه المرّة 
أم ستخلف فقط تشنّجًا كتلك التشتّجات العنيفة التي عوّدنا عليها 
التاريخ منذ الاستقلال؟ حيثئما ظهرت الفرص ظهرت المخاطر 
جوارها. فيما يتعلّق بشخصي المتواضع. فإِنّي سوف أستمرٌ كما 
فعلت في الماضيء في تحمّل مسؤوليّتي بإعلان الهدف الذي 
أطمح إليه: في المغربء لا بد أن تؤدّي الصحوة الديمقراطيّة التي 
عرفها العالم العربيّ إلى إبرام تعاقد اجتماعيٌ يحل محل البيعة 
والولاء» وبلا ريب سيتحوّل ”الرعايا“ إلى مواطنين. إِمّا أن تكون 


مذركة لكريم أرالاتكرن: 


حكن 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الفصل السابع 
المغرب لناظره فريب 


كنت أعرف أثني أمير غير مرغوب به. له حريّة مغادرة المغرب 
والعودة إليه متى يشاءء رغم أنه أبعد عن القصر وأقصيّ عن 
الملكيّة. يوم الجمعة 75 أيلول (سبتمبر) ٠٠١9‏ تيقنت أنْني لم 
أعد فردًا من العائلة الملكيّة بعد أن عُيّبِتٌ عن الصورة الرسميّة. 
في ذلك اليوم» تزوّج أخي مولاي إسماعيل من صديقة طفولته 
أنيكا ليمكوهل وهي فتاة ألمانيّة درست معه في الثانويّة ثم في 
جامعة إفران. عاشت أنيكا طويلا في المغرب حيث اشتغل 
والدها ملحقًا عسكريًا بالسفارة الألمانيّة» ثم اعتنقت الإسلام 
وصار اسمها أنيسة. أراد شقيقي حفلة زفاف “كبيرة“» خلافا 
ليوم زفافي الذي اقتصر على حفل متواضع حضره زهاء ثلاثين 
من المدعوين الأقرباء» عبارة عن حفل شاي راقص انتهى عند 
الساعة السابعة مساءء ثم انطلقتٌ مباشرة مع مليكة إلى تارودانت 


كن 17 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لقضاء شهر العسل. أمّا أخي فقد دعا ١٠٠٠‏ ضيفاء ثم سافر إلى 
جزر المالديف مع عروسه في رحلة رومانسيّة. 

يوم الجمعة ١5‏ أيلول (سبتمبر)» تم توقيع عقد الزواج في القصر 
الملكيّ في الرباط. كنت متوبحسًا من العودة إلى مكان لم تطأه 
قدميّ منذ عشر سنوات» كمن لا يحب أن يعود إلى ”مسرح 
الجريمة”. لقد ترعرعت هناك» أعرف كل زاوية وكل خزانة بل 
إنّ كل قطعة زليج في هذا القصر أعرفها وتعرفني» ولكنّه اليوم 
يمثّل بالنسبة لي بابًا مسدودًا أقفلتّه بنفسي. لكن الأمر يتعلق 
بزفاف أخي» سأذهب إذن ضيقًا بين الضيوف لا فردًا من الأسرة. 
إرتديتٌ بذلة عصريّة بدل اللباس المغربيّ التقليديّ؛ كما فعلت 
في العام ١99‏ لحظة التوقيع على وثيقة البيعة» وكأني أقول إني 
أمرّ مرور الكرام. إجتمع الضيوف في غرفة واحدة» فنادى الملك 
عليَ لأكون حاضرًا وقت توقيع عقد الزفاف. تبادلنا كلمات 
مجاملة بسيطة» من قبيل ”هذه مناسبة سعيدة“. ما إن تم توقيع 
العقد وأخذت الصورة التذكاريّة حتّى انصرفتء ثم علمتٌُ في 
وقت لاحق أنْ صورة ثانية أخذت بمجرد مغادرتي» وهنا بدأت 
المهزلة: فقد نشرت وكالة الأنباء المغربيّة صورتين» فكنتٌ 
حاضرًا في الصورة العائليّة المصغرة وغائبًا من الصورة الرسميّة 
للعائلة الملكيّة كاملة. ومع ذلك تعتبر الصورتان رسميّتان بالنسبة 
للزفاف. أي بعبارة أخرى هناك روايتان مختلفتان للرسميات» 
كأن محمد السادس يريد أن يقول: ”لقد تفضْلتٌ ودعوته 


8 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لحضور الحفل مجاملة فقطء ولكن لا تذهبوا بعيدًاء إنه ليس 
فردًا من العائلة“. في مساء اليوم نفسه» نظمت حفلة خصوصية 
على شرف مولاي إسماعيل وعروسه في قصر دار السلام» 
الاقامة الخاصة للملك. كانت سهرة راقية جدًا بفساتينها الطويلة 
الباهرة» حضرها خلق كثيرء بما في ذلك بناتي» ولكثّي لم أكن 
مدعرّاء هكذا أراد الملك... 

في اليوم التالي» السبت الواقع فيه 5 أيلول (سبتمبر)» أقمنا 
بدورنا في بيتناء مقر إقامة مولاي عبد الله حفل استقبال حضره 
المدعوين بصفته رئيس العائلة» وقد استقبلته على مدخل البيت 
ورححبتٌ به مع زوجته. بدا منشرحًاء وهو يعرف الدار جَيّدًا 
لكونه عاش فيها مدة عامين بعد انقلاب عام 2١917‏ عندما أراد 
ومنحهم جناحه الخاصء فعشنا إلى عام ١91/5‏ حياة عائليّة مع 
أطفال الحسن الثاني الخمسة, ثلاث بنات وولدان. 

لهذه المناسبة» قمنا بنصب خيام كبيرة في الحديقة. فقد انضاف 
لأفراد العائلات» بمن فيها الألمانيّة واللبنانيّة» وعددهم يراوح 
٠ه‏ )ع عدد أكبين من الضيوف من منطقة الخليج وأوروبا 
على طاولات تسع على كل واحدة ثمانية أشخاص. جاء الملك 
وزوجته لتحيّة العروس والعريس وهما فوق المنصّة؛ والتقطا 


اك 1 
الفكر الجدبد 


<كجكر 


معهما صورة. ثم فعلنا الشيء نفسه مليكة وأنا. أثناء هذا الحفل» 
كنت أنا ومحمد السادس نلتقي ونقترب ولكن في الحقيقة كنا 
بعيدين كل البعد. كان الجميع يراقبنا» ونحن نتجتّب بعضنا بكل 
تهذيب. مكث الملك معنا طوال السهرة أكثر من ثلاث ساعات. 
عندما غادرنا قمت بدوري بجولة على الطاولات لأحتي 
الضيوف؛ وفوجكتٌ بالحفاوة التي قوبلتُ بهاء والحقيقة بكل 
بساطة أن أكثرهم قام بتأويل حضور الملك كعلامة انفراج بيني 
وبينه» ومن ثم فالاقتراب مني لم يعد مغامرة سيئة العواقب.. 

بعد ذلك؛ حصلت مناوشة عبر الصحافة. يوم الاثنين 78 أيلول 
(سبتمبر)» نشرت أسبوعية لوجورنال مقَالّا لمحرّر الافتتاحيات 
خالد الجامعي» بعنوان ”الغائب الحاضر“» وهو والد أبوبكر 
(بالمناسبة هو من علّمني أبجديات الصحافة لفترة وجيزة» عندما 
كنت في المدرسة الأميركيّة خلال دورة تدريبيّة في جريدة الرأي 
ولكنّ الحسن الثاني أجهض مشروعي بسرعة, لأنه يعتقد أنّه لا 
يليق بأمير أن يمسك القلم ويكتب» وها أنا آخذ بثأري من هذه 
النظريّة). في هذا المقال» انتتفض خالد الجامعىّ ضدّ هذه البدعة 
التي أفرزها ”علم المخزنيّات"“ لتمرير رسالة إقصائيّة. لقد اعتبر 
انبهذ" اللميزقي الصبور الفوتوظراة يّة يسيء للنظام الملكيّ لأنْه 
يفتح الباب أمام كل الشائعات وكل التأويلات ويدفع العديد إلى 
الاعتقاد بوجود نقص حقيقىَ في التماسك والتضامن والوحدة 
داخل الأسرة الحاكمة» وهذا من شأنه أن يؤثّر في استقرار السلطة» 


<كجكر 


وربّما النظام.“ الخلاصة أنه أعطى درسًا في الأخلاق لمحمد 
السادس» مذكرًا إِيّاه أنّه على المرء أن يتغاضى عن اعتراضاته في 
هكذا ظروف. 
في اليوم التالي» الثلاثاء 4 ؟ أيلول (سبتمبر)» في بيان غلب التعثر 
فيه على متانة الصياغة» أعلن القصر الملكيّ أنَّ ما من عضو 
من أعضاء حزب العدالة والتنمية» إسلاميّي القصرء لم يكن 
مدعرًا لحفلناء ثم يضيف أن ”الملك يحيط الجميع برعايته. “ 
في الحقيقة» كان الملك هو من تكفل بمصاريف الحفلةكهديّة 
لأخيء ولذلك فقد تدخل البروتوكول الملكيّ لمراجعة وتدقيق 
لائحة الضيوف. على سبيل المثال» فقد حذفوا اسم فاضل 
العراقيّ صاحب أسبوعيّة لوجورنال» وحذفوا أيضًا ميلود الشعبي 
ولكنّي أعدته إلى اللائحة. في المقابل» فرض القصر علينا 
الجنرال العنيكري! تقبّلنا وجوده باعتبار أنّ الحفل مناسبة لهدنة 
سنتعامل أثناءها بلباقة ووديّة مع الجميع؛ بما في ذلك أعدائنا. 
من جهته فقد تصرّف العنيكري بلياقة وأدب» حيث إِنّه انصرف 
عشر دقائق فقط بعد قدومه لأنه كان يدرك أنه غير مرغوب فيه. 
من جهة أخرىء. ولأسباب سياسية» فوجئت بالإيقاء على اسم 
سيسيليا الزوجة السابقة للرئيس الفرنسيّ نيكولا ساركوزي 
وزوجها الجديد ريشارد أتياس» وهو صديق لأخي مولاي 
إسماعيل. ربما ترك الملك هذه الأسماء بسبب الروابط الأسريّة 
القديمة» لأنْ والد ريشارد أتياس كان خيّاط مبحمد الخامس 


1 ١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


والأمراء مولاي الحسن ووالدي مولايئ غبد الله غندما كانا 
صغيرين. لقد تعلّمت من هذه الحكاية التي يرثى لهاء حكاية 
بدأت بزفاف عائليّ وانتهت مشادّة على صفحات الجرائد, أن 
وجودي في المغرب سرعان ما يتحوّل إلى مشكل: ما إن أقترب 
من النظام حتَّى يبدأ بالغليان. فإذا رغبت أن أستعيد مكانتي علي 
أن أقدّم ضمانات» وهو ما لست مستعدًا للقيام به. ولكن إذا 
لم أفعل وبقيت في الخارج» فسوف ألام على عنادي ورفضي 
الرضوخ. كيف للمخزن أن يقبل فردًا خارجًا عن طاعته؛ أكان 
أميرٌاء رتبٌ أموره بعيدًا عن منظومته؛ أو فردًا أراد العيش تحت 
أي ظرف إِلّا تحت سيطرته؟ لقد ازددثٌ قناعةً أن علاقتي مع 
محمّد السادس ستبقى على ما هي عليه. 


من السابق لأوانه أن يحكم المرء اليوم على الربيع العربي بالأفول 
والفشل في فتح افاق جديدة بينما عجلة التاريخ لا زالت تدور. 
فلنتخيّل أنْ أحدًا حاول أن يقدّم ”حصيلة" للثورة الفرنسيّة بعد 
ثلاث سنوات فقط من بدايتهاء عندما قرّر نواب البورجوازيّة 
في اجتماع بقصر فرساي يوم ه مايو (أيّار) ١7/85‏ أن يؤْسّسوا 
مجلس أعيان الأمّة. فبُعيد ذلك» تتابعت الأحداث: بعد سقوط 
سجن الباستيل الشهير في باريس» وبعد موافقة الملك لويس 
السادس عشر على اعتماد العلم الجديد؛ وإلغاء الامتيازات» 
وإعلان حقوق الإنسان والمواطن» هرب الملك إلى مديئة فارين» 


1 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


واس سي ا 
ومن ثم أعدم الملك؛ وتلت ذلك إعدامات بالجملة؛ ثم مر 

حكم جماعيّ وعودة الإمبراطوريّة. إِنَ الأمور لم تحسم بعد 
والشيء الوحيد الموكد هو أن أنماط الحكم في العالم العربي 
لن تعود أبدًا لسابق عهدهاء بفعل القطيعة التي حدثت في الواقع 
وفي الوعي الجماعي على السواء. صحيح أن الجيش عاد للسلطة 
في مصر على سبيل المثالء إلا أن دكتاتوريّته أصبحت مفضوحة 
رغم رضوخ فئة من الناس لها وسكوت فئة أخرى ومساندة فئة 
ثالثة» وتمرّق حجاب الوهم الذي كان يغلفها في الماضي. في 
أماكن أخرى من العالم العربي» قد تعود ظاهرة الرؤساء مدى 
الحياة» كما عاد النظام الملكىّ عدّة مرّات في فرنسا بعد الثورة» 
ولكنّهم لن يكونوا أبدًا كما عرفناهم من قبل» أي ”أنصاف آلهة“ 
حسب تعبير جان لاكوتور في كتابه عن القيادة الكاريزميّة في 
العالم الثالث الصادر في أواخر ستينيّات القرن الماضي بعنوان: 
أربعة رجال وشعوبهم, السلطة القويّة والتخلّف. 

لكل هذه الأسباب» أفضّل مصطلح ”الصحوة العربيّة“: والخروج 
من مرحلة السبات العميق التي ميّزت العالم العربن سياسيًا. 
ولكن بغض النظر عن المصطلح المستعمل؛ يظل المهم هو 
التخلص من الأحكام الجاهزة إزاء ”العرب“ والمعلبة في غلاف 
ثقافي» إزاء دينهم الإسلام؛ الذي يحلو لكثير من الناس وخاصّة 
في الغرب أن يردّدوا أنه مرادف للخضوع والاستسلام. منذ 


1 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


كتابات غوتيفيلد ويلهام لايبنتز وبعده إرنست رينان» كاد الناس 
أن يسلّموا بأنّ العالم العربن يحمل في جيناته وفي معتقده نوعًا 
من الاستبداد الثابت. تيا لها من رؤية ولا أعادها الله من فكرة! 
إن الإنسان العربي المضطهد هو في المقام الأول مضطهدء 
وكجميع المضطهدين فهو يسعى للانعتاق. بطبيعة الحال» لا بد 
من شرح أسباب كل هذا العجز الديمقراطيّ الذي راكمه العالم 
العربئ ثم هذه الموجة الديمقراطيّة نفسها: إذا لم يكن السبب 
هو العروبة ممزوجة بالإسلام» فماذا يكون؟ ليس لدي أجوبة 
جاهزة ولكنّي أتلمّس مجموعة من العوامل» منها ممارسة تقليدية 
السناية نجمت عن الاستعمارء ثم الاستقلال الذي طبع بطابع 
”النكبة“ التي شكلها تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين؛ ثم هناك 
اقتصاد الريع النفطي الذي أجج الأطماع الجيوسياسيّة وخذلان 
النخبة؛ أخيرّاء هناك طبقة كثيفة من الفكر ”الاستشراقيّ“» والتي 
تبنت تصوّرًا رمزيًا حول الآخر المسلم. كل هذه العوامل صنعت 
خلطة قابلة للانفجار ولكنّها حوصرت لمدة طويلة بالقمع وبكل 
الأساليب التي وصفها ببراعة منذ منتصف القرن السادس عشر 
الكاتب الفرنسيّ إتيان دي لا بوييسي في كتابه خطاب العبوديّة 
الطوعيّة. 

للسياسة نصيبها من الأحلام. في عام 2350١١‏ وفي أفق إقامة 
نظام جديد, لم يعد مجديًا استخدام الألفاظ البالية» ولم يستطع 
القاموس الليبراليَّ ولا حتى الاشتراكيّء من الوفاء بالغرض» 


25 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لترجمة نوع الخيال الذي ملأ الشوارع في العالم العربي» كما 
عجز الخطاب الدينيّ أيضًاء وهذه إحدى مفاجات الأحداث 
التي توالت منذ ذلك الحين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط 
وشبه الجزيرة العربية. كان رأسمال الثورة هو التعبير عن 
الغضبء» أو 0 ى» الانتصار للكرامة لاستعادتها بعد سلسلة 
الانتهاكات التي لحقتهاء من مُلك يدوم أحقابّاء وأنظمة بوليسيّة 
مفترسة» وحقوق تدوسها الأقدام» وممالك مزيّفة» أضف إلى 
ذلك الخطاب المزدوج مع الفلسطيتيّين» وهم أوّل ضحاياناء 
وقد استعملهم الديكتاتوريُون كذريعة لنصبح ضحايا بدورنا. 
لقد ارتقت اليوم الكرامة إلى مقام القيمة المرجعيّة الجديدة» وقد 
تتحول مع مرور الوقت إلى فضاء مشترك دون مضمون سياسيّ 
محدّد. لقد أفلح ”الشارع العربي“ في إزاحة الريّّس ولكنّه لم 
تم هن اسه الملك؛ وسأعود لاحمقًا لهذه النقطة. لكنّ هذا 
الشارع لم يتحوّل بعد إلى ذلك الفضاء العام» الذي يعبّر عن 
الرأي العام» لا لكي يدمّر كل شيء كإعصارء بل ليتحدّث بطريقة 
منظمة لإجبار الحاكمين على مراعاة المحكومين وأخذهم في 
الاعتبار» والخلاصة هي أن سيل الغضب إن لم يرو الديمقراطيّة 
فهو ذاهبٌ لا محالة إلى البحر. 

في انتظار ذلك» لقد تخلصنا من بعض الأوهام» ومنهاء على 
سبيل المثال» فكرة الديمقراطية الرقمية أو الثورة 5,١‏ التي كنا 
نتومّم أن الشباب سينجزها وسيقتسمها بسهولة. أصل هذه 


6 5 3 مكتبة 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الفكرة هو أن التقدّم في المجال الرقمي سوف يعرّز الديمقراطيّة 
لأن الشبكات الاجتماعيّة التي يستعملها الشباب بوفرة ستسمح 
لكل فرد بأن يكون في حالة 7 تواصل مستمرً» ملغيًا الحواجز منقّلا 
وسائل الإعلام أو هيئات المراقبة الخاضعة للدولة. مع الأسف 
ليس الأمر بهذه البساطة. أوّلاء وكما ذكرتٌ في خريف ٠١١١‏ 
5 المجلة الفرنسيّة النقاش» فإِنّ فرص استعمال الإنترنت ومن 
باب أولى» الشبكات الاجتماعيّة مثل الفيسبوك» ما زالت غير 
متاحة للجميع في العالم العربي. في عام 7٠٠١٠١‏ كانت شبكة 
الإنترنت في متناول /14٠‏ من المغاربة وثلث التونسيّين؛ 
ولكن فقط ل /7١‏ من السورتّين و١٠/‏ من اليمنيّين. كان ربع 
التونسيين يستخدمون الفيسبوك؛ مقابل 9/ فقط من المصرئين 
وعدد ضئيل من السورّين واليمنيئين. ثانيًا وهذا هو الأهم؛ حتّى 
إذا افترضنا تعميم شبكة الإنترنت فأصبحت في متناول الجميع؛ 
فإنَ المضامين وبالتالي الربط الشبكي بسرعة إلكترونيّة» (والذي 
يُبهرنا جميعًا)؛ لن تكون بالضرورة في المتناول أيضًا. أخيرّاء 
فإن الطابع الافتراضي للنضال عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ 
يدفعه في بعض الأحيان إلى تغليب النقد على البناء. 

أنجزت جامعة هارفارد الأميركيّة في عام 4 ٠٠٠١‏ دراسة واسعة عن 
المدوّنات العربيّة تحت عنوان: “رسم خريطة المدونات العربيّة: 
السياسة والثقافة والمعارضة” من خلال جرد 76.٠.٠‏ من 
المواقع الرقميّة وفحص مضمون 1٠.٠‏ منها. في الخلاصات» 


06 2 
الفكر الجديد 


<كجكر 


حذّر أصحاب الدراسة من وهم ”الديمقراطيّة التكنولوجيّة. “ إِنَّ 
التكنولوجيا تغيّر قواعد اللعبة» ا ب 
الطرف المنتصر في المباراة. الدرس نفسه نتعلمه من التاريخ: 
لن يدعي أحد أن التغييرات العميقة في كلّ من تونس وليبيا 
ومصر ابتداءً من عام ١51١9‏ كان سببها التلغرافء أو أنْ راديو 
صوت العرب ‏ المحطة الشهيرة التي كانت تبثٌ من القاهرة على 
الموجات القصيرة ‏ يُفْسَر لوحده انتشار الفكر القومي العربي 
في ستينيّات القرن الماضي. في الحالة الأولى» ساعدت التقنية 
فقط على نشر النقاط الأربع عشرة التي حدّدها الرئيس الأميركيّ 
وودرو ويلسون والهادفة لأن يصبح العالم ”أكثر أمئا بالنسبة إلى 
الديمقراطيّة“) أما في الحالة الثانية فقد كانت النقكة في تخددمة 
كاريزما الرئيس عبد الناصر. لو لم يلتقط الفاعلون المحليون 
أفكار الأوّل والثاني» لمااحدث أىْ شيء أصلا. 

على صعيد ممائل؛ يعتبر الوضع الديموغرافيّ للسكان مهمًا دون 
أن يشكل لوحده محدّدًا حتميًا للديمقراطيّة. أوَلَاه على عكس 
ما يقال» وباستثناء قطاع غرّة واليمن» ليست شعوب العالم 
العربيّ شابّة إلى أقصى الحدود على الأقل مقارنة بسكان أفريقيا 
حوب الصحراء فلو كانت ثشية الشباب وحدها عايلة أبانكا 
في إرساء الديمقراطيّة» لأصبحت بلدان أفريقيا جنوب الصحراء 
فردوس الإرادة الشعبيّة... نعم فئة الشباب بين الخامسة عشرة 
سنة والثلاثين سنة» فئة واسعة في العالم العربي» لأنّها نتاج معدل 


1 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


الإنجاب الذي كان مرتفعًا حتى نهاية القرن العشرين» وهي 
فئة وجدت نفسها اليوم في سوق العمل الضيّق الذي لا يسع 
الجميع كما ونوعًا. لكنّ الفئة العمريّة نفسها ترتفع عندما ننتقل 
إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراءء وهي الظاهرة التي باركها 
المصرف الدوليّ ووصفها ”بالمكافأة الديمغرافيّة“ المستقبليّة 
تمامًا كما كان قد وعد العالم العربيّ منذ عشرين عامًا ”بالهديّة 
الديمغرافيّة“. قد تكون الهبة أو الهدية نفيسةً بالمطلق» ولكن 
هذا الرأسمال البشري لا يصبح حقًا ”هدية“ أو ”مكافأة“ إِلّا إذا 
تحقّق استثماره بصورة منتجة في المجتمع. 

وهو ما يقودنا مرة أخرى إلى مسألة الحكم. يجد جزء من 
الشباب أنفسهم, بعد أن تلقوا تأسيسًا رديئّاء بدون أفق مهنيّ» 
وقد ينجرٌ بعضهم إلى العنف. بالإضافة إلى ذلك» صحيح أن 
الشباب بحاجة إلى الديمقراطيّة ليتطوّروا ويحقّقوا ذاتهم؛ ولكن 
ليس من المسَلّم به أنّ الديمقراطيّة تزدهر؛ على نحو أفضل؛ في 
بلد غالبيّته من الشبابء بل إِنْ الدراسات تميل إلى العكس: لا 
د من حدٌ أدنى من النضج السكاتي لكي تنشأ الديمقراطئة وي 
ولكي تترسّخ على نحو دائم ثانيًا. هذا العامل يصبّ في صالح 
بلد مثل تونس الذي يبلغ متوسّط العمر فيه تسعة وعشرين عامًا. 
بغضٌ النظر عن العوامل الأخرى» لتونس موضوعيًا حظوظ لكي 
تتحوّل إلى ديمقراطيّة مستدامة أكبر من حظوظ دولة مثل اليمن» 
التي لا يتجاوز متوسّط العمر فيها ثمانية عشر عامًاء لسبب بسيط 


4 18 
الفكر الجديد 


<كجكر 


هو أنه ليس من السهل أن تعمل المؤسسات عندما يكون ثمانية 
أفراد من أصل عشرة لا يتجاوزون الثلاثين عامّاء وينتظرون ممّن 
يفوقونهم سنا وعددهم قليل؛ أن يوفروا لهم فرص النجاح. لقد 
انتبهت تقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية منذ تسعينيّات القرن 
الماضيء إلى أن العالم العربن يعرف ثلاث صعوبات هيكليّة: 
سوء الحكم, والتعليم غير الملائم للشباب؛ وأخيرًا تأخحر نيل 
النساء حقوقهنٌ. أحياناء تنسينا نشوة الربيع العربيّ ما كنا قد 
أد ركناه من قبل عندما كانت أفقنا مسدودة. 

لن أتفاجأ إذا سجّل المؤرّخون في المستقبل؛ أن الربيع 
الديمقراطيّ العربيّ الذي انطلق عام ٠١١١‏ قد دق آخر مسمار 
في نعش القوميّة العربيّة. فمنذ بداية هذا الربيع العربيّ» انفردت 
مسارات اثنين وعشرين بلدًا من العالم العربيّ واختلفت عن 
بعضهاء لأنها بكل بساطة بلدان مختلفة» وعناصر التمايز أكثر 
من عناصر التقارب ولو أنَ كل بلد منها ظل يتابع عن كثب تجربة 
جيرانه. أمَا المشروع القوميّ العربيّ التاريخي» فقد ظهر اليوم 
على حقيقته كما كان دومًاء كمشرو ع يطمح للإجماعء وبالتالي 
فهو مشروع حداثة مزيّفة. ومع ذلك» يجب ألا ننسى سياقات 
ظهور أيديولوجيّات الماضيء وأنّ المشروع القوميّ كان ردًا 
على المشروع الاستعماري ”فرّق تسد" » كما كان سلاح النفط 
من الناحية الاقتصاديّة شكلاً من أشكال المقاومة لاملاءات 
الحرب الباردة. أخيرّاء فإنْ الجهاد العابر للحدود كما يتصوّره 


61 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تنظيم القاعدة و الغرب, أي رد العالم العربيّ على الاستشراق» 
فقد نشأ كل منهما كردٌ فعل على جدليّة التسييج والانغلاق. 
الاستشراق صوّرنا بشكل كاريكاتوري» ونحن نردّ عليه بالمثل. 
أمّا بالنسبة إلى الجهاد الذي يدعو إليه أسامة بن لادن» هل كان 
سيكتسب كل هذه الهالة لولا الحرب العالميّة على الإرهاب التي 
أطلقها الرئيس جورج دبليو بوش» والتي ضخمت حجمه؟ على 
أي حال» نحن لم نعد مُحاصّرين بين سندان السلطويّة ومطرقة 
الإسلاميّين أو الأميركيين. يعيش العالم العربيّ اليوم تحرّرًا على 
ثلاثة مستويات: لم يعد مرتهّنًا لإرهاب تنظيم القاعدة أو لأجندة 
المحافظين الجدد الذين فقدوا السلطة في واشنطن» تخلّص 
من الحكام المستبدّين القدامى وربما أَسْلمَ مقاليده لمستبدّين 
جدد؛ وأخيرًا أدرك بأن السيطرة الأجنبيّة كانت نتيجة ضعفه في 
الماضي أكثر منها سببًا لهذا الضعف. 

بالطبع» تابعثٌ الربيع العربيّ ولا زلت أتابع أطواره بشغف 
واهتمام بالغيّن» وأنا على يقين أنْ هذا الزلزال قد غيّر العالم. 
ولاه لقد كيّس هزيمة المحافظين الجدد في أميركا الذين 
قاومتّهم بكل ما أوتيتٌ من قوّة. إبتداءً من اليوم» لم يبق العربٌُ 
في حاجة إلى ”مخلّص“ أجنبي» فقد خلصوا أنفسَهم بأنفسهم. 
وبالتالي فقد وجدتٌ نفسي» وهذه مفارقة» على خلاف مع أبناء 
خالتي في المملكة العربيّة السعوديّة» رغم أني وقفتٌ بجانبهم في 
أحلك الساعات عندما كان جورج دبليو بوشء بعد أن بدأ حربه 


46 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الصليبيّة الديمقراطيّة بغزو العراق» قد وضع المملكة الوهَّابيّة 
نصبّ عينيه. على عكس محمّد السادسء لم أقبل التضحية 
بالمملكة العربيّة السعوديّة على مذبح الانتهازيّة السياسيّة التي 
تسمح للمحافظين الجدد الأميركيّين بتقسيم العالم العربيّ بين 
ملوك شباب عصريّين من جهة ‏ المغرب والأردن ‏ ومستبدّين 
طغاة من الزعماء القدامى في البلدان الأخرى» يغرفون بدرجات 
متفاوتة من الفكر الظلاميّ» ويسهّل التخلص منهم فيما بعد 
تحت ذريعة إرساء الديمقراطيّة. ولكن عندما انضممتٌ إلى الربيع 
العربيّ» رماني أبناء خالتي السعوديّون بتهمة خطيرة وهي الخيانة. 
في نظرهم, يُعتبر انحيازي للشعب في مواجهة عشيرتي خذلانا 
لواجب العصبيّة التي كتب عنها ابن خلدون. فرددت عليهم أني 
أودّ أن يتحرّر بنو عشيرتي والآخرون أيضّاء والذين أعتبرهم 
جميعًا مواطنين وشركائي في المواطنة. لقد خاطبتهم بالصراحة 
التي تسمح بها الصداقة ويوجبها الوفاء» ونصحتهم ألا يستعملوا 
قوّتهم الماليّة الهائلة لإفشال الديمقراطيّة في العالم. بدلا من 
تصدير تناقضاتهم وتشتّجاتهم, بدءًا بسحقهم للمجتمع المدنيّ 
من خلال علاقات القوّة الجيوسياسيّة؛ ألم يكن من الأصوب أن 
يدفعوا مستقبل بلادهم نحو أفق يحسدهم عليه الآخرون؟ 

كان الربيع العربي بالنسبة إليّ فرصة لا تعوّضء؛ وشعرتٌ أني 
لست وحدي ولم أعد أغرّد خارج السرب. أخيرًا ها هم الملايين 
من الناس العاديّين يصرخون في الشارع بأفكار ومفاهيم طالما 


8 5:١١ 
الفكر الجديد‎ 


<كجكر 


ناديتٌُ بها وألححتٌ عليها منذ سنئوات إلى أن وجدتٌ نفسي 
مُبعٌّدا بصفتي الأمير الأحمرء أي ذلك الثوريء ذا الامتيازات 
بالولادة» وهذا تناقض حتّى في المصطلحات. بطبيعة الحال؛ 
في بلاديء كان الاتهام بتسريع أزمة النظام أكثر حدّة من نظيره 
في المملكة العربيّة السعوديّة. في أحسن الأحوال كان أقربٌ 
أفراد أسرتي يعاتبونني بقولهم: ”ربما معك حقٌّ ولكتك بهذا 
التوجٌه ستسرٌ ع بسقوط العرش," ' فكنت أردٌ أنه بإمكان الملكيّة 
ألا تخشى على مستقبلها لو أنْ الميثاق بين الملك والشعب الذي 
نحتفي به كل سنة لم يُطرح جانبًا ويصبح كلامًا فارغًا لا مضمون 
له وإِلّا فبأيّ حقٌّ وبأيّ منطق يجب أن أهادن ملكيّة لا تقبل أن 
يحاسبها أحد لأنْها ترعم أنّ لها حقوًا منزلة؟ 

كما هو الحال بالنسبة إلى الربيع العربي ككلء لا عودة إلى 
الماضي في المغرب. هل تراجعت حركة ٠١‏ شباط (فبراير)؟ 
لح رك م سس لاس حي ل 01 
سوى تاريخ ميلادها عام ,٠ ٠١١‏ وهذه الملاحظة لا تمس أبدًا 
تعاطفي السياسيّ واحترامي العميق لكل ”أنبياء الشارع“ الذين 
خرجوا من بيوتهم أسبوعًا تلو أسبوع» ولاشك أنّي لست وحدي 
من يقدّرهم أيّما تقدير. إن صدى صيحاتهم الشهيرة وتعابيرهم 
الحرّة لا زال يترذد على مسامع العديد من المغاربة» وقد تحرّروا 
من رعب السلطة: ”فلوس الشعب فين مشاو؟ اللي سرقهم هو 
المخزن”» “المخزن يطلع برّاك» “ما نخافوش من الزرواطة”» 


1ت 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


”أولادكم شبّعتوهم وأولاد الشعب جوّعتوهم, أولادكم يقراو 
في الخارج» وأولاد الشعب أمامهم الفشل» أولادكم خدّمتوهم 
وأولاد الشعب هجّرتوهم”. ”هذا المغرب هو بلادي”, 
”الماجيدي سير فحالك» المغرب ماشي ديالك» فؤاد عالي 
الهمة سير فحالكء المغر ب ماشي ديالك”» ”الماجيدي يطلع 
برا ! والهمة يطلع يرا !“ 

عندما يجري التنديد الشديد بأقرب المقرّبين» وبصفة علانيّة, 
فإِنّ خرافة الملك الطيّب والبطانة الشريرة تتهاوى. لقد استشعر 
محمّد السادس الخطرء فقام بردّة فعل سريعة يوم التاسع من 
آذار (مارس) ليطمئن الشعب بحزمة من التعهّدات وكأنه يقول 
لقد فهمتكم. هكذا خاطب الشعب معلئًا عن تعديل دستوري 
تم اعتماده يوم 7٠‏ حزيران (يونيو) عن طريق استفتاء حؤلته 
السلطة إلى بيعة شعبيّة تجدّدٌ بها الجماهيدُ ولاءَها للملكيّة. 
كنا نعتقد أن النظام تخلص من ماكينة فبركة النتائج الانتخابيّة 
حسب الطلب فإذا بها تعمل من جديد: خحشدت الجموع في 
الحافلات وسيقوا إلى مكاتب التصويت كالقطعان الانتخابيّة, 
ولكي يفهموا جيّدَا ما المطلوب منهم, وزّعت وزارة الأوقاف 
والشؤون الإسلاميّة يوم الجمعة ©؟ حزيران (يونيو) على خطباء 
المساجد خطبة ”دستورية“ مضمونها أن التصويت بنعم واجب 
شرعئّ» وهذه فضيحة فاقت كل إبداعات حقبة الحسن الثاني 
ووزيره إدريس البصري. وهو صاحب الخبرة والباع الطويل في 


ا 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


صناعة النتائج الخياليّة! أمَا الزاوية البودشيشيّة وهي أكبر طريقة 
صوفيّة في المغرب» فقد جَُنْدتْ جنبًا إلى جنب مع عصابات 
البلطجيّة الذين سخرتهم السلطات لتنظيم احتجاجات مضادة 
عنيفة في بعض الأحيان. فإذا كان الهدف حقًا هو المضيّ في 
طريق الديمقراطيّة بالتدريج وإذا كانت أغلبيّة المغاربة على 
استعداد لتأييد مشروع الدستور الجديد» وهو ما أميل إليه» فلماذا 
خان الأسلوبٌ الهدف المعلن وفضح الغرض المُضْمَر. لقد 
خشيّ المخزن على امتيازاته» فعمدٌ إلى التعشّف على تصويت 
شعبي لانشاء “"حزب الانضباط” فِيَتَمَْرسُ من ورائه ويحصّن 
أفضل» تجئّد الخطاب الرسميّ وكل ما يدور في فلكه لتجييش 
مصدر القوت اليوميّ» والخوف من التبهميش في بلد منفتح 
على العولمة وأهوالهاء والخوف من بعض السلوكيّات الشبابيّة 
الجديدة في إطار ثقافة محافظة... 

أن يتظاهر أن لديه استراتيجيّة ولم ينتبه ”رعاياه“ لوجودها. وإذا 
لم يكن قد أرسى دعائم الديمقراطيّة في المملكة بعد وفاة والده؛ 
ماذا فعل طوال هذه المذة؟ رغم كل عبارات التمجيد والمدح 
التي يرددها الممجّدون والمادحونء فإن الواقع لم يسجّل أن 


د 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


”المفهوم الجديد للسلطة“ و”الملكيّة التنفيذيّة“ في عداد 
عناصر التقدم؛ لأنْ الشعب لم يلمس منها إلا الواجهة الإعلاميّة 
وهو ما يبرّر الاحتجاج. تحت ضغط الأحداث؛ حاول الملك 
أن يناور قدر الإمكان: هكذا وضع في الدستور الجديد بعض 
اللمسات الانفتاحيّة هنا وهناك» من بينها أن الوزير الأوّل (وقد 
أصبح يسمّى رئيس الحكومة) سيكون منبثقا من الأغلبيّة التي 
انتخبها الشعب؛ وأنشأ عدّة مجالس جديدة لتأثيث المشهد 
السياسيٌ بجيش من الهيئات غير الحكوميّة» فتزداد مصداقيّة 
العمل السياسيّ انهيارًا وتتناسل فرص استقطاب النخب من 
طرف السلطة وخاصة أفراد المجتمع المدني؛ أخيّراء جرى 
إدراج مجموعة من ”الحقوق” الجديدة في النصص الدستوري. 
لكنّ هذه الحقوق» ولو افترضنا جدلًا أنْها ُرجمت إلى مراسيم 
تطبيقيّة» فإنّها تبدو صعبة التطبيق. المئال على ذلك هو أن الفصل 
الهمّة ومنير الماجيدي» سيفقدون بين عشيّة وضحاها امتيازات 
القابضة التي يمتلكها القصر تنتج وحدها /,/ من الناتج المحلىّ 
الخام في المغرب؟ حسب هذا المنطق لماذا لا ينصٌ الدستور على 
أن لفظ ”المخزن" غير مشتقٌّ من فعل حََرّنَ: يخِْنُ. إنْها نصوص 
تصطدم مع الواقع ! أمَا المنطق السليم فكان يقتضي بكل بساطة 


يلك 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


أن يوضع حدٌ لدولة المخزن التي يترأسّها محمد السادسء أي 
تطهير الدولة من المخزن. لقد فعلها الملك الإنجليزي جورج 
الغالث في عام ١7٠0‏ عندما سلّم ممتلكات التاج إلى الدولة في 
مقابل الحصول على مرتّب يسمّى القائمة المدنيّة» وهو مبلغ من 
ميزائيّة التسيير السنويّة التي يصوّت عليها البرلمان. 

مرّة أخرى في المغرب»؛ جرت التضحية بالتغيير الحقيقي الذي 
من شأنه أن يزيد من التحرّر السياسيّ والاقتصادي لأكبر عدد من 
المواطنين» واكتفينا بتغيير بعض مظاهر السلطة فقط. في يوم؟ ؟ 
تشرين الثاني (نوفمبر) »30١١‏ عيّن الملك عبد الإله بنكيران 
رئيسًا للحكومة» لكونه زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلاميّ 
الملكيّ والذي فاز في الانتخابات المبكرة. منذ مشاركته الأولى 
في الانتخابات النيابيّة عام 2١491/‏ كبر حزب العدالة والتنمية 
وترعرع في ظَلّ القصرء وانتقل من 8 مقاعد إلى ٠١‏ مقاعد 
من أصل 795 مقعدًا في المجموع. في مواجهة الاحتجاجات» 
كان المطلوب منه أن يودّي دور التناوب الجديدء بعد التناوب 
الأوّل الذي جسّده الاشتراكيّون بزعامة عبد الرحمن اليوسفي 
في العام .١5394‏ ولكن مرّة أخرى نجح المخزن في امتصاص 
دماء هذا الكيان الذي أدى في الماضي دور المعارضة الحقيقيّة 
قبل أن يتفاوض للدخول إلى حكومة مهمّتها الأولى إنهاك حركة 
٠‏ شباط (فبراير). الآن وبعد أن أصبحت حالة حزب العدالة 
والتنمية من الضعف والهوان مثل حالة الاتحاد الاشتراكيٌ بعد 


حل 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


تجربته في التناوب الأوّلء لا يسعني إِلَا أن أتّفق من جهة مع 
الإسلاميّين ”الحقيقييد” في المغر بء وهم جماعة العدل 
والإحسان» ومن جهة أخرى مع أرقام وكالة التصنيف المالي 
الدوليّة ستاندرد اند بورز. يا له من فشل ذريع! أمّا الجماعة فقد 
خاطب أحد زعمائهاء عبد الله الشيباني» ”أخاهم“ بنكيران 
رئيس الحكومة قائلًا: ”لا تستسلم للمخزن. كن على يقين أنهم 
لن يتركوك أبدًا تنجاوز الخطوط الحمراء التي تحمي هيمنتهم 
ونهبهم لخيرات الشعب.' أمّا الوكالة فقد برّرت يوم ١١‏ تشرين 
الأوّل (أكتوبر) 7٠١١‏ تعديلها لتصنيف ديون المغرب الطويلة 
الأحلء وقد منحته نقطة سلبية: ”لو بقيت نسبة البطالة مرتفعة» 
ولو ارتفعت تكلفة المعيشة» ولو خيّبت الإصلاحات السياسيّة 
تطلعات السكان» هناك احتمال اضطرابات على المدى الطويل 
وعلى نطاق واسع”". ليست هذه الافتراضات من قبيل الخيال 
المحضء وتضافرها جميعًا لا يبشر بالخير... 

بعد الانتشاءء» بانت الغيوم في سماء المغرب. فما ربحه محمد 
السادس من وقت» يسبب الدستور الجديد» خسرته البلاد. ما زلنا 
نرزح تحت سلطة ملكيّة مطلقة مرجعها السماء ولها دستورهاء 
ولم ننتقل حتّى إلى ملكيّة دستوريّة» فما بالك بملكيّة برلمائيّة 
تحترم السيادة الشعبيّة. نعم لقد تم التخلي عن قدسيّة شخص 
الملك» ولكن وضع أمير المؤمنين» وقرارات الملك المندرجة 
تحت هذا الإطار بوصفه زعيمًا روحيّاء ثم البيعة للملك؛ كلها 


1 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


أمور احتفظت بقداستها. من يتفضّل ويشرح لي الفرق؟ في 
بلدان أخرى كانت الملكيّة الدستوريّة هي مرحلة انتقاليّة إلى 
ملكيّة مسؤولة أمام الشعبء أما في المغرب ومنذ عام 2١595757‏ 
عندما أصبح للمغرب دستوره للمرّة الأولى» والدستور وكأنه 
ردهة ”الخطوات التائهة“؛ فنحن في انتظار طويل. إِنّنا نقضي 
عمرنا ونحن ننتظر قطارًا لن يدخل أبدًا إلى المحطة. من الحسن 
الثاني إلى محمّد السادسء يلهو الملك من حين لآخر بتعديل 
دستوريٌ لإخفاء ذلك الجمود الجماعيّ» ويتركنا عالقين بلا أفق 
في قاعة للعبور أبوابها مسدودة بإحكام. ماذا نفعل إذاً؟ نصلّح 
ونرقع ونرمّم جمودنا السرمدي الذي أصبح جزءًا من كياننا؟ 
رغم لقبي السلالي» أنا مستعدٌ اليوم أن أوقع دون تحفظ على 
وثيقة “الاختيار الثوري” التي طرحها سنة ١177‏ المهدي بن 
بركة» وهي وثيقة معتدلة» تنادي بإقامة ملكيّة دستوريّة حيث 
الملك هو رمز استمراريّة المؤْسّسات» و الحكومة تنبثق من 
الشعب الذي يمارس السلطة. 

من مثالب النظام الملكيّ المغربئّ» حظره لاستعمال كامل للعقل. 
فليس بإمكان أيٍّ فرد من ”الرعيّة“ أن يصبح مواطنًا حقًا في ظل 
نظام يمتلك فيه شخص واحد الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها 
الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وينتج عن هذا الانسداد 
البنيويّ أن المغرب لا يستطيع تجاوز ما هو فيه لأنَ مواطنيه غير 
قادرين على مصارحة أمير المؤمنين بحقائق يُفترض أنه يعلمها 


41 3 
الفكر الجديد 


<كجكر 


علم اليقين. وهذ مغالطة في أي نقاش ديمقراطيّ داخل المجتمع. 
وإذا اقترضنا وحصل أن النقاش العام انتهى بالإجماع على أمر 
ماء فإن هذا الإجماع يظل ملغى مادام الملك لم يوافق عليه. كان 
الحسن الثاني يكره الكتاب الساخر الذي ألّفه فيليب راشيهت 
تحت عنوان ديكارت ليس مغربيًا والذي صدر عام .١5/87‏ أما 
محمد السادس» ولكي نكتفي بمثال واحد» فقد أعاد في العام 
توجيه النقاش حول قانون الأسرة والأحوال الشخصية. 
ِنْ المغرب ما زال يعيش اليوم كما عاش بالأمس على إيقاع 
إجهاض صارم للعقل الجماعيّ ومن ثم فإ التوبحه نحو الحداثة 
أمر بعيد المنال. يحتاج النظام الملكيّ إلى التطوّرء لمصلحة 
البلاد ومن أجل بقائه» فالإيمان بملكيّة مطلقة بات نافلا. 

بعد مرور أربعة عشر عامًا على تبوّئه العرشء لا أعتقد أن محمّد 
السادس سيغيّر طبيعة النظام الملكيّ المغربيّ الشريفيّ» وذلك 
لسببين: أوّلاء لعدم ميله إلى التجديد, ولا للخروج من المساحة 
التي يتحرّك ضمنها مرتاحًاء ويصوغ مملكة للجميع. ثانا 
أنه يتضايق من العمل على الأسلوب القديم؛ إن فن الحكم في 
المغرب» القادم من تعاقب القرونء» يعيش أيّامه الأخيرة» وهذا 
في حدٌّ ذاته خبر سار لأنّ هذا الأسلوب فيه من القسوة والخشونة 
ما فيه وهو من النوع الذي يسمّيه لاري دايموند صديقي 
وزميلي في جامعة ستانفورد» والمتخصّص في العلوم السياسيّة: 
رمت 165م1ك «جهذه1 ةرم ر[زيري» وهو ما أترحمه وأنا أفكر بميشال 


.1 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


فوكو بعبارة: ”الممارسة الاستبدادية للحكم"» أو ربما قد يقابلها 
في القائوس السرائيئ العزيئ تعبير “خرفة الحكم”.عمائاء يخيل 
هذا المفهوم في المغرب على إتقان ممارسة الحكم أخذا في 
الاعتبار الاستمرار الزمنيّ والذاكرة المؤْسّساتية للمخزن» وهذاما 
لا أحنٌ إليه أبدًا. لكتّني أعي أيضًا أنَ نفض اليد من الماضي بشكل 
شامل يفتح الباب للمغامرة وللعنف الجماعيّ الذي يتمخض عنه 
دون شك غد أفضل لأنه ”مختلف تمامًا“ عن الحاضر. لا أرتاح 
كثيرًا لدعاة التغيير الشامل والسريع؛ بل أطمئنٌ أكثر لمن يخبرني 
بالخطوة المقبلة نحو التحسّنء ثم الخطوة التي تليهاء بدل مَن 
يعدّني بالفردوس على الأرض. أمّا عن المغرب الذي أحلم به 
فإني أثق في حكمتنا الشعبيّة التي تسخر من جحا. ألسنا نحن 
الذين نبحث عن ”مغرب جديد“ نشبه جحاء الذي كان يبحث 
عن حماره وهو يمتطيه؟ لماذا نيأس من انبثاق مغرب آخر علمًا 
أّه لن يرى النور إلا من خلال كل واحد مناه وقد بدأ بالفعل 
ينبثق شيئًا فشيئًا في دواخلنا وحولنا؟ لذلك؛ هل من الضروري 
أن نحطم البلاد لكي تتغيّر؟ 

أتفهّم من يدفعه الإحباط وخيبة الأمل لهذا الاستنتاج» من جهتي 
أختار هذا السبيل» وأعتقد أن بناء مغرب جديد مع المغاربة كما 
هم من واجبنا أي أن لا ننتظر إعادة تعليمهم وتكوينهم لنصنع 
شعبًا جديدًا. لست ”حستًا“» بل على العكس من ذلك وقد 
برهنت ذلك والملك الراحل على قيد الحياة. لكن حاولتٌ 


4 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


على امتداد صفحات هذا الكتاب» وعلى الرغم من كل ما فوّق 
بيني وبين الحسن الثاني» أن أتكلّم عن نصيبه من المجد ونصيبه 
من الظلام» وقد فعلتُ ذلك لأنه يجب أن نتعامل مع الواقع 
ولأنه بعد ملك دام ثمانية وثلاثين عامّاء أصبحنا جميعًاء شئنا 
ام أننناء "ايناد" السعسن الفاتي ..وهذا يعني بألنسبة إل أن صبتاعة 
الجديد دون تحطيم وتدمير تتطلب تحويل القديم» وهو ما 
شرع فيه الحسن الثاني بنفسه في أواخر عهدهء حيث بدأ في 
تغيير مملكته بلُيُونة وهو أوّل من يعرف خبايا ومفاصل حرفة 
الحكم المطلق» فأخذ يخفف الضغط ببطء خشية أن ينهار البناء. 
أما محمّد السادسء وقد أفرغ المساحة من حوله وملأها فقط 
برفاق فاشلين عديمي الكفاءة» فإِنّه يوشك أن يجرّ وراءه البلد 
كاملا إذا ما ترنّح نظامه. 

كما أن الملوك صمدوا أكثر من الرؤساء أمام الاحتجاجات, فإِنّ 
رصيد الحنكة والتجربة الذي راكمه المغرب منذ قرون في فنّ 
الحكم يمكنه أن يساعد على الانتقال الديمقراطيّ. السبب هو أن 
النظام الملكىّ يجسّد وحدة البلد على مر الزمان» وهو زمان طويل 
ومستمرٌ لأنه مرتبط بتداول السلالات على الحكم, وبالتالي فإنَّ 
الملكيّة بمثابة وعاء تراكميّ لفن الحكم هذاء وهو أمر لا يمكن 
اختراعه بين عشيّة وضحاها. قد لا يحبّ المرء القصر ‏ وأنا 
أتفهّم تمامًا هذا الموقف - ولكن ينبغي ألا نغفل أنّ القصر ما هو 
إلا بنية من بين بنى دار المُلكء ومن الممكن إعادة هيكلة هذه 


لفق 1 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الدار بل حتّى إعادة النظر بعمق في هندستها وتصميمهاء وهذا لا 
يتوقف إلا على إرادتنا وإبداعنا. هل من الضروري أن نفرغها أو 
تتركها للخراب أوعرضة للنهب والتدمير؟ لا يهمّني من يسكنها 
ولكن تهمّني المرافق والمنشآت» وكلّ ما يسمح للدار أن تكون 
دارًا سليمة وتؤدّي دورها كائنًا من كان قاطنها. في المغرب» 
الذي تعاقبت على حكمه أسر مالكة منذ دولة الأدارسة في القرن 
الثامن الميلادي» ترسّخت في دار الملك تقاليد وأعراف وقواعد 
في ممارسة السلطة على شكل حركات وإيماءات عريقة» وتعابير 
صمدت أمام تعاقب الدهورء ومعارف نفيسة رسّختها التجربة. 
لقد تعلّمت فئات مختلفة من مسؤولي الدولة ثقافة التريّث وثقافة 
الاستعجال» واستوعبوا فسيفساء قبائلناء والإصغاء إلى الزواياء 
وجمع الأموال» وإدارة الأراضي» وفنَّ الحرب أو التفاوض» 
ومآرب أخرى. ولذلك أعتقد أن التفريط في كل هذا الكنز يعتبر 
أمرًا لا مسؤولًا. أمَا اليوم فإن هذا الرصيد بدأ يبلى لأنّ مبادرة 
تجديده لا يمكن أن تأتي إلا من رأس النظام. 

لا يقطن محمّد السادس في القصر الرئيسيّ في الرباط» ومن 
البديهي أنَ له حرّية اختيار مكان إقامته. في بداية حكمه. بدا هذا 
الابتعاد النسبي كإشارة إلى بداية الانفتاح. لكنّ تعاقب السنوات 
أظهر أنْ هذا الاختيار لا تحرّكه الرغبة في التجديد بل فقط التعبير 
عن الهجران. إبتعد الملك عن دار المُلك ولا مناص من التمييز 
بينها وبين المخزن المفترس: إيتعد عنها لأنه يدرك أن نفسيّته لا 


فد 15 
الفكر الجدي 


<جكر 


ترتاح للسكن في هذا المكان. كان الحسن الثاني حريصًا على 
أن تحافظ الملكيّة على مظاهر القَوّة والهيبة» أما محمّد السادس 
فإنه يمقت الثقافة السياسيّة التي يُعبّر عنها المثل المغربئ: ”كن 
سَبعًا وكلتي!“ أمَا اليوم فإِنْ بيت العلوتّين فقدٌ بريقه. لو كانت 
وظيفة الملكيّة تقتصر على شؤون الأسرة الحاكمة والأمراء 
والأميرات لكان الأمر هيّئاء ولكنّه أمر لا يغتفر عندما يكون 
دور الملكيّة بل واجبها أن تستوعب جميع المغاربة دون تمييز 
وتكون في خدمتهم. على الأقل هذه قناعتي: يجب أن يتحوّل 
بيت العلويّين» الذي أنحدر منة ولا أتنكر له. إلى محفل شعبيّ 
وديمقراطي» يرمز للأمان وللسكينة» وليس الهدف أن تستمرٌ 
الملكيّة بل أن يحيا المغرب. لكز الحقيقة البوع هي اذا اببملها 
كلّ البعد عن هذا السبيل» فعندما سلّم الملك مفاتيح دار المُلك 
إلى زملائه السابقين في المعهد الملكيّ؛ إلى فؤاد عالي الهمّة 
وإلى منير الماجيدي وغيرهماء لم يعد محمّد السادس هو ربٌ 
البيت» واختلط الأمرء بين الملك وحاشيته» ولا نعرف تحديدًا 
من هو الطرف الذي يعمل في خدمة الطرف الآخرء ومن هو 
الطرف الذي يستغلٌ الطرف الآخر. كلّ فرد صار الوزير الأوّل 
المزيّف» وله سلطات لا حدّ لها ولا أفق في المكان ولا الزمان» 
وقد أفلحوا في حشر الملك في مساحة تضيق يومًا بعد يوم ولو 
أنه مرتاح بداخلهاء ثم أحكموا قبضتهم على البيت الملكيّ ومن 
ثم على المغرب بأسره. لقد نطقت صرخات الشارع بالحقّ 


1 8 
الفكر الجديد 


<كجكر 


المبين: من أجل ديمقراطيّة البلاد» لا بد من طرد هؤّلاء اللئام من 
القصر. 

في كتابه السيرتان الذي صدر عام 2١915495‏ يلاحظ الاقتصادي 
الشهير جون ماينارد كينز أنه ”لا يكفي أن تكون حالة الأمور 
ال ار ل 
تكون أفضل بحيث تستحقٌ المعاناة التي سنكابدها خلال الانتقال 
والتغيير“. لقد تأمّلت هذه الفكرة خلال السنوات الأخيرة» 
وتردّدت طويلًا قبل أن أقتنع في الختام أن الوقت قد حان لهدم 
المخزن في المغرب» خاصّة أن المهيمنين عليه حوّلوه إلى متجر 
ضخم ”كل يخدم نفسه بيده“. وإن أدركوا الحاجة الملحّة إلى 
وب ا ا ا ا ا 
فيه بالاطمئنان ويساهموا في العمران المشترك. لم أشعر 
امد د ساح هه 
وشغف قويٌّ بمصيره. هذا يعني نظرًا لموقعي اليوم كما كان 
الأمر بالأمسء أن أساهم بطرح قراءتي للأوضاع, لأقول وأعيد 
على مسامع من يريد الإصغاء وبإلحاح أكبر على مسامع من لا 
يريد الاصغاء: ”هذا ما يستحقه المغرب“. وقد فعلت. 


14 18 
الفكر الجديد 


<جكر 


شكر وتقدير 


ما كان لهذا الكتاب أن يرى النور لولا جهود فريق العمل في دار 
نشر غراسيه الفرنسيّة. لقد أمدّني أوليفييه نورا الرئيس المدير العام 
باو المؤسه ماح تبه واتئع في الا يترع في الميخطود 
في الوقت المناسب ‏ جميع المؤلفين يعيشون هذه المعاناة 
ويشعرون بالارتياح بعد هذا الخلاص - أمّا الناشر كريستوف 
باتاي فحماسته معدية وهو ما فتئ يذكرني في أوقات الشدّة» أنَّ 
كتابي ليس حكرًا على المغاربة. أقدّم أيضًا شكري الخالص إلى 
أنييس نيفيبر التي أشرفت على إعداد النص بعناية بالغة. 

طوال المدّة التي استغرقها إنجاز هذا الكتاب وجدتٌُ إلى جانبي 
كلا من صديقي عبد الله حمودي وزميلي في جامعتئ برينستون 
وستانفورد» نبيل مولين. لم يبخلا أبدًا بوقتهما وملاحظاتهما 
وتفاعلهما الصريح والودّي مع ما أطرحه من أفكار وتساوؤلات, 


13 0 
الفكر الجديد 


<كجكر 


في جامعة ستانفورد وكذلك في مؤسسة مولاي هشام؛ كان 
دور شين يُومْ حاسمًا في مرحلة البحث. أخيرّاء فإِنّ الأرشيف 
المتراكم على مدى ثلاثين عامًا ما كان ذا فائدة لولا العمل الدقيق 
الذي أنجزه عبد الله الرضواني. 

في ستانفورد هناك مؤسسة لها علي فضل فكري كبيرء إنهًا مركز 
الديمقراطيّة والتنميّة وسيادة القانون (010181)» وهي تابعة 
لمعهد فريمان سبولي (551) وقد شجّعتني إدارتها ممئّلة في كل 
من لاري دايموند ومايكل ماكفول وكاثرين ستونر على المضي 
في مشروعي. أودٌ أن أنوّه تنويهًا خاصًا بلاري دايموند الذي 
أشرف على دراساتي في السلك الثالث وحتّني على المثابرة. 
من ججهة أخرىء فإِنّ النقاشات حول الشرق الأوسط وشمال 
أفريقيا التي دارت بيني وبين كل من ستيف كراسنر وعباس 
ميلاني وماري بيبر أولواء كانت مصدر إلهام خلال فترة اختمار 
الكتاب. أودّ أيضًا أن أعرب عن امتناني لموظفي إدارة المركز 
المذكور أعلاه» خصوصًا أودري ماك غوان وبرييانا دينه ويونغ 
لي وأليس كاداء ثم بليندا بيرن في معهد 757 وكاثرين كورنيفي 
في مؤسستي. أخيرًا وليس آخرًا هناك مايكل كيانكا الذي قام 
بعمل دوب على ”جبهات” متعدّدة خلال كل هذه السنوات. 
أعبّر أيضًا عن امتنان عميق لعميدة برينستون إيفا غوسمان» 
وريتشارد فوك ردايب همش ولوسيوين بارتر الذي كان له 
الفضل علىّ في دراسة العلوم السياسيّة. كما أن كلا من جورج 


هت 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


روسو هارولد كون ووليام بونيني أتاحوا لي الفرصة للانفتاح 
على حقول أكاديميّة أخرى استفاد هذا الكتاب من تشعبهاء 
تمامًا كما أن بصمة ما تناقشناه أنا وعبد السلام المغراوي خلال 
سنوات الدراسة» حاضرة في ثناياه. 

لدي ارتباط يمتدّ على مدى عشرين عامًا مع صحيفة لوموند 
دبلوماتيك الشهريّة» حيث يجمعنا التطلع إلى عالم عربي أكثر 
ديمقراطيّة. أودٌ هنا أن أشيد بالمهنيّة العالية وقوة القناعة التي 
يتميّز بها فريقها -- وأخصٌ بالذكر إغناسيو رامونيه والان 
غريش ودومينيك فيدال وسيرج حليمي. 

هناك مركزان فكريّان أغنّيًا مضمون هذا الكتاب» هما مؤسّسة 
مولاي هشام في برينستون ومعهد الدراسات العابرة للأقاليم 
حول الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا واسيا الوسطى» 
ومن ثم فإنْي مَدِينٌ إلى كل من ريمي لوفو ”الأب الروحي“ 
لمؤسّستي» ومدين أيضًا لأوليفييه روا وفرهاد كوسرو خافار 
وكذلك أعضاء لجنتها العلميّة» هنري لورانس وخديجة محسن 
فينان وبرنارد هيكل؛ وهذا الأخير هو في الوقت نفسه مدير 
المعهد في برينستون» فضلا عن العديد من الباحثين المغاربة 
أودّ أن أذكر منهم على وجه الخصوص المهدي لحلوء البشير 
الهسكوريء العربي بن عثمان» المعطي مونجيبء عبد الحقّ 
سرحان» يحيى اليحياوي وعبد اللطيف حسني. 

أخيراء فإنْ الفريق الذي أنجز أوّل فيلم وثائقي لصالح موسّستي 


ا 4 
الفكر الجديد 


<كجكر 


» 


مع بن ولين موزيس بعنوان “من الهمس إلى الزئير”» ساهم في 
شحذ تحليلاتي عن الشرق الأوسط» وخاصّة أمي مارتيميز. 
على مستوى المشاريع في مجال الطاقات المتجدّدة» فإِنّ من 
أول من صقل تجربتي المهنيّة التي أفادت كثيّرا هذا الكتاب 
وعرّزت استقلاليتي هم أمين بدر الدين الرئيس السابق لمجموعة 
أوفست الإماراتيّة وزملائي في شركة الطيّار للطاقة» بيت سميث 
ونايدة خالد أبو جبارة. كما أنّي استفدت مهيا من اللقاء مع كل 
من كمال الشاعر» حسيب الصباغ؛ سعيد خوريء فؤاد خوري»؛ 
عبد القادر بنصالح» وعثمان بنجلون الذي أعتبر ابنته دنيا مثل 
أختي. وأشكر كثيرًا مفتاحة دركو» عضو العائلة التي أشرفت 
على تربية أولادنا خاصة في اللحظات الحرجة من حياتي. 

لا أمير دون مستشارين ومساعدين. في هذا الصدد. يسعدني أن 
أعبّر عن امتناني وتنويهي بالكفاءات المتنوعة والغنيّة لكل من 
نعيمة درويش» محمد مصدّقء وفاء الأزرق» عتيقة السولامي» 
هند بنطلحة سعيد البوراري» محمد باسطوسء؛ محمد أمين 
الفيلالي وخاصّة سمير أكومي» الذي يشرّفني بصداقته. كما أعبّر 
عن الامتنان للمحامين كلارنس بيتر وجيمس شو وبول لومبارد 
وآلان فينيون وعلي الصقلي وعبد الرحيم يرّادة» وهذا الأخير هو 
من آزرني لما وقفت لأول مرّة أمام محكمة في المغرب. 

أخيرًا وبما أن فكرة تدوين هذه الشهادة خطرت على سرير 
المستشفى» وما كانت لتدوّن لولا مهارتهم, فإني أتوجّه بالشكر 


يلت 0 
الفكر الجديد 


<جكر 


الخالص إلى أطبّائي أندرو كوستين» هوارد هيرمان» جو بافارياء 
رومان دي سانكتيس وجينو نازارو في الولايات المتّحدة» ثم في 
المغرب حميد العلوي وتوفيق المسفيوي. 

ما أجمل نعمة الصداقة» وهي مادّة هذا الكتاب الأولى. لقد أنعم 
المقام إلى تفصيلها خشية التقصير» فليسمح لي هؤلاء أن أكتفيّ 
بذكر أسمائهم هناء عربونا على الشكر والاعتراف بالجميل: 
المرحوم أحمد مزالي» عبد الرحمن الكوهنء عمر القادري 
وزوجته ماماء محمد جنان» رشيد بن عبد اللهء هادي بارازي 
ومولاي سليمان العلوي. أما بيبر أزولاي وفاضل عراقي وخالد 
الجامعي» فقد تكرّموا علىّ بأرقى ما في العلاقات الإنسانية من 
معان» إِنْها مواقف التضامن والمُّؤازرة في أوقات الشدّة. أخيرًا 
لا بد أن أذكر دفء العلاقات الودّيّة التي جمعتني وأسرتي في 
وبروب وكاليري وكيتينغ و بنتسن وميرل. 

إن عائلتي الصغيرة حاضرة في قلب هذا العمل المكتوب 
كحضورها في شغاف الفؤاد وفي كل لحظات الحياة التي 
أعيشهاء ولذلك فإِنَ زوجتي مليكة وبتتينا فايزة وهاجر يُوقعْن 
هذا الكتاب من خلالي. أختي للا زينب هي نور حياتيء أما ابنة 
خالتي فايزة الصلح» فأحسن ما أقول في حقها إِنْها بنت أمّها 
علياء. لا بدّ أيضًا أن أعبّر عن امتناني العميق لأخت زوجتي من 


1/0 4 
الفكر الجدي 


<كجكر 


الأم» خديجة بنهيمة وزوجها عمر السلاوي» وكذلك لصهري 
ترح كاتا السباتن 

تظل كلمات الشكر هذه غير كافية ولا شاملة. ولذلك أعتذر 
مسبقا إلى كل من لم تتح لي الفرصة لذكر أسمائهم. كما لا 
أستطيع أن أختم دون التعبير عن الشكر لجميع المغاربة الذين 
عبّروالي عن محبّتهم طوال حياتي دون أن يسعوا للظهور» ومنهم 
من غامر وخاطر بشجاعة في ظروف قاسية. لا بِدّ أن أذكر على 
وجه الخصوص ياسمينة العسري في الأمم المتّحدة» وصديقي 
محمد العمّار بائع السمك في المحمّدية الذي سمّى أحد أبنائه 
هشام. أقولها بكل بساطة. إن المغاربة بدون تمييز ولا استثناء هم 
أبطال هذا الكتاب الحقيقيّون. 


غرف 1 
الفكر الجديد 


<كجكر 


لم يخشَ مولاي هشام العلويّ ‏ ابن مولاي عبد الله بكر محمّد الخامس أُوّل ملوك 
المملكة المغربيّة بعد الاستقلال ‏ يومًا الإفصاح عن آرائه. 

فبعد أن أمضى طفولته الأولى في المدرسة المولويّة» مدرسة:القصرء سأل والده 
الانتقال إلى المدرسة الأميركيّة» ومنها إلى إحدى كبريات الجامعات الأميركيّة 
العريقة: برينستون . 

نشأ مولاي هشام في رحم دار المُلك, فعرف قصورها ودهاليزها ورأى مالم يُتَح 
لكثيرين سواه مشاهدته والاطلاع عليه من أسرارٍ وتفاصيل لا يبخل على قرّاء 
كتابه هذا بسردها والتعليق عليهاء بظرف تارةٌ ومرارة مرّات أخرى. 

من أوّل عهده بالتدخّل كتابةٌ في الشأن العام» جاهر مولاي هشام بوجهات نظره 
ونشرها على الملا في شهريّة لو موند ديبلوماتيك المعروفة بمواقفها التقدّميّة. فصّئف 
منذ ذلك الحين في خانة المعارضين الخطرين رغم تأكيده المرّة تلو المرّة على قناعته 
أن الملكيّة البرلمانيّة هي النظام السياسي الكفيل بأن يُعيد المغرب إلى المغاربة وبأن 
يُغلِق المخزنٌ معقل الاستبداد. 

يكتب مولاي هشام سيرته بصراحة لم تعهدها البلاطات العربيّة وبرؤية ثاقبة تطمح 
لبناء عا عرق أكثر رخاءً وإنسانيّة. 


١ 9‏ الفكر الجديد 
5 2_7 | - 3 2 
مَولايَ هيا / ِجَاويٌ 16-02-17 
هشام بن عبد الله العلويّ هو ابن عمّ محمّد السادس ملك المغرب الحالي. 
وُلِدَ وترعرع في الرباط جوار والده مولاي عبد الله 0 الأميرة لمياء رياض الصلح. 
درس وزع من عضي برينستون رفيو ا سن مشروع د 


15811 978-9953- | -098-1 


10051 اانا